الصيام تربية وتـهذيب.. وقفة تفهُّم وتبيُّن

في البدء، نقف مع الصيام وقفة تفهّم وتبيّن، من أجل استكناه معانيه وحِكمه؛ لأن معرفة الأحكام دون الحكم تجعل الصائم حريصا على تصحيح صيامه من حيث صورته، وهذا مطلوب، لكنه لا يكفي لتحقيق التقوى التي هي المقصد من هذه العبادة، كما صرحت بذلك الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} البقرة:183. فالناظر المتأمل يجد في الآية الكريمة خطابا إيمانيا: {يا أيها الذين آمنوا}، وخطابا فقهيا: {كتب عليكم الصيام}، وخطابا تزكويا: {لعلكم تتقون}.
لقد شرع الله الصيام لمن كانوا قبل البعثة المحمدية، كما جاء ذلك مصرّحا به في آية سورة البقرة، وفي ذلك اهتمام بهذه العبادة، وذلك يقتضي كما قال الإمام ابن عاشور “اطّراد صلاحها، ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العباد، كيلا يتميّز بها من كان قبلهم”.
ولعلّ المسلمين بعد أن صاموا عاشوراء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تصومه اليهود قبلهم، كانوا في ترقّب إلى أن يخصّهم الله بصوم، فأكرمهم الله بصيام شهر رمضان.
*الصوم الكامل
الصوم الكامل ما كان سبيلا إلى تزكية النفس، والنفس الزكية منشأ كل صلاح، قال تعالى: {قد أفلح من زكاها} الشمس:9، فإذا زَكَت النفس طهرت الجوارح، واستقام السلوك. قال جابر بن عبد الله: “إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا يكن يوم فطرك ويوم صيامك سواء” أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم، ومن طريقه البيهقي.
لاحظ كيف أنه عندما ذكر اللسان، جاء ببعض التفصيل فقال: “ولسانك عن الكذب والمآثم”، وهذا يدل على خطورة اللسان في حياة الإنسان؛ فقد يكون عامل بناء، وقد يكون عامل هدم. ولعل أكثر الكبائر مصدرها اللسان؛ الكذب، الغيبة، النميمة، شهادة الزور…، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم القائل: “وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم” حسن صحيح، أخرجه الحاكم في المستدرك. ومن جميل ما جاء في الحِكم: “اللسان كالحصان، يصون من يصونه ويخون من يخونه”.
فالصيام إذا لم يثمر في الصائم طهرا، واستقامة في سلوكه ومعاملاته، كان مجرد جوع وعطش لا طائل من ورائه، نقرأ في صحيح البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
الصّيام التزام
للصائم التزامان؛ التزام فردي والتزام جماعي، فالصائم بتركه للمفطرات ملتزم على المستوى الفردي، وهذا بينه وبين الله تعالى، فكيف يكون التزامه على المستوى الجماعي؟ يتحقق ذلك بأن يكف جوارحه عن إيذاء الناس، وأن يجعل من نفسه عنصر خير في مجتمعه، يساعد المحتاج، ويفرّج عن المكروب، وينصر المظلوم، ويصلح بين الناس، وما إلى ذلك من أعمال البر والصلاح. وهذا لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس عن طريق كبح جماحها، وحملها على فعل الخير ولو تكلّفا، حتى تَأْلَف ذلك فيصبح سَجِيّة، قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} العنكبوت:69.
وعُدّة المؤمن في هذا الصبر؛ والصبر صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء، مستعينا بالوعد الإلهي: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} الزمر:11. فإلزام الصائم نفسه الامتناع عن شهوتي البطن والفرج، مستحضرا عقيدة المراقبة التي تجعله مستشعرا معية الله تعالى، في كل ما يأتي وما يدع: {وهو معكم أين ما كنتم} الحديد:4، يقوّي فيه الصبر والتحمل، فيصبح أميرا على نفسه، قادرا على ترك الحرام والمكروه وحتى المباح.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا، في رمضان خاصة، على تطهير المجتمع من كل المفسدات والملوثات من الأقوال والأفعال، ففي الحديث المتفق عليه: “الصيام جُنّة، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم”.
ونجده، من جهة أخرى، يحرص على إشاعة أجواء التكافل بين المسلمين، نذكر على سبيل المثال: قوله صلى الله عليه وسلم: “من فطّر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا” رواه الترمذي وصححه ورواه غيره.
ونختم بتسليط بعض الضوء على يوميات رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، ونصغي إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وهو يقول: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة” أخرجه البخاري. جعلنا الله ممن يقولون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون.
* الرئيس الشرفي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين