اخبار السودان

خطة ترامب الامبريالية لإعادة تقسيم العالم

محمود محمد ياسين

 

نقلت كاميرات التلفزيون من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض الأمريكي مشهدا حيا للقاء بين ترامب ونائبه جي دي فانس (JD Vance) يوبخان فولوديمير زيلينسكي، رئيس وزراء أوكرانيا الذى تتعرض بلاده للغزو من روسيا منذ العام 2014. هاجم الرئيس الأمريكي ونائبة قائلين لزيلينسكي إنه ”ناكر للجميل“ و”غير محترم“ و”يراهن بملايين الأرواح“ و”ان موقفه الرافض للسلام سيتسبب في الحرب العالمية الثالثة“.

 

ان التبادلات المتوترة بين قادة الدول ليست مسألة غريبة فهي تحدث في كثير من الأحيان، ولكن على انفراد في الغرف المغلقة وليس بالشكل المفتوح امام العالم كما حدث في اللقاء المذكور.

 

كان الهدف الرئيس من اللقاء يدور هو صفقة اقتصادية بين أمريكا واوكرانيا لاستغلال الثروات المعدنية الثمينة الموجودة في آرض الأخيرة؛ والصفقة هي الخطوة الأولى قبل الاتفاق على انهاء الحرب وتوقيع اتفاقية سلام بين البلدين المتحاربين. لكن وبشكل مفاجئ أقحم زيلينسكي قضية الضمانات الأمنية التي ستحصل عليها أوكرانيا في حالة الوصول لاتفاق السلام.

 

وبما ان انهاء الحرب الروسية الأوكرانية امرا مهما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية لإدارته، ادرك ترامب أن زيلينسكي، بأثارته لموضوع الضمانات السابق لأوانه ليس لديه الرغبة في تسوية النزاع مع روسيا، مما زاد من حدة التوتر بين الطرفين وحدوث المشادة غير المسبوقة التي انتهت بطرد زيلينسكي من البيت الأمريكي.

 

ان سعى ترامب الحثيث لإنهاء الحرب على أوكرانيا مبعثه رغبة ترامب في التفرغ لإعادة تحديد موقع أمريكا من التمدد الإمبريالي للقوى العظمى في العالم. فان ترامب لا يريد إنفاق المزيد من الأموال على النزاع في أوكرانيا وحسب (بلغت حتى الآن 350 بليون دولار)، بل يعمل على تأسيس استراتيجية كبرى للسياسة الخارجية لأمريكا تختلف تماما عن استراتيجية القادة الأوربيون، في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الذين يعتقدون ضرورة مواصلة الضغط العسكري على روسيا لتحقيق السلام المستدام وردعها من القيام بأي مغامرات لتهديد دول الناتو.

 

ان أمريكا تحاول التعاون أولا مع روسيا ثم مع الصين من أجل الهيمنة على العالم من خلال إعادة تقسيم مناطق النفوذ؛ فالهدف الاستراتيجي الجديد من التعاون هو إعادة اقتسام العالم بالكلية بين الدول الامبريالية الكبرى : أمريكا والصين وروسيا. وهذا يعنى بزوغ نظام عالمي جديد (new world order) في نهاية المطاف.

 

ان ترامب ينظر الى ان المسألة الاوكرانية تمثل جزءا صغيرا في خطته الكبرى؛ كما انه مال لتجاوز استراتيجية الدول الاوربية، كما مر ذكره، لمحدوديتها وتقليديتها.

 

والادلة على سعى ترامب تحقيق تصوره لنظام عالمي جديد هي تصريحاته المتعددة حول سياسته الخارجية وعلاقته بالدول الكبرى. فقد درج ترامب في حملته الانتخابية للرئاسة وبعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة الامريكية في 2024م على انه سيسعى لمنع حدوث الحرب العالمي الثالثة ارتكازا على نفوذ بلاده، كما انه ليس سرا بان ترامب ما فتئ يكرر في احاديث ومقابلات إعلامية كثيرة بانه سيسعى لتشجيع الاستثمار المتبادل بين أمريكا من جهة والصين ورسيا من جهة أخرى.

 

وبالطبع فان نجاح خطة ترامب يعتمد على حلول لبعض الخلافات الجوهرية بين لدول الثلاث. فمثلا، يتوقع ان يؤدى سعى ترامب فرض زيادة في التعريفة الجمركية على البضائع الصينية الى ارتفاع أسعار السلع المستوردة لأمريكا من الصين. لكن، ان الحجم الكبير للسلع الصينية المصدرة لأمريكا مقارنة بالسلع الامريكية المصدرة للصين سوف يؤثر سلبا على الاقتصاد الصيني. كما أن الدخل القومي الصيني ظل يعانى من الانخفاض نتيجة مغادرة الكثير من الشركات الامريكية الصين والعودة الى بلادها اثر تخفيض الضرائب على الشركات الذى ادخله ترامب في فترة رئاسته الأولى (ظل ساريا حتى الان). لكن ايجابيات وسلبيات الحمائية (protectionism) وتخفيض الضرائب على البلدين تجعل وصولهما لنهج ينتج مكاسب متبادلة للبلدين أمرا ممكنا عبر التفاوض.

 

ان خطة ترامب تأتى في اجواء يسودها اليقين السائد في كل من أمريكا والصين بان كليهما ينظر الى الاخر بأنه يمثل منافسه الإستراتيجي واعتباره مُهدِّده الرئيس سياسيا واقتصاديا وأمنيا.

 

لكن من الواضح ان قيادة الحزب الجمهوري الحاكمة التي يمثلها ترامب تسعى لتقوية أمريكا وإيقاف تدهورها الاقتصادي الذى يتمثل في تراجع الإنتاج الصناعي والارتفاع الكبير في المديونية الخارجية للبلاد التي تجاوزت 36 تريليون دولار (120% للدخل القومي). كما يظهر هدف ترامب في انشاء وضع عسكري وامنى قوى من تصريحه عن عزمه إعطاء الاوامر للبدء بإنشاء نظام دفاع جوي للولايات المتحدة على غرار نظام “القبة الحديدية” بأحدث التكنولوجيا لحماية نفسها. كما أن رغبة ترامب في حيازة امريكا على جزيرة غرينلاند مسألة جادة اذ تقع ضمن اهداف التوسع الإمبريالي لأمريكا وتتعلق باستعداد البلاد في حالة اشتعال حرب كونية. فالجزيرة ذات الحكم الذاتي والتابعة للدنمارك تتمتع بموقع استراتيجي في القطب الشمالي وسط تنافس حاد بين القوى العالمية (الصين وروسيا وامريكا) على النفوذ بتلك المنطقة، ولهذا فحيازتها أمر ضروري للأمن القومي الأميركي. هذا بجانب ما تجنيه أمريكا من استغلال الموارد الطبيعية والمعدنية التي تملكها الجزيرة. ونفس الشيء (حماية الامن القومي) ينطبق على قناة بنما الممر المائي الحيوي بين المحيطين الأطلسي والهادي، التي بنتها امريكا وتملكتها لفترة. فان ترامب يسعى على استعادة الاشراف عليها بحجة انهاء الوجود الصيني الكثيف بمنطقتها.

 

وهكذا، فان أي هدنة تتضمنها خطة ترامب بغرض تحقيق الهيمنة الدولية، لا تنفى زوال التناقض بين القوى الدولية المتصارعة. ان التناقض بين الدول الاستعمارية مطلق بمعنى استمراريته بحكم طبيعتها الرأسمالية وان التعايش نسبى.

 

ان التعايش المرحلي بين الدول الاستعمارية الثلاث، أمريكا والصين وروسيا، قد يهدف لمنع اشتعال الحروب المشتعلة في انحاء العالم حاليا الى حرب كونية شاملة. لكن خطر الحرب الكونية الشاملة يظل ماثلا بفعل التناقض الأساس بين الدول الرأسمالية الذى يتمثل في ان الدولة القومية “الرأسمالية” الواحدة في سعيها لضمان أقصى الأرباح لرؤوس الأموال المتدفقة منها للاستثمار في الخارج لا تلبث أن تجد نفسها في تناقض عدائي بينها وبين النظام الاقتصادي العالمي.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *