اخر الاخبار

الصوم من أرقى مقامات العبودية

العبادات في الإسلام شرعت لأهداف وغايات وحكم، قد يدرك الناس بعضها، وقد تغيب عن أذهانهم، يقول الحق سبحانه مبينا الغاية من عبادة الأضحية: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}. ويقول مبينا الحكمة من فريضة الصلاة: {إن الصلاة تنهى عنِ الفحشاء والمنكر}، وفي عبادة الصوم يقول: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} أي: لأجل التقوى، فإذا لم يحدث الصيام للإنسان تلك التقوى، فإنه لم يحقق الغرض الذي شرعه الله من أجله.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في أضراب هؤلاء: “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”. فالصيام فيه تقديم رضا الله على النفس، وتضحية بالامتناع عن الطعام والشراب والشهوة ابتغاء وجه الله، ومن هنا كان ثوابه عظيما جزيلا: “كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي”، فتقديم رضا الله على هوى النفس من أعظم مقامات العبودية.

فما معنى أن نمتنع عن الطعام والشراب؟ ولماذا يكون الإمساك والإفطار في أوقات معينة لا تقبل في غيرها؟ ولماذا يكون الإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من الفجر وحتى غروب الشمس؟ ولماذا نصلي التراويح؟ وما الحكمة من الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؟ ولماذا لا يكون ذلك في أوله؟ ولماذا علينا أن نبيت النية للصوم؟ إنه أمر الله، وفيه رضاه، وعلى المسلم الالتزام والتسليم.

صحيح أننا يمكن أن ندرك الحكمة في بعض تشريعات الدين وأحكامه، وقد لا ندرك هذه الحكمة، وهنا يظهر التسليم والقبول والرضا بما أمر الله به ورسوله، حتى وإن لم يدرك العقل البشري هذه الحكمة، فما على المكلف إلا تقديم رضا ربه عن كل شيء: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، ولذلك يسارع المسلمون في أقطاب الأرض إلى الصيام برضا وطمأنينة، وثقة بوعد الله ووعيده، قائلين عند إفطارهم: “اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله”.

إن الرضا بما أمر الله، وتقديم حب الله على هوى النفس طريق الأولياء، وسبيل المؤمنين الأتقياء، فمن أجلها سجدت الجباه، وسالت الدموع، فهذا إبراهيم الخليل ضرب المثل الأعلى في تقديم رضا الله عن كل رضا: {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين}، فكم من أناس في لحظة ضعف أو خوف يبيعون دينهم ودنياهم برضى غيرهم ولو سخط الله عنهم، فيخسرون سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.

ذكر أهل السِّير أن عمر بن هبيرة والي العراق على عهد يزيد بن معاوية، استدعى الحسن البصري والإمام الشعبي ليسألهما عما يبعث به الخليفة من أوامر بها مظالم، فهل ينفذها أم لا، فسأل أولا الشعبي فقال كلاما يرضي الوالي والخليفة، ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فوعظه الحسن البصري موعظة ارتجفت منها فرائصه، قال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره فينزلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد وإنما تجد عملك، فبكى ابن هبيرة بكاء مرا، فلما خرج الحسن والشعبي واجتمعا بالناس، قال الشعبي: والذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولا أجهله، ولكن أردت فيما قلت وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن فيما قال وجه الله.

وأنت أيها الفاضل، ها قد أكرمك ربك بأن بلغك رمضان، فابتغ بصومك وجه خالقك ورضاه، فإنك لن تجد ملاذا ولا راحة إلا في رضاه سبحانه.

إمام مسجد عمر بن الخطاب
بن غازي براقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *