حديث عابر حول الكتابة..وشقاء الكاتب

أمد/ قد لا أجانب الصواب إذا قلت،ما من كاتب يذهب إلى الكتابة بإرادته،هي تأتيه بنفسها،مرة سلسة وطيّعة تنضح بالغواية،تضع الكاتب في سعادة ورضى مع النفس.ومرة أخرى صعبة وقاسية ومتمنعة،تضعه في معاناة حقيقية وتقيم داخله أعراساً من القلق.
وكي أكون صريحا مع القراء أقول : أؤمن أن في رحلة الكتابة ( مقالات،مقاربات نقدية،دراسات سوسيولوجية،قصائد إلخ ) يجب أن يصنع الكاتب الإلهام لا أن يبحث عنه،والكتابة بالعموم مثلها مثل بقية الأعمال العظيمة،حجمًا ومعنىً،تستفز في الإنسان شعورا سلبيا مرتبطا بالكسل أو الخوف.الكسل من حجم المهمة والخوف من أنك بعد كل هذا الجهد الجهيد ستكتب عملًا لا يرقى إلى مستوى الذائقة الفنية للمتلقي..!
ولكني في كل الحالات أحب الكتابة،وهذا شيء لا أرى بدا من التصريح به قبل تصريحي الأكثر جدلًا وهو أن الكتابة معاناة ومثقلة بالوجع.وهي ليستنزهة في حدائق الإبداع،ولا الاستماع لأغنية تحبها،ولا حتى قراءة كتاب عثرت عليه صدفة بإحدى المكتبات بشارع الرشيد ببغداد..
الكتابة شيء أصعب ومختلف،شيء له علاقة بالاختلاق والابتكار والتشكيل.
في معظم الأحيان وخلال صياغتي لمقال مثلا،أتوارى خلف السطور محاولا بجهد جهيد التوقف عن الدوران حول نفسي،ومتجردا تماما من ال ” أنا” بمعنى أني أتجنب قدر الإمكان استخدام الضمير المنفصل،والأنغماس كليا في النص..
فبمجرد أن يضع الكاتب نفسه في النص،فإنه يغامر بقبول فكرته لدى القارئ،فحتى تُقبل هذه الفكرة يجب أن يكون هو بذاته محبوبا ومقبولا ومصدّقا لدى الناس،وإلا فإنهم يرفضون فكرته لمجرد أنهم رأوه فيها،فيذهب النص بالتالي بكلماته وبما تضمنه من إبداع باهر ..زبدا وطواحين ريح..!
ولكن..
الصرامة في انتهاج الموضوعية والحرصَ على الانسحاب من النص لا يعني أننا لسنا موجودين فيما نكتب،فهذا أمر يصعب تجنبه تماما،وهناك دوما في لب أي نص جزء منا،حتى في هذا النص نفسه! وفي قلب كل مقال موضوعي هناك شعور صرف لا يخضع للمنطق،ووراء كل تدوينة عقلانية هناك صرخة ألم أو نداء استغاثة أحكمنا كتمهما..حتى لا “نتعرى أمام القارئ..!
وهذا يعني أنالكاتب المتمرسوالمتسم بالمسؤولية
الضميرية،يعرف تماما كيف يجرد المقال عن أي ميل ذاتي،ليتحرى أكثر درجات الموضوعية حتى لو خالفت هواه،أو يحول صرخته الشخصية إلى همسة ناعمة تؤثر من أجل الجميع لا من أجله،أو يؤجل الحديث عن همومه الخاصة من أجل تناول قضايا أخرى يراها بعين عقله أكثر إلحاحا وأهمية.
قبل ستة عقود كتب ألبير كامو* «إن دور الكاتب لا يخلو من المهام الصعبة.ولا يستطيع أن يضع نفسه اليوم في خدمة أولئك الذين يصنعون التاريخ،فهو في خدمة أولئك الذين يعانون من التاريخ.» يرى كامو في الكتابة ليس فقط مواساة لحظية أو شخصية لمن يعانون في لحظة ما،بل إنه يرى فيها مواساة للتاريخ،تاريخ المهمشين والضعفاء،تصبح الكتابة هنا صوت من لا صوت له،صوت لأولئك الذين عانوا ويعانون من سويداء قلوبهم ولم يسمع بهم أحد.الكتابة بهذا التصور هى صوت المنسيين. ضحايا التاريخ الذي لا يحترم إلا الأقوياء..!
على سبيل الخاتمة
لطالما جلبت ليمقالاتيعبر أربعة عقود ونيف الكثير من سخط القراء،ولكني،وفي سبيل الأفكار الجديدة وغير
المألوفة ،تحملتبصبر الأنبياءهذا السخط بنفس راضية،ونجحت نسبيافي تجاوز بعض الإساءات بصدر رحب،فنحن الكُتّابُ نقتحم بيوت الناس أحيانا ونلقي في وجوههم على حين غرة أفكارا تخالف قناعاتهم الراسخة،وتقض مضاجعهم،وتصيبهم بالذعر،لذا لا أقلَّ من أن نتفهم غضبهم وتخوفهم،مهما قسوا علينا بكلامهم.لأن رد الإساءة بالإساءة،أو إهانة الناس،سيجعلنا نخسر ما نبذل من أجله كل ما نبذل،ألا وهو فرصة عرض أفكارنا على من لا يؤمنون بها،عساها تلقى يوما أذنا لديهم.أما أَعراضنا وكراماتنا الشخصية وحقنا في الرد فهي أمور يجب أن نتصدق بها على الناس إخلاصا للفكرة والتماسا للأجر وتحملا للمشقة في سبيل ما نؤمن به،وهي ضريبة لا بد من دفعها،إلى أن يصل الكاتب إلى المرحلة التي لا تترك فيها تعليقات لاذعة،ومنفلتة من العقال في نفسه أكثر مما يدعو لابتسامة.
وأرجوأن أكون قد أوضحت لكتابنا الشباب كيفية اقتحام عالم الكتابة بإستخدام سلاح العقل وبالإرتكاز على وتد الإبداع،وبمنأى عن العواطف والنرجسية،دون الالتفات لمن في عقولهم أورام الحقد والضغينة..!
*ألبير كامو (بالفرنسية: Albert Camus) (7 نوفمبر 19134 جانفي/ يناير 1960) فيلسوف عبثي وكاتب مسرحي وروائي فرنسي.