جدلية الهامش والمركز علي ضوء التغيرات في بنية السلطة وقوي الهيمنة

احمد داوود
مقدمة
في سفره ذائع الصيت ” جدل الهامش والمركز .. قراءة جديدة لدفاتر الصراع في السودان ” يقدم ابكر ادم إسماعيل وعلي غير المالوف بمنطق ووعي عصره رؤية مغايرة وجديدة لطبيعة الصراع في السودان منفكة من تأثير وهيمنة الآيدلوجيات الوافدة “١”. مساهما بذلك مع آخرين في وضع الأساس النظري للمناظير الثقافية في السودان.
يعرف ابكر الثقافة بانها الكل الشامل الذي يشمل العادات و التقاليد والاقتصاد والدين .
وعلي عكس الماركسية التي تؤسس للممايزة والفصل بين البنيات والمجالات يتعامل د/ ابكر مع المجتمع كبنية كلية . مزيلا الحواجز بين ما هو ثقافي وما هو اقتصادي ليصبح وفق هذا المنطق الاقتصاد عنصر من عناصر الثقافة .
بعد الإنتهاء من تثبيت هذه النقطة ولتحليل أسباب الصراع ينطلق ابكر من فرضية بسيطة تصنف الواقع والمجتمعات السودانية في خانة ما يصطلح عليها المجتمعات ما قبل رأسمالية / برجوازية ؛ وهي مجتمعات تستند بشكل أساسي علي علاقات القرابة و الدم.
يري ابكر “٢” انه في مجتمعات كهذه عندما يتم جمع كيانات متفاوتة ومتمايزة تاريخيا داخل حقل كلية “دولة” فسوف تقوم الجماعة الأكثر تفوقا وتطورا باخضاع الجماعات الأخري وفرض قيمها وانماطها.
و لإثبات هذه الفرضية يقوم إسماعيل و عبر عمل دؤؤب باستدعاء التاريخ واستنطاقه للتاشير لهوية الجماعة المهيمنة التي يصك لها تعريف :” الجماعة الاسلاموعروبية ” .
يقول ابكر ان هذه الجماعة التي تنتمي لفضاء الوسط و الشمال كانت الأكثر تاهيلا لوراثة جهاز الدولة.”٣”.
فقد كانت نتاج حضارة و دول نشات علي ضفاف النيل و بالتالي أهلها هذا لان تتعاون مع الاستعمار سواء كان التركي أو الانجليزي ومن ثم تورث جهاز الدولة .
و ما ان ورثت هذا الجهاز حتي وظفته كأداة لخلق الامتياز و السلطة و سلاح لقمع وردع الجماعات الأخري.
فيما استغلت وجودها علي راس الدولة لتفرض ثقافتها الاسلاموعروبية وقيمها ونمط حياتها.
تسعي هذه الورقة الي تقديم قراءة جديدة لمشروع ابكر ، مستندة في ذلك علي فرضيته الأساسية حول المجتمعات ما قبل الرأسمالية ، وعلي ضوء التغيرات التي حدثت في تركيبة السلطة في السودان منذ الإستقلال وحتي اللحظة .
لماذا جدل الهامش و المركز؟
تعتبر نظرية الهامش والمركز من نظريات الصراع التي تفترض ان التطور نتاج الصراع وليس التعاون كما يزعم آخرون.
يمكن تقسيم نظريات الصراع الي قسمين . مادية كالنظرية الماركسية التي تعلن ان العنف قابلة التاريخ وان الصراع هو بالاساس مادي يتمحور حول الانتاج و التوزيع . ولكي يسير المجتمع الي الأمام ، من حالة التوحش الراسمالية الي رحاب الإشتراكية ؛ يجب أن تقوم البرولتاريا بالاطاحة الثورية بسلطة البرجوازية و تأسيس الدولة الإشتراكية التي تؤسس للعدالة و المساواة.
الثانية هي المدرسة المثالية التي تفترض ان الصراع هو صراع أفكار ووعي “٤”.
رغم التأييد والانتشار الواسع الذي وجدته الا ان النظرية لم تحظ بعمل نقدي جذري و شامل يطهرها مما علق بها من شوائب.
اهتمت الأعمال النقدية القليلة التي كتبت عن الجدلية ببعض الجوانب في حين انها اهملت جوانب اخري اكثر اهمية رأينا ان نتطرق لها في هذه الورقة .
من ضمن الجوانب التي لم نوليها كثير اهتمام ، مسألة تعامل ابكر في جدليته مع مفهومي المركز و الهامش ككتل منسجمة دون وضع الاعتبار للتناقضات الكبيرة في بينتهما الداخلية وهو ما تطرق له الكاتب الماركسي تاج السر عثمان “٥”. بحيث أكد انه حتي داخل المركز الواحد ثمة تناقضات داخلية . بالتالي عدم وضع هذه التناقضات في الاعتبار قد يقود الي فهم خاطيء لجوهر الأزمة.
مسألة اخري آثرنا عدم التطرق لها هي مسألة تحديد شكل ممارسة السلطة عبر ثقافة الفرد .
بمعني ان شكل ممارستك للسلطة يتحدد بناءا علي وعيك الثقافي. هذه الفرضية ترتكز علي تقسيم مخل للثقافات. بحيث تري مثلا ان هنالك ثقافات بطرياركية او عبودية و اخري غير ذلك .
وفق هذا المنطق لو كنت مثلا تنحدر من مجتمع ذو وعي و ثقافة بطرياركية او عبودية فان ممارستك للسلطة تكون عبودية أو بطرياركية.
هذا منطق اعوج ، لأنه يتعامل مع الثقافة و الوعي الثقافي كشيء منغلق و ثابت .
بحيث تفترض ان العرب مثلا او الأفارقة أو النوبة او الزغاوة هم عرب و افارقة و نوبة و زغاوة في اي مكان و زمان . يمتلكون نمط تفكير واحد و ذائقة واحدة ..إلخ.
تتجاهل هذه المزاعم المحددات الأخري لاشكال ممارسة السلطة .
هنالك موقفين من النظرية . الأول رافض بشكل كلي ، و الثاني داعم بشكل مطلق .
خلافنا مع أصحاب الموقف الأول يدور حول عدة نقاط وفي حين انهم يتعاملون مع النظرية بوصفها منبتة و منفصلة عن الواقع ، نحن نراها ككل النظريات بنت الواقع .
عليه مالم يكن هنالك واقع متمركز عرقيا و ثقافيا ، فلن تكن هنالك من الاساس نظرية تزعم ذلك .
جدل الهامش و المركز هي توصيف لواقع سابق حتي علي التوصيف بالتالي لو ان هنالك ثمة اي إدانة فالصحيح توجيهها للواقع و ليس الي التوصيف .
لهذا قلنا ان التوصيف صحيح علي الاقل لو تم اسقاطه علي لحظة تاريخية محددة من تاريخ البلاد . لكنه يصبح خاطئا حين يسقط بكلياته علي سياق و لحظة اخري .
ذلك هو ما دعانا الي القول اننا لا نرفضها كلها و بمنطق جملة و تفصيلا مثلما يفعل الرافضين و لم نقبلها هكذا دون نقد كما يفعل انصارها وهو جوهر خلافنا معهم .
لهذا قمنا بتقديم قراءة جديدة لها ، أولا لنزع القدسية عنها و ثانيا لتفنيد الموقف التجريمي و المدين .
من الجماعة الي النظام
يرتكز مشروع ابكر علي فرضتين اساسيتان:_
١_ المجتمعات السودانية مجتمعات ما قبل راسمالية
٢_في مجتمعات كهذه عندما نجمع كيانات متفاوتة و متمايزة داحل حقل كلية ” دولة” فإنه من الطبيعي ان تقوم جماعة ما _ الأكثر تفوقا بالضرورة _ باختطاف الدولة و من ثم اخضاع الجماعات الأخري.
ما معني مجتمع ما قبل رأسمالي؟
هو نوع من المجتمعات تسوده شكل من أشكال علاقات العمل و الانتماء و التنظيم السياسي الخاضعة لمعايير القرابة و الدم. وجود مثل هذا المجتمع يفترض بالضرورة وجود واقع/نظام ما قبل رأسمالي.
رأسمالي في ” ما قبل رأسمالي ” المشتقة من كلمة راسمالية وفق السياق السابق هي ليست مجرد نظام اقتصادي و انما إحالة لعملية و حراك شامل فكك علاقات القرابة و الدم ليؤسس بذلك لشكل جديد من العلاقات الاجتماعية و أشكال الاجتماع و الاصطفاف و التنظيم السياسي القائمة علي اساس المصالح في فضاء متعدد .
بهذا المعني تصبح ” الرأسمالية ” في ” مجتمعات ما قبل راسمالية ” مرادفة للحداثة ، مجتمع ما قبل رأسمالي اي مجتمع ما قبل حديث.
هنالك جدل حول جذور هذا الحراك و الشروط التاريخية و الاجتماعية التي انتجته . ففي حين ينحو المؤرخ الأوربي الي اوربة الحراك و ربطه بالثورة البرجوازية التي اطاحت بالاقطاع و أسست النظام الراسمالي الحديث، يري آخرون ان جذور هذا الحراك تعود الي عصور ما قبل صعود البرجوازية و الرأسمالية “٦”.
علي اي حال ليس ما يعنينا هنا هو جذور الحراك و انما النتائج التي قادت اليه :
١_ الانتقال من القبيلة/ الحاكورة الي الدولة و وعيها.
٢ _ ومن علاقات الاجتماع و التنظيم الخاضعة للعرق و الدم الي علاقات اكثر حداثة تستند علي المكان و المهنة و المصالح .
اذن للانطلاق الي الامام و المضي في التحليل يتعين علينا التسليم بالاتي :
١_ نحن مجتمعات ما قبل حديثة . غير حديثة ليست إحالة الي التقليد و البدائية . ما قبل حديثة بمعني انها ما زالت وشائجية . لكن هل خضوع البشر لعلاقات القرابة هو بالضرورة دليل علي عدم الانتقال للحداثة؟ هذا سؤال سوف نخصص له كتابات اخري .
٢_وجود مجتمع غير حديث دليل علي وجود واقع/نظام ما قبل حديث/ أو ما قبل راسمالي بتعبير ابكر وهو واقع كما اوضحنا سابقا يرتكز علي الانتماءات الأولية.
هذه الحقائق تؤكد مسالة بغاية الاهمية وهي انه لفهم جذور الصراع في مثل هذه السياقات فالمدخل الصحيح ليس نقد و تحليل بنية و ثقافة القوي المهيمنة الذي انتجها النظام و انما تحليل النظام الذي ينتج الهيمنة لان الأزمة ليست في الجماعة/ القوي التي هي مجرد مظهر من مظاهرها . الأزمة في الحقيقة متجذرة في بنية النظام/الواقع.
هذا هو خطأ د/ ابكر حسب رأينا. فهو عوضا عن مسائلة و نقد النظام الذي ينتج هذا النوع من أشكال الاجتماع و التنظيم التي تولد الهيمنة و الاخضاع و محاولة فهم طريقة عمله و جذوره ؛ اهتم بنقد الجماعة المهيمنة مركزا علي ثقافتها و وعيها محاولا استقصاء جذور الصراعات في السودان و اشكالات التوزيع .
قاد هذا الي إنتاج حل للمشكلة من داخل نسقها . اي لتفكيك علاقات التمركز ، نحن بحاجة الي تأسيس تمركز مضاد.
اية حل لمشكلة هو بالضرورة مستنبط من تعريفنا لهذه المشكلة . وبما ان ابكر قدم تعريف للمشكلة بوصفها تمركز عرقي/ديني فليس مستغربا اذا ما اعتقدت بعض نخب الهامش التي تفتقر لأدوات التحليل ان تفكيك هذا التمركز يكون عبر تأسيس تمركز مضاد و هو ما حدث بالضبط بحيث أسست كتير من القوي المناهضة بنيتها و خطابها الداخلي علي هذا الأساس.
المسألة بسيطة للغاية . لو انك جمعت كيانات ما قبل حديثة داخل دولة حديثة فالطبيعي ان تقوم الجماعة الاقوي و الأكثر تطورا باخضاع الجماعات الأخري. هذا أمر بديهي .
ذلك ليس لان ثمة خلل فطري في الجماعة و لا لان ثقافتها اقصائية وانما لان بنية هذا الواقع/ النظام هو بالاساس مصمم لهذا الشكل من العلاقات التناحرية.
واقع ما قبل حديث لن يفضي إطلاقا الي إنتاج شكل ممارسة و اجتماع وتنظيم حديث وفق الصيغة الرأسمالية التي أنجزت هذا الانتقال .
بالتالي لو اننا استبدلنا الجماعة المهيمنة باخري سوف تظل أسباب و شروط الحروب و الصراعات موجود وطالما أن هذه الجماعة هي ابنة هذا الواقع المشوه و ما قبل الحديث. جنوب السودان افضل مثال لما نقول .
هذا الكلام مزعج و منفر للغاية لانه سوف يفضي الي تحطيم الكثير من المسلمات و يقلب المفاهيم رأسا علي عقب ويعيد طرح الأسئلة والقضايا المسكوت عنها .
طالما أن الأزمة تكمن في النظام الذي يولد هذا النوع من أشكال الاجتماع والتنظيم السياسي ، فإن الاطاحة بالجماعة المهيمنة لن يفضي الي وضع حل جذري للصراعات و الحروب؟ هذا ما يمكن أن يفهم من تحليلنا منذ الوهلة الاولي .
ذلك ليس المقصود بالطبع . هي ليست دعوة للابقاء علي قوي الهيمنة بقدر ما هي محاولة للتأكيد انه حتي لو تم الاطاحة بقوي الهيمنة ، فتظل بني الهيمنة متواجدة طالما وجدت شروطها. بالتالي استمرار الحروب والصراعات .
اذن مهام الباحث الاشتغال علي نقد النظام و فهمه . وهذا ما سوف نقوم به .
عن الجذور الاجتماعية للقوي المهيمنة
قلنا ان د/ ابكر بدأ نظريته بفرضية بسيطة وهي انه في واقع ما قبل رأسمالي لو قمنا بجمع كيانات متمايزة و متفاوتة تاريخيا داخل فضاء الدولة الحديثة فسوف تقوم جماعة ما بالهيمنة علي الدولة واخضاع الجماعات الأخري.
وعبر استدعاء التاريخ و استنطاقه اثبت ان هذه الجماعة هي الاسلاموعروبية. نحن نتفق مع ما قاله ابكر علي الاقل في وقت ما من تاريخ الدولة السودانية لكن نختلف معه في ان هذه المقدمات لو تم إسقاطها علي لحظة وشروط تاريخية مغايرة لافضت الي نتائج خاطئة .
هنالك جدل كثيف يدور حول مفهوم الدولة وطبيعته . ففي حين يري الليبراليين ان الدولة عبارة عن فضاء تتصارع حوله جماعات مصالح متعددة يقول الماركسيون انها مجرد أداة في يد طبقة معينة “٧” .
ولأن ابكر كان متأثرا بماركس فقد افترض انها دولة جماعة وهي الجماعة الاسلاموعروبية التي تنتمي الي فضاء الوسط والشمال. “٨”
نحن نقر بصحة هذا التحليل لو اسقطناه علي واقع السودان عشية الاستقلال وحتي في لحظة ما من حقبة الإنقاذ.
لقد كانت الدولة آنذاك خاضعة بشكل كامل لهيمنة الجماعة الاسلاموعروبية ، و بصفة خاصة بعد الاستقلال . فمن بين “٨٠٠” وظيفة اخلاها الاستعمار لم يحظ الجنوب مثلا الا ب” ٤” فقط . “٩” لفهم اكثر انظر أيضا “الكتاب الأسود اختلال ميزان السلطة و الثروة ” . . لكن مع اشتداد الصراع الاجتماعي وتاثيره علي موازين القوي ونتائجه المتمثلة في عمليات الصعود والهبوط فقد تحولت الدولة لفضاء خاضع لتحالف ما نسميه هنا بجماعات الهوية التطور الطبيعي لتحالفات العشائر والقبائل في سلطنات ما قبل السودان الحديث.
صحيح ان الجماعة الاسلاموعروبية كانت علي الدوام علي قمة هرم الهيمنة . لكن عند تحليل بنية النظام سوف نتوصل الي ان النظام هنا ليس سوي تحالف بين جماعات هوية ان لم يكن في قمته فعلي الأقل علي مستوي الحكومات الإقليمية و المحلية التي ظلت توفر السند الشعبي و الأمني للنظام .
الدولة ليست مجرد حقائب و مناصب علي راس الجهاز التنفيذي . انها بناء متكامل يشمل حتي المؤسسات والحكومات المحلية و الإقليمية. و بالتالي لن يحتفظ رأس النظام بوجوده مالم يحظي بالسند و الدعم الشعبي من جماعات الهوية العشائرية و القبلية علي مستوي الأقاليم و الولايات.
بعد الاستقلال وصل هيمنة الجماعة الاسلاموعروبية علي الدولة اعلي مستوياته . فقد كانت تصدر حتي حكام الولايات. حيث كان حكام حتي ابعد الولايات في السودان ينحدرون من هذه الجماعة . لكن في مرحلة ما من تاريخ الدولة السودانية اضطرت الجماعة و بفعل الصراع الاجتماعي ” ١٠” ان تنسج تحالفات مع جماعات هوية عشائرية و قبلية حتي تحتفظ بموقعها المهيمن .
و قد استعانت حكومة الصادق المهدي في الثمانينات بجماعة هوية من الكيانات العربية في حزام البقارة و الابالة في كردفان و دارفور. ولاول مرة يتولي وزارة الدفاع اشخاص من هذه المناطق. أما في أواخر عهد البشير فقد تحالفت جماعات الهوية الاسلاموعروبية مع جماعات هوية بقيادة حميدتي. بعد ١٥ ابريل تسعي الدولة الي مغازلة جماعات هوية افريقية تسيطر علي بعض حركات الكفاح المسلح .
نحن نعتقد ان أبرز اخطاء د/ ابكر هو عدم اشتغاله علي تطوير نظريته بحيث تستوعب التحولات التي حدثت في بنية الدولة منذ الإستقلال و حتي اللحظة . لانه لو حدث ذلك لتمكن من ملاحظة انه حتي لو تم إسقاط هذه الجماعة فإن ذلك لن يفضي الي تفكيك هذا النظام المولد لهذا النوع من العلاقات الاجتماعية و التنظيمية الخاضعة للانتماءات الأولية.
ما هي جماعات الهوية ؟
بالنسبة لنا هي عبارة عن تجمعات منظمة علي اساس الانتماءات الأولية تستخدم الأحزاب و حركات المقاومة و منظمات المجتمع المدني كواجهات لتهريب مصالحها و اجندتها.
هم ليسوا أحزاب و لكنهم يتبون ايدلوجيات و برامج سياسية . كما انهم ليسوا قبائل أو عشائر لكنهم يمتلكون القدرة علي حشدها و التأثير علي خيارتها .
هي تقوم بوظيفة الحزب و جماعات الضغط و منظمات المجتمع المدني. انهم يوظفون الايدلوجيا و العرق لمصالحهم السياسية. لا يمتلكون خطابا ثابتا . و علي الأرجح هم ينتجون خطابهم حسب مستوي و حجم و شكل التهديد الذي يواجههم دون التورع عن الاستثمار في العرق و الدين و الثقافة و القبيلة و المخاوف .
و اوضح مثال للاستثمار في المخاوف نجده في الصراع الذي نشب بين الاتحاديين و حزب الأمة لكسب الجنوب. بحيث أنتج حزب الأمة خطابا سياسيا يقول للجنوبيين ان الاتحاديين هم اسلاف تجار الرقيق و بالتالي التحالف معهم يعني احياء ارث الرق بينما زعم حزب الأمة أن الاتحاديين هم الجلابة الذين تعاونوا مع الاتراك و انهم سوف يبيعونهم مرة اخري كما فعل الجلابة “١١”.
بعد حرب ١٥ ابريل و علي خلفية بلوغ الاستقطاب الاجتماعي لاعلي مستوياته أنتج جماعات الهوية الموالية للدعم السريع خطاب “٥٦” الذي يوصم مجتمعات الشمال ب ” أحفاد المصريين و الاتراك ” بينما أنتج قوميي الشمال المتطرفيين خطاب ينزع الجنسية من عرب الغرب و يصفهم بعربان الشتات “١٢” .
في الولايات النائية تستطيع هذه الجماعات ان تؤثر حتي علي سياسات السلطة الاتحادية و ترغمها علي تبني سياسات تدعم مصالح قواعدها كأن تقوم بعزل وال أو تعين اخر .
في دارفور مثلا نجحت هذه الجماعات التي تحالفت قبل اليوم في التأثير علي قرار السلطة الاتحادية و ترغمها علي تقسيم دارفور الي اقطاعيات قبلية.
الجذور التاريخية المؤسسة لهذا النموج المشوه من الاجتماع و التنظيم السياسي
في الصفحات السابقة و بالاستناد علي فرضية ابكر اثبتنا ان الأزمة تكمن في الواقع/ النظام الذي ينتج هذا الشكل من الاجتماع و التنظيم السياسي. وهو ما كان ينبغي أن ينشغل به ابكر إسماعيل لفهم أسباب الصراع في السودان.
كما اوضحنا ايضا ان محاولة ابكر لفهم أسباب الأزمة من خلال القوي التي انتجتها قاد الي فهم خاطيء لجوهر و أسباب الأزمة .
الأزمة حسب رأينا متجذرة في بنية هذا النظام ، لانه لم يتمكن من إنجاز الانتقال من أشكال الاجتماع و الانتماء السياسي الخاضعة للقبيلة و العرق الي أشكال أحدث تسودها علاقات العمل و المكان في الفضاءات التعددية .
في الصفحات القادمة سوف نسلط الضوء علي جذور هذا النظام .
قبل مجيء الاستعمار الذي قطع التطور الباطني للمجتمعات السودانية و يفرض نموذج الدولة الحديثة ، كانت ثمة ممالك و سلطنات . النموذج السائد الآن من أشكال العمل و التضامن و التنظيم السياسي موروث من بقايا و إرث السلطنات القديمة .
حين نحلل تركيبة النظام الحاكم في سلطنة دارفور علي سبيل المثال نجد انها عبارة عن تحالف بين العشائر ، بحيث ان هذا التحالف يتيح شكل من التقسيم العشائري للسلطة السياسية “١٣”
بمنطق و وعي تلك الحقبة كان هذا الشكل من أشكال العمل و الاجتماع و الاصطفاف و التنظيم السياسي مفهوما . لان السلطنة لم تكن مصابة بافة التعدد حسب تعبير ساخر كما أن زعماء العشائر كانوا يمتلكون السلطة علي و يعبرون عن مصالح كل افراد العشيرة ، بجانب ان السلطة لم تتحول انذاك لغنيمة و أداة للثراء ، و اخيرا لم يشهد ذلك العصر التحولات البيئية و تأثر علي إنتاج الغذاء وما يستتبع ذلك من تغير في الجغرافيا العرقية للسلطنة . لكل هذه الاسباب و اخري كان هذا النموذج من أشكال الاجتماع و التنظيم مقبولا و صحيحا علي الاقل بمنطق تلك الحقبة .
لكن مع التطورات التي حدثت في الوقت الراهن أصبح هذا الشكل عائقا أمام استقرار و نهضة الجماعات السودانية.
علي اي حال بقايا هذا النظام ظلت موجودة الان حتي في انظمة الحكم الإقليمية و الولائية. ففي ولاية جنوب دارفور تنشط تحالفات ” هبت ” و ” ستقف “١٤”.
و حينما تأسست حركات المقاومة في دارفور كانت خاضعة لجماعات هوية ينحدرون من قبائل الزغاوة و الفور و المساليت .
هذا النظام موجود حتي علي مستوي رأس الدولة التي تحولت لتحالف بين جماعات هوية عشائرية و قبلية أما ضمن سياق عرقي واحد أو سياقات عرقية مختلفة .
كان بمقدور السودان ان يتجاوز هذا الشكل و يمضي في اتجاه تطوير علاقات اجتماع و تنظيم سياسي حديث مالم يقطع الاستعمار هذا التطور و يفرض نموذج دولة حديثة عبر وحدة قسرية لممالك و سلطنات ما قبل حديثة .
ادي ذلك في النهاية الي قيام الجماعة الأكثر تطورا و تفوقا باحتكار الدولة لكنها اضطرت بمرور الوقت الي فك جزء من هذا الاحتكار و مشاركته مع قوي و جماعات اخري .
نحن نري ان هذا الشكل من علاقات التنظيم و الاجتماع بحد ذاته ليس مشكلة لو انه تم بصورة ديمقراطية و بموافقة الجميع ووفق تمثيل عادل يراعي الكثافة السكانية .
لكنه يصبح مشكلة حين يسقط بكلياته و بشكل قسري علي مجتمع متعدد وهو ما حدث بالضبط. حيث ادي عجز العقل السياسي السوداني عن تطوير هذا النوع من أشكال الاجتماع و التنظيم السياسي و إنتاج شكل اخر حديث الي انتاج مضاداته و توليد نوع من الصراعات النهبية بين جماعات الهوية اعاق تقدم و نهضة الشعوب السودانية.
. في الماضي كان الصراع يدور حول خطي الشمال و الجنوب . و في سياق هزيمة الشمال اصطنع الجنوب هوية عرقية اتاحت له استمالة جماعات هوية مشابهة في دارفور و النيل الأزرق و جنوب كردفان. بينما استمال الشمال جماعات هوية علي امتداد حزام البقارة ” ١٥” .
و لانه لم يكن صراعا حول التأسيس فقد أفضي الي انفصال الجنوب الذي حمل معه نفس جينات الأزمة بهيمنة جماعة هوية من اعراق محددة بالتحالف مع جماعات هوية اخري .
استمرار هذا النوع من أشكال الاجتماع و التنظيم السياسي ما قبل الراسمالي و بشكله التناحري سوف يكون ضحيته السودان الموحد :
١_ بعد صراعات و حروب طويلة أما أن وعت النخب و جماعات الهوية بخطورة هذا النوع من أشكال التنظيم و بالتالي أرست لانتقال حقيقي يؤسس لوطنية حديثة أو:
٢_ تحول السودان الموحد لاقطاعيات قبلية مع إمكانية تحولها هي الأخري لاقطاعيات عشائرية.
و لكي يتم ضخ الدماء في شرايين هذه التحالفات يجب تسييس الهويات بإستمرار و تحويلها لايدلوجيات تناحرية . فعندما تتخلص جماعات الهوية من صراعها مع جماعات هوية اخري من خارج سياقها العرقي سوف تصطنع أعداء آخرين لها من داخل عرقها ومن ثم قبيلتها و انتهاءا بعشيرتها .
آفاق الحلول
ساعد علي تثبيت هذا النمط من أشكال الاجتماع و التنظيم السياسي وجود جماعات تربط بينها روابط دم و لغة و تقطن في بقعة جغرافية واحدة .
مثل هذه المجتمعات حين يتم وضعها داخل إطار دولة حديثة فطبيعي ان تقوم بمحاباة عناصرها عند توزيع ناتج الثروة و السلطة الاجتماعية .
و لاستبدال هذا النوع هنالك أشكال عديدة اهمها :_
١_ قسري و عنيف . و يكون عبر إحداث انقلاب في نمط انتاجهم التقليدي وهو ما قامت به بالتحديد الثورة البرجوازية التي انتجت الرأسمالية.
بحيث قامت بانتزاع وسائل انتاجهم و تحويلهم الي عملاء مأجورين و بالتالي نقلتهم من القرية الي المدينة و من مشغل العائلة الصغير الي المصنع . و بمرور السنوات و عبر التصاهر و التماذج كونوا وعي مشترك ساهم في القطع مع وعي القبيلة و القرية و التأسيس للوطنية الحديثة “١٦” .
في بعض بلدان الجنوب حدث الانتقال من ضمن عوامل كتيرة بسبب الكوارث الطبيعة و المجاعات و الحروب التي دفعت الناس الي الخروج من قرأها و مزارعها و الاستقرار في المدن و هنالك حيث التقت الآخر مكونة بذلك نوع من الوعي و المصير و الوجدان المشترك .
٢_ الشكل الثاني هو نتاج التطور الطبيعي لهذه المجتمعات و ذلك بفضل تطور الصناعة و التجارة التي تؤدي الي تداخل و تفاعل المجتمعات ببعض و القطع مع القبيلة و التوافق علي تأسيس صيغة جديدة لللتعايش و التنظيم.
في السودان نجح الاستعمار في قطع هذا التطور و يسعي الآن الي إحداث هذا الانتقال و بشكل متعسف عبر حروب الوكالة و ضرب المجتمعات ببعض تحت لافتة الثورة . و بينما يوحي انه بصدد رسملة و تحديث هذه المجتمعات يبقي الهدف غير المعلن استتباعها و تحويلها لمجتمعات استهلاكية .
وعبر اصطناع الحروب يتمكن من إزاحة هذه الجماعات من مناطقها . و بما انهم يمارسون نفس النشاط الإنتاجي ” رعي الابل او الزراعة ” و يقطنون في ” حواكير ” فهم سوف يفقدون وسائل انتاجهم حين يتم ازاحتهم بسبب الحروب و حينها يضطرون الي بيع قوة عملهم حتي يتمكنوا من العيش .
تخيل معي كم عدد المصانع في دولة رأسمالية واحدة فقط ؟ كم تنتج هذه المصانع . قارن منتجات هذه المصانع مع عدد سكان هذه الدولة . هل يستطيع سكان أوروبا استخدام كل هذه المنتجات .
بالطبع لا . اذن فملاك المصانع بحاجة ماسة الي أسواق جديدة . و لكي تضمن هذه الأسواق لابد أن تحولنا لمستهلكين. لانه اذا اكتفينا ذاتيا و انتجنا حوجتنا من الغذاء و وسائل الراحة فإن ذلك سوف يؤدي إلي بوار منتجاته .هذا ما يفسر دعم الرأسمالي الغربي لجماعات الهوية و تعزيزه للتناقضات و تصديره للحروب .
علي الدوام اعتقد ماركس ان المزارعين ليسوا ثوريين . لا لسمات فطرية فيهم وإنما بسبب نمط انتاجهم الذي يعتمد علي قطعة أرض صغيرة تكفي افراد الأسرة فقط .
هذا النوع من أنماط الإنتاج الاكتفائي ومع التحولات البيئية التي يشهدها الكوكب ينمي في الإنسان نزعة الأنانية.
ففي كل يوم تفقد الأرض خصوبتها و تتقلص المساحات الصالحة للزراعة و تقل الموارد . في هذا الوقت بالتحديد يحتكر المزارع مساحة كبيرة من الأرض و يكتفي بالانتاج الاكتفائي بينما هنالك راع يحتكر اكثر من الف رأس من البقر .
ولان هنالك جماعات بأكملها تمتهن نشاط إنتاجي واحد ، فإنه حين تنشأ مشكلة صغيرة بين فئة من المزارعين و الرعاة فقد يقود ذلك الي تفجر نزاع بين جماعات بأكملها.
هذا من جانب . من جانب آخر و بسبب تقلص المساحات الزراعية تفقد جماعات باكملها وسائل انتاجها. ولانه لا توجد بنية صناعية تستطيع أن تستوعب هذا الكم الهائل من العطالي فقد تضطر هذه الجماعات الي هجر قرأها و الاستيطان في قري الجماعات الأخري. ولان هذه المزارع الصغيرة لا تكفي لسد حاجة الناس المتزايدة للغذاء فقد يحدث احتكاك وصراعات. لقد آن الأوان لاستبدال هذا النمط من الإنتاج بنمط أحدث واكثر قدرة علي تلبية حاجات الناس من الغذاء.
في الصفحات السابقة اثبتنا ان الدولة ليست دولة جماعة، و انما هي عبارة عن تحالف بين نخب عشائرية أو جماعات هوية.
هذه التحالفات السائدة تنتج بالضرورة مضادتها من حيث البنية والتركيبة والوعي .
وفي سياق الصراع الاجتماعي التاريخي تحول الصراع من صراع تأسيس وتوزيع الي صراع نهبي لو استعرنا عبارة احد الكتاب .
هذا النوع من الصراعات لن يفضي الي تأسيس دولة و إحداث الانتقال .. اي الانتقال من علاقات العمل والتنظيم السياسي القبلية والعشائرية وافرازته من دول جماهوياتية.
لان الصراع يدور بين جماعات هوية حول الريع أو فائض الثروة و السلطة الاجتماعية وليس حول التوزيع وطرق الإنتاج . حتي لو كان حول التوزيع فهو علي الاقل علي المستوي الراسي بين جماعات الهوية وليس علي مستوي القاعدي و الافقي.
لهذا ظلت كل التسويات بين النخب السياسية تدور حول انصبة جماعات الهوية و ليس حول استبدال النظام الريعي بنظام انتاجي عبر التصنيع وطرق توزيع ثمار هذا الإنتاج.
هذا الصراع في الحقيقة يدور بين جماعات هوية منظمة لا تساوي ولو ١٠% من المجتمع لكنها تمتلك القدرة علي الزج بما تبقي من مجتمع في حروباتها و صراعاتها و بالتالي انتاج الحروب ذات الطابع القبلي و العرقي والعنصري.
علي سبيل المثال نجد ان عنصر من الكيان ” اكس” ليست له ثمة اي مشكلة مع عنصر من ” زد” . لكن عبر الحشد والحشد المضاد تختلق مشكلة من العدم و عبر صراع مرير يتم تاذيل المشكلة و تحويلها الي مشكلة وجودية غير قابلة للحل و بالتالي قفل الباب أمام اي احتمالات تلاقي في المستقبل.
في الإنتقال ، أو عن أهمية تثوير العلاقات الاجتماعية
في هذا المنعطف الفاصل من تاريخنا السياسي و الاجتماعي نحن بأمس الحاجة الي الانتقال من الصراع حول النهب و الاستئثار للنقاش حول انتاج وسائل انتاج و تجديد الحياة و طرق توزيعها علي مستواه القاعدي و الأفقي .
المدخل لهذا الانتقال يكون عبر تثوير علاقات الإنتاج و قبلها علاقات التنظيم والاجتماع المشوهة التي تنتج هذا النوع من الصراعات النهبية أو صراعات التوزيع علي مستواها الراسي.
نحن مجتمع ؛ اي عبارة عن تجمع لمجموعة من الأفراد اضطرتهم شروط تاريخية و اجتماعية معينة للعيش في فضاء جغرافي محدد .
في سياق فهم صراعات هذا المجتمع نحن لا ننطلق من سؤال من اين جاء هذا المجتمع، أي جذوره التاريخية والاجتماعية.
السؤال المركزي الذي يهمنا هنا ما الذي يفعله هذا المجتمع في هذه اللحظة المحددة تاريخيا؟
براينا انه يعيد إنتاج حياته أو وجوده . نحن ببساطة نصنع في الحياة ، أي ان نعيش ونحي . هذا بالضبط ما نفعله الآن.
لماذا نحي أو نعيد إنتاج الحياة؟ أو سؤال المغذي هذا أيضا سؤال غير ذات أهمية بالنسبة لنا . هنالك من يعتقد اننا نفعل ذلك لتحقيق كلمة الرب و ان الأرض عبارة عن جسر لعالم اخر اكثر عدلا .
لكن علي اي حال لكي نعيد إنتاج حياتنا نحن بحاجة الي ان ناكل ونشرب و نتنفس ..و حتي يحدث ذلك لابد أن نعمل و ننتج وفق النظرية الماركسية.
هنالك شكلين من الإنتاج :
١_الانتاج في الطبيعة. وذلك في سالف الأزمان حيث كنا نتعامل مع الطبيعة بشكل مباشر في عملية توفير وسائل إنتاج الحياة .
بمعني لو كنا نريد أن ناكل مثلا نذهب ونصطاد مباشرة . ولو أردنا الماء لذهبنا الي النهر . ولو اردنا الملابس كنا نصنعها .
٢_ بعد التغييرات البيئية وتقلص خارطة الموارد والمساحات الصالحة للزراعة وزيادة الكثافة السكانية تشكلت مجتمعات حديثة .
وبسبب الجغرافيا وكمية الموارد والخبرات وما استتبع ذلك من أهمية التعاون حدث تقسيم للادوار والعمل . لا يهم ما اذا كان هذا التقسيم تم بشكل قسري أو طوعي .
علي اي حال فرض هذا التقسيم شكل من أشكال التبادل . لو انك في سالف الأزمان تنتج كل وسائل إنتاج حياتك ، الآن انت تكتفي فقط بانتاج منتج محدد لكن لتوفير حاجاتك الأخري تقوم بإجراء تبادل مع الآخرين. مثلا انت تنتج أحذية أو تعمل في مصنع أحذية. لكي تعيد إنتاج حياتك انت بحاجة مثلا للحم و الخبز و الماء ..وهذه ينتجها آخرون بالتالي انت سوف تقوم بمقايضة ما تنتجه أو ما يقابله نقدا بمنتجات الآخرين.
وهكذا ظهر الشكل الثاني من الإنتاج وهو الإنتاج الاجتماعي الذي يعتمد علي عمل كل افراد المجتمع لإعادة إنتاج وجوده .
وفي ظل هذا الشكل تصبح جميع أعمال الناس متساوية في القيمة . بمعني ان عمل الخباز أو ملمع الاحذية لا يختلف عن عمل مخترع الهاتف أو القنبلة الذرية.
اذن طالما أن إعادة إنتاج وتجديد الحياة يعتمد علي عمل الجميع ، يبقي السؤال هنا كيف يمكن أن نقسم منتجات أو ثمار هذا العمل ؟
لو ان عمل افراد المجتمع علي سبيل المثال ينتج سنويا ١٠٠ جوال ذرة ، فكيف نوزعها بما يضمن إعادة إنتاج حياة الجميع وبكرامة.
الماركسية تري ان ذلك يجب أن يكون حسب جهد وحاجة اي فرد ، و ذلك للإجابة علي سؤال ما ينبغي أن يكون أو اشكال التوزيع .
أما بخصوص سؤال ما هو كائن في سياق توصيف شكل التوزيع الذي يتم الان و المنتج للصراعات و الظلم والتفاوت تري الماركسية ان التوزيع يتم بناءا علي معايير طبقية . اي ان الطبقة المتملكة وسائل الإنتاج هي من تاخذ الحصة الاكبر وتحتكر حتي عملية التوزيع.
بينما يري التحليل الثقافي وفي سياق اجابته لماهو كائن ان التوزيع يتحدد بناءا علي معايير عرقية وقبلية . اي ان حصولك علي حاجتك من وسائل الحياة يعتمد علي مدي قربك من الموزع علي أساس اننا مجتمعات قرائبية.
أما بخصوص ما ينبغي أن يكون عليه التوزيع فهي تتفق مع الماركسية في أهمية التوزيع العادل وفق الحاجة والجهد.
ان عدم وعي السودانيين لهذه النظريات بشكل جيد هو ما يساهم في إنتاج هذا الصراع الصفري .
ثمة مقولة جاهزة يرددها بعض الماركسين لتفنيد المنظور الثقافي مفادها ان هذا صراع موارد !.
بالتأكيد انه صراع موارد. وحتي جدل الهامش والمركز يعترف بذلك . الخلاف لا يكمن في التوصيف وإنما في التوزيع.
يري جدل الهامش والمركز ان التوزيع يتم وفق معايير العرق والقبيلة وذلك بسبب فشل هذه المجتمعات في الانتقال من أشكال الاجتماع والتنظيم والتوزيع الخاضعة للقرابة وروابط الدم الي أشكال قوامها المصالح والحاجة .
غير ان معالجة التحليل الثقافي لمشكلة التوزيع لا تختلف باي حال عن المعالجة الماركسية التي تري ضرورة ان يكون التوزيع وفق الحاجة والجهد. اي بشكل عادل وهو جوهر الماركسية.
ان نوزع حصاد انتاجنا بشكل عادل علي ان يشبع حاجات الجميع وتضمن إعادة إنتاج حياتهم . هكذا هو الامر ببساطة .
وفيما يختص بمسالة خضوع التوزيع لمعاير القرابة والعرق فتؤكده حتي تجربة ماركس الشخصية.
لقد كان ماركس من أصول يهودية ، ولأن اصله اليهودي كان كفيلا بحرمان الإنسان من الترقي الاجتماعي والمنافسة بمعايير ذلك العصر فقد اضطر والده الي استبدال ديانته وتبني المسيحية كالية لاستيفاء شروط المجتمع البروسي.
لقد مكنه ذلك من دراسة القانون وممارسة المحاماة وهو ما هيأ لماركس الظروف المناسبة للمنافسة .
لماذا عمد ماركس الي تجاهل هذه الحقائق ؟ هذا ما لا نعلمه .
خاتمة
علي عكس ما يقوله مارتن هايدغر ان كل هدم هو بالضرورة تاسيس جديد ؛ تهدف هذه الورقة ليس الي هدم البناء النظري لدكتور ابكر وانما الي تطويره علي ضوء التغيرات التي حدثت في تركيبة السلطة وقوي الهيمنة .
بالتالي لا تكمن قيمة الورقة في النتائج التي توصلت إليها والتي قد تصيب وتخطيء وانما تكمن القيمة الحقيقية في إعادتها الاعتبار لإعمال العقل والنقد .
بدات الورقة بمسائلة الفرضيات الأساسية لجدلية الهامش والمركز حول المجتمعات الرأسمالية. بحيث أكدت ان الأزمة ليست أزمة جماعة كما فهمها ابكر وانما أزمة نظام/واقع اجتماعي مؤسس علي علاقات اجتماعية ما قبل حديث .
محاولة فهم النظام من داخل ثقافة ووعي القوي والجماعات المهيمنة ، قادت ابكر حسب الورقة الي فهم مضلل لطريقة عمل النظام وبالتالي علي الحلول التي طرحها المؤيدين لإشكالاته .
وفيما يختص بالجماعات والقوي المهيمنة ، و في حين أعلن ابكر انها “الجماعة الاسلاموعروبية ” ، رأت الورقة بعد تحليل عميق لبنية السلطة ان القوي المهيمنة ليست جماعة واحدة وانما هو عبارة عن تحالف لجماعات هوية أما داخل سياق عرقي واحد أو سياقات عرقية مختلفة .
تعرف الورقة جماعات الهوية بانها جماعات منظمة تنتظم علي اساس علاقات قرائبية. وهي ليست أحزاب ولكنها تسيطر بشكل كامل علي الأحزاب. ليست كيانات وقبائل لكنها تمتلك القدرة علي حشدها والتأثير في خياراتها.
تخلص الورقة ان تحالف جماعات الهوية أنتج قوي مناهضة بنفس تركيبتها المشوهة، وهو ما حول الصراع من صراع تاسيسي يتعلق بتطوير انظمة و أساليب إعادة إنتاج الحياة الي صراع نهبي يتمحور حول احتكار وسائل تجديد الحياة .
ترجح الورقة ان استمرار هذا الشكل من الصراع سيقود بعد حروب طويلة الي مساومة تاريخية أو تفكيك الدولة السودانية الي اقطاعيات قبلية ومن ثم لاحقا عشائرية بقيادة جماعات هوية .
وحول أشكال تأسيس نظام اجتماعي يستند علي علاقات اجتماع حديثة ، اشارت الورقة الي نوعين:
١_ قسري. وهو اسلوب استخدمته الرأسمالية في بداياتها بحيث قامت بتجريد الاوربيون من وسائل انتاجهم وارغمتهم علي النزوح الي المدن والتحول الي ايدي عاملة . وهنالك بسبب التفاعل والاختلاط تخلي الاوربيون عن انتماءاتهم الأولية وكونوا وعي ووجدان مشترك أسس لاحقا للقومية الحديثة والاصطفافات العابرة للعرق والقبيلة .
نفس الامر احدثته أيضا الكوارث الطبيعة والمجاعات والحروب في أفريقيا.
٢_ طوعي ، وهو عبر التطور التاريخي عن طريق التجارة والتفاعل الثقافي.
تري الورقة ان جوهر الصراع الاجتماعي يدور حول كيفية إعادة إنتاج وتجديد الحياة الاجتماعية وتوزيعها . وفي حين ان الماركسية تري انه ليتحصل الإنسان علي وسائل إنتاج وتجديد الحياة الاجتماعية” ماكل ، مشرب ، وظيفة ..إلخ ” فإنه لابد أن يكون ثريا ينتمي الي الطبقات العليا . فإن جدل المركز والهامش يري ان المعيار عرقي وقبلي .
بمعني لكي تتحصل علي نصيبك من وسائل تجديد الحياة فإنه يجب أن تربطك علاقة دم أو قرابة بالموزع.
تشدد الورقة مهتدية بكل النظريات والشرائع علي ان المدخل لحل الصراع الاجتماعي التاريخي يكون عبر توزيع عادل يضمن للجميع تجديد وإنتاج حياتهم واشباع حاجاتهم النفسية والروحية.
هوامش ومصادر
١_ هنالك جدل حول مدي أصالة هذه النظرية وما اذا كانت قد تأثرت بالايدلوجيات و النظريات الوافدة . وفي حين يري مناصروها انها اصيلة يذهب آخرون خلاف ذلك و يقولون انها إسقاط لمقدمات سمير آمين ونظرية المركز والأطراف علي الواقع المحلي.
علي اي حال.، هل ثمة نظرية اصيلة ؟ لا أعتقد ، لأن الماركسية بذات نفسها ليست سوي خليط بين الفلسفة الالمانية والاقتصاد الانجليزي والإشتراكيات الفرنسية .
كما أن المادية هي مزج بين مادية فيورباخ وجدل هيجل .
٢_ كتاب جدلية الهامش والمركز
٣__ للمزيد انظر لقاء د/ ابكر مع موقع عاين بعنوان طبيعة الصراع في السودان.
٤_ لو افترضنا ان الجدل وفق منطق ابكر هو جدل ثقافي ، فالثقافة هنا عند ابكر تختلف عن الثقافة عند المدرسة المثالية التي تختزلها في الأفكار والأنشطة الذهنية .
بالتالي المفهوم الاقرب لمصطلح الصراع الثقافي عند ابكر هو الصراع الاجتماعي.
بمعني ان التطور هنا اذا افترضنا انه نتاج الصراع ؛ و الصراع هو بالضرورة صراع ثقافي ، أي صراع وعي ضد وعي أو فكرة ضد اخري فإن صراع الفكرتين اياه ينتج فكرة جديدة تحمل أصح ما فيهما مثلما تقول المدرسة المثالية.
في حين ان الجدل الثقافي عند ابكر يعني جدل شامل تتداخل فيه كل العناصر من اقتصاد وثقافة ودين .
٥_ انظر كتاب جذور التهميش في السودان تاج السر عثمان.
٦_انظر محمد ابكر بوب عن الحداثة
٧_ دارفور وأزمة الدولة ..التجاني عبدالقادر ..كتاب الجزيرة دارفور حصاد الأزمة بعد عقد من الزمان .
٨_ يخضع تحديد هوية الجماعة المهيمنة كما درجت العادة عند البعض الي موقع الفرد داخل حلبة الصراع.
مثلا هب انك من القبيلة ” اكس” . وان جزء من عناصر القبيلة ” اكس” هم ينتمون لتحالف جماعات الهوية المهيمنة علي النظام .
في هذه الحالة لتحديد هوية الجماعة فإن الخطوة الصحيحة ليس النقاش حول ما اذا كان تحالف جماعات الهوية المهيمن يستوعب افراد من قبيلتك ام لا ، و انما هل هولاء الأفراد يمثلون القبيلة “اكس” ام لا ؟
في هذه الحالة فإن العمل المنهجي يفرض علي الباحث ان ينأي بنفسه من التعميم . اي هنالك جزء من اكس في بنية الجماعة المهيمنة لكن هذا لا يعني أن اكس هي المهيمنة بالفعل ، أو اكس و”زد” اللاتي تمتلكان عناصر في الجماعة المهيمنة ليستا هما جماعات الهيمنة .
بالتالي لتحديد هوية الجماعة المهيمنة يجب أولا تحديد ما اذا كان افراد “اكس” الموجودين في جماعة الهوية المهيمنة هم يمثلون ويعبرون عن مصالح ساحق افراد المجموعة اكس ام لا ؟
هنالك شخص آخر فلنفترض انه ينتمي للجماعة القبلية ” واي ” قد يختلف مع هذه النتيجة .
فهو لا يحدد هوية قوي الهيمنة من خلال بنيتها. وانما من خلال موقعه هو وعلاقته بهذه القوي .
فطالما ان تركيبة قوي الهيمنة لا تستوعب افرادا من جماعته وانما من جماعات اخري ” اكس وزد مثلا ” فإن قوي الهيمنة في اعتباره هي اكس وزد فقط غض النظر عن ان هولاء يمثلون اكس وزد ام لا .
٩_انظر الواثق كمير . جون قرنق رؤيته للسودان الجديد
١٠_ هنالك جدل حول ما اذا كان ذلك تحالف ام استيعاب مقصود بغرض الترميز تضليلي. ففي سياق تفسيره لصعود جماعات هوية جديدة علي كابينة السلطة صك ابكر مفهوم الترميز التضليلي الذي يعني استيعاب بعض الجماعات من الهامش بغرض اعطاء الانطباع بالمشاركة. وهو مفهوم تعرض للنقد كثيرا .
١١_ انظر خالد الكد الافندية ومفهوم القومية في السودان.
١٢_للمفارقة ان تول من استخدم مصطلح عرب الشتات هو الدريدري احمد ، وزير الخارجية الأسبق الذي ينتمي عرقيا لعرب الغرب .
بعد إعلان الكثير من الإدارات الأهلية للقبائل العربية في دارفور وكردفان دعمها للدعم السريع ، ثار جدل حول الأساس الاجتماعي لتمرد الدعم السريع. وفي هذا السياق قالت جماعات الهوية في الشمال التي تسيطر علي الإعلام و الرأي العام انه تمرد عرب الغرب لكن انبري لهم خرون منهم الدريدري و قالوا انه ليس تمرد عرب الغرب وانما عربان الشتات .
١٣_راجع مصطفي شطة، دارفور الأرض و الحواكير.
١٤_ هبت هو تحالف بين جماعات هوية تنتمي الي قبائل ” هبانية، بنو هلبة ، تعايشة ” أما ستقف فهو تحالف يشمل جماعات هوية من قبائل اخري منها ” سلامات، فلاتة ” .
كانت جماعات الهوية هذه تتصارع حول رئاسة المؤتمر الوطني في الولاية وبالتالي منصب الوالي . وقد سبق وان شكا والي الولاية آنذاك من تأثير هذه الجماعات علي وحدة الحزب واستقرار الولاية .
١٥_ لكسب القبائل الافريقية في دارفور الي صفها تمكنت الحركة الشعبية من استقطاب داوود يحي بولاد وفتح جبهة عسكرية جديدة في دارفور بينما قام حزب الأمة باستقطاب القبائل العربية في ولايات التماس.
“١٦” انظر الجزء الخاص باشكال التراكم البدائية من رأس المال لكارل ماركس.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة