اخر الاخبار

شريعة الصيام

 إن ملايين المسلمين يصومون، ولكن أُذكّرهم بشيء يدلهم على أنهم مهزومون، في الحقيقة عندما غلا النفط وارتفعت أسعاره، رفع الأوروبيون أسعار جميع المواد المستهلكة التي تصدّر إلينا، رفعوها أضعافا وأقبلنا عليها، فلما رخص البترول بقيت هذه السلع الاستهلاكية على ثمنها الغالي، وقيل لنا: إذا قدرتم على الامتناع فامتنعوا، ولم يقدر أحد على الامتناع إلى الآن؛ لأن أمتنا لم تنجح في معركة قيادة الشهوات وضبط اللذات، فلم تنجح أمتنا في أن تُلزِم نفسها هذا الأدب الذي قاله الرجل المربي القديم: “إذا غلا الشيء أرخصتُه بالترك، فيكون أرخص ما يكون إذا غلا”.

 إننا كنا نستطيع أن نؤدب الحضارة الغربية، لو أننا كفكفنا شهوتنا وقلّلنا من ملذاتها، ووضعنا ضوابط دقيقة لرغباتنا ومآربنا.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يعرّفنا هذا الأدب ويقول لنا: “إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى” أخرجه أحمد والطبراني في الصغير، وما أكثر شهوات الغي، وما أكثر مضلات الهوى. أريد أن أربط بين الصيام وما يهبه لصاحبه من قوة إرادة، ومن قدرة نفسية على الامتناع، ومن عظمة الاكتفاء الذاتي الذي يجعل الإنسان لا يُذله طمع ولا يرغمه هوى سيطر عليه، أريد أن أشرح هذا المعنى لا من الناحية الدينية وحدها، بل من الناحية العقلية التي تحدّث فيها بعض الحكماء، أبو الطيب المتنبي ليس من الزهاد ولم يعرف أنه من المشهورين بالتقوى، بل رجل حكيم، في بيت واحد من أبياته الشعرية ذكر ثلاث حكم يقول:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته     ما قاته وفضول العيش أشغال
ثلاث حكم: الحكمة الأولى: “ذكر الفتى عمره الثاني” ندعها الآن، “حاجته ما قاته”، ما أكثر الحاجات التي نطلبها، لكن أنا لن أندم إلا على سرير واحد، ولن آكل إلا في طبق واحد، ولا ألبس إلا ثوبا، فلماذا أريد أن تكون عندي عشرات الأطباق وعدد من الأسرة وأعداد لا حصر لها من الثياب؟ إن شهوات الإنسان في التكثير والتجميع لا حصر لها، وهذه الشهوات تذل الناس وتجعل الأمم تنهار، وبذلك أريد أن أفهم معنى قول المتنبي: “وحاجته ما قاته”. ثم الحكمة الثانية: “وفضول العيش أشغال”، أي: أن الزيادات التي يحرص الناس عليها هي في الحقيقة مشاغل له.

إن الأمة الإسلامية بحاجة إلى مراجعة دقيقة لمطالبها المادية، ومرفهاتها التي تحرص عليها، إنها بحاجة إلى مراجعة الكشوف الكثيرة التي تدون فيها المستورد من الخارج؛ لأن أعداءنا ينظرون إلينا، ويعرفون أننا ما دمنا طوع شهواتنا فإننا لن ننجح في تحرير أنفسنا، ولا في تحرير بلادنا، إن الأمة الإسلامية اليوم في معركة حياة أو موت بالنسبة للرسالة التي شرّفها الله بها، وبالنسبة للحقوق، حقوق الإنسان وكرامات الشعوب التي يَضِنُّ بها الأقوياء عليها، والوقوف لنصرة هذه الرسالة السماوية، والوقوف في قدرة لحماية حقوق الإنسان المسلم، وكرامات الشعوب الإسلامية، هذا الوقوف يحتاج إلى رجولة، يحتاج إلى بطولة، يحتاج إلى إنسان مسلم يفهم من فلسفة الصيام أنها فلسفة تعني القدرة على الامتناع، تعني القدرة على الاكتفاء الذاتي، تعني أنني عندما أصوم رمضان فأزهد في كثير من الحلال، أزهد في الوقت نفسه في كثير من المحرّمات وكثير من الكماليات التي ما بقيت الأمم تنظر إليها بلهفة فهي لن تحرر نفسها أبدا.

إن المسلم الحقيقي ربما صام الحياة كلها عن أمور لا لزوم لها، يجعل الستر عليها يوم لقاء ربه؛ لأنه يريد أن يكون في الدنيا عزيزا عظيما، وليس معنى هذا أننا نريد أن نضر جسده، أو أن نقتل غرائزه، فالإسلام لا يضر الجسد فهو يقول: “إن لجسدك عليك حقا” متفق عليه، ولا يقتل الغرائز، فالغرائز هي دعائم النشاط الإنساني، ولكنه يرفض أن تتحول حاجات الإنسان إلى فرائض بدنية خسيسة تزهق في إجابتها الفرائض الروحية والمعنوية العظيمة التي لا يكون الإنسان إنسانا إلا بها، فلنتعلم الصيام، ولنجعل الشهر شهر روحانية وصفاء وسمو وعبادة وإقبال على الله، لا شهر طعام وكلام وتسلية وإضاعة للوقت في ما لا فائدة فيه ولا ثمرة له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *