اخر الاخبار

النسيج المجتمعي بين الوهم والحقيقة: أزمة الوعي في غزة والضفة

أمد/ في المجتمعات التي تعاني من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غالبًا ما يتشكل وعي جماعي يتسم بالضبابية، حيث يصبح التمييز بين الصواب والخطأ عملية معقدة بسبب التداخل الكبير بين المصالح الفردية والجماعية. في غزة والضفة، يبدو أن المجتمع يعاني من حالة “سرطان” فكري واجتماعي، تفشى عبر العقود حتى أصبح جزءًا من الثقافة اليومية. المشكلة لا تكمن فقط في القمع السياسي أو الظروف الاقتصادية الصعبة، بل في عدم وجود رؤية واضحة لدى الناس حول مستقبلهم، مما يجعلهم يتخبطون بين التيارات المختلفة دون إدراك لما يريدونه حقًا.

فقدان الرؤية وصناعة الوهم

من أخطر ما يواجه المجتمع هو فقدان الرؤية الصحيحة، حيث يعتقد كل فرد أو جماعة أنهم على صواب، وأن الآخرين مخطئون. هذه العقلية الإقصائية تعزز الانقسام الداخلي وتمنع أي حوار بناء يمكن أن يقود إلى حلول حقيقية. في ظل هذه الظروف، يصبح من السهل توجيه الناس عبر الشعارات الرنانة والخطابات العاطفية، دون أن يتساءلوا عن حقيقتها أو نتائجها على المدى البعيد.

إلى جانب ذلك، فإن المجتمع نفسه أصبح بيئة طاردة للأفكار الجديدة، حيث يُنظر إلى أي محاولة للخروج عن السائد بعين الريبة والشك. وبدلًا من تشجيع التفكير النقدي، يتم تكريس ثقافة الطاعة العمياء والمجاملات الكاذبة، مما يعزز حالة الركود ويجعل التغيير شبه مستحيل.

الخوف وأثره على المجتمع

في أي مجتمع يعاني من السيطرة الفكرية، يكون الخوف من التعبير عن الرأي عائقًا رئيسيًا أمام التغيير. في غزة والضفة، نجد أن كثيرًا من الناس يخشون الإفصاح عن آرائهم الحقيقية، ليس فقط خوفًا من السلطات، ولكن أيضًا خوفًا من ردود فعل المجتمع نفسه، حيث يمكن أن يتحول النقد إلى وصمة اجتماعية أو حتى إلى خطر حقيقي على حياة الفرد.

هذا الخوف لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة لعقود من القمع، سواء كان ذلك عبر الأدوات السياسية أو الثقافية. فهناك قوة خفية تفرض على الناس أن يسيروا في خط معين، دون أن يتجرأوا على مساءلته. لذلك، نجد أن العديد من العائلات والأفراد يختارون الصمت أو التأقلم مع الواقع، حتى لو كان ذلك يعني المساهمة في استمرار الفساد والنفاق المجتمعي.

النفاق المجتمعي: حاجز أمام التغيير

أحد أخطر الأمراض التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني اليوم هو النفاق المجتمعي، حيث يقول الناس شيئًا ويفعلون عكسه، ليس لأنهم مقتنعون بذلك، ولكن لأنهم يخشون المواجهة. هذا النوع من السلوك يؤدي إلى حالة من الانفصام الجماعي، حيث يعتقد كل فرد أنه مضطر للمجاملة والنفاق حتى لا يكون خارج السرب.

على سبيل المثال، نجد أن كثيرًا من الناس يرفضون سلوكيات معينة في السر، لكنهم يدعمونها في العلن خوفًا من العواقب. هذا التناقض لا يؤدي إلا إلى تعقيد المشاكل، حيث يصبح من المستحيل التمييز بين الحقيقة والوهم. والأسوأ من ذلك، أن هذا النفاق يخلق بيئة تُكافئ الانتهازية وتُقصي أصحاب المبادئ، مما يجعل التغيير الإيجابي أكثر صعوبة.

هنا أطرح تساؤلاً: متى يبدأ التغيير؟

التغيير الحقيقي لا يبدأ من القادة أو الحكومات، بل من الأفراد أنفسهم. عندما يقرر كل شخص أن يتحرر من القيود الفكرية والاجتماعية التي فرضت عليه، وعندما يتوقف عن المجاملات الكاذبة ويتبنى الصدق في مواقفه، عندها فقط يمكن أن يحدث تحول حقيقي.

لكن هذا يتطلب شجاعة كبيرة، لأن مواجهة المجتمع قد تكون أصعب من مواجهة السلطات نفسها. فالمجتمع الذي تعود على المجاملة والخضوع لن يقبل بسهولة بفكرة النقد الذاتي أو المحاسبة الفردية. ومع ذلك، فإن التغيير لا يأتي دفعة واحدة، بل هو عملية تراكمية تبدأ بخطوات صغيرة لكنها حاسمة.

لن ينجح أي مجتمع في التقدم طالما أنه يغرق في مستنقع النفاق والخوف. إذا أراد الناس حقًا مستقبلًا أفضل، فعليهم أولًا أن يسألوا أنفسهم: هل نحن مستعدون لقول الحقيقة؟ هل نحن مستعدون للتخلي عن المجاملات الكاذبة ومواجهة الواقع كما هو؟

إذا لم يحدث ذلك، فسيظل المجتمع عالقًا في دوامة لا نهائية من التكرار، حيث تتغير الوجوه لكن تبقى المشكلة نفسها. التغيير يبدأ من الداخل، من شجاعة كل فرد في اتخاذ موقف، حتى لو كان ذلك يعني الوقوف وحده في البداية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *