تهديدات الإرهاب في الساحل .. خلفيات استهداف تنظيم “داعش” للمغرب

يسلط الشرقاوي الروداني، الخبير في الدراسات الجيوإستراتيجية والأمنية، في دراسة جديدة الأضواء على الأسباب الكامنة وراء استهداف المغرب من طرف “داعش” المتواجد في الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء.
وفي هذه الورقة التي توصلت بها هسبريس يفكك الروداني الإرهاب الذي يقوده تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى التابع لـ”داعش” والعلاقات التي ينسجها مع الفصائل المسلحة للبوليساريو وتنظيمات إرهابية أخرى.
كما تعرج المقالة المعنونة بـ “المغرب في مواجهة الإرهاب في الساحل: لماذا يُستهدف المغرب من قبل “داعش”؟” على كرونولوجية تأسيس تنظيم “داعش” في الساحل، وعلاقته بجماعة السلفية للدعوة والقتال، وعلاقة أحد مؤسسيها عبد الرزاق البرا بعدنان أبو وليد الصحراوي، مؤسس تنظيم الدولة في الساحل…
في ما يلي نص المقال:
يحتل المغرب، الواقع عند تقاطع إفريقيا وأوروبا والعالم العربي، موقعاً جيوإستراتيجياً حاسماً يجعله ركيزة للاستقرار الإقليمي، لكنه في الوقت ذاته عرضة للطموحات التوسعية للجماعات الإرهابية من منطقة الساحل الصحراء. ولذلك، تعتبر الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، التي يقودها أبو البراء الصحراوي، إضافة إلى بعض الفصائل المنشقّة من جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، ومن بوكو حرام، ومن القاعدة في المغرب الإسلامي، المغرب عقبة رئيسية أمام توسعها نحو أوروبا. ولتفهم أصول الفوضى التي تجتاح منطقة الساحل بشكل كامل، من الضروري تتبع تاريخها ومن وراءها.
ينبع صعود الجهاد في هذه المنطقة من تطور المجموعة السلفية للدعوة والقتال، التي نشأت في الجزائر في التسعينيات إثر انفصالها عن المجموعة الإسلامية المسلحة. ويمثل هذا الانفصال نقطة تحول إستراتيجية، إذ رفضت الجماعة السلفية للدعوة والقتال التجاوزات العشوائية للجماعة الإسلامية المسلحة (GIA) لصالح توسع أكثر تنظيماً يهدف إلى ترسيخ نفوذها خارج الحدود الجزائرية. وقد اعتمدت المجموعة منهجاً أكثر حسابية، متخلية عن العنف العشوائي لصالح توسع منهجي على مستوى المنطقة برمتها.
بدافع من شخصيات بارزة مثل عبد الرزاق البرّا، واسمه الحقيقي عماري صائفي الذي يقضي حالياً عقوبة الإقامة الجبرية في الجزائر تمكنت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من بناء تحالفات إستراتيجية مع شخصيات مؤثرة في الجهاد الساحلي، لاسيما إياد أغ غالي. وقد أسهمت هذه الروابط في ترسيخ الجماعة السلفية للدعوة والقتال (GSPC) ضمن التيار الإرهابي العابر للحدود بشكل دائم، ما عزز شبكة تمتد عبر منطقة الساحل؛ وقد سهّل هذا التوجه من استقرارها في الساحل وتقاربها مع فصائل محلية أخرى. ففي عام 2007 أقسمت المنظمة الولاء للقاعدة وتحولت إلى القاعدة في المغرب الإسلامي (AQMI)، ما عزز نفوذها على أراضٍ واسعة. ومع ذلك أدت الضغوط العسكرية في الجزائر وإعادة تنظيم الجماعات الجهادية إلى ظهور هياكل جديدة أكثر تكيفاً مع السياق الساحلي. وفي هذا الإطار ظهرت نصرة الإسلام والمسلمين التي جمعت عدة فصائل تحت قيادة إياد أغ غالي. وتعكس هذه التطورات تكيف الجهاد مع البيئة الساحلية، باستغلال ضعف الدول والتوترات الطائفية لتوسيع السيطرة على المنطقة.
ومع ذلك تأثرت التحولات داخل الجماعات الجهادية في الساحل التي كانت ترتبط في الأصل بـ”القاعدة” بعمق بظهور تنظيم “داعش” في المشرق (العراق/سوريا). فقد تطورت فصائل مثل أنصار الدين، والمرابطون، وحركة الوحدة والجهاد في غرب إفريقيا (MUJAO) تدريجياً، ما شكّل انقساماً أيديولوجياً وإستراتيجياً. وفي عام 2015 أدى انقسام داخل “المرابطون” التي نشأت من انفصال عن “القاعدة في المغرب الإسلامي” إلى إنشاء “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”، التي أقسمت الولاء للدولة الإسلامية في المشرق (داعش).
يرتكز عمل الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى بشكل رئيسي في مالي شمال، خاصة في منطقة غاو وكيدال، وتعمل على طول الحدود بين مالي والنيجر، وتمتد عملياتها حتى بوركينافاسو؛ ومن أبرز أعمالها كمين 4 أكتوبر 2017 ضد دورية مشتركة أمريكية نيجرية قرب تونغو تونغو (النيجر)، أسفر عن مقتل ثمانية جنود (أربعة أمريكيين وأربعة نيجيريين). وكشف هذا الحدث عن خطورة العمليات التي ينفذها التنظيم وقدرته على ضرب أهداف دولية، ما عزز مكانته كتهديد رئيسي للأمن الإقليمي والغربي.
علاوة على ذلك، رغم أن التحالف الدولي ألحق هزائم فادحة بـ”داعش” في سوريا والعراق استطاع التنظيم أن يعيد تنظيم صفوفه وينتقل إلى مناطق مواتية لتوسعه، وبشكل خاص في إفريقيا جنوب الصحراء.
وبحسب مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2023 يُعتبر “داعش” مسؤولاً عن أكثر من 25٪ من الوفيات المرتبطة بالإرهاب في القارة، ما تسبب في وفاة الآلاف من الأشخاص، من بينهم أكثر من 6800 في منطقة الساحل عام 2023، وهو رقم يساهم فيه “داعش” ومنظماته المتحالفة، مثل الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى بشكل ملحوظ. ومن ناحية أخرى فإن التأثير الاقتصادي للإرهاب في إفريقيا مدمر؛ إذ تقدر الأمم المتحدة خسائر إجمالية بحوالي 119 مليار دولار بين عامي 2007 و2016، بينما تبلغ النفقات الأمنية السنوية ما يقرب من 84 مليار دولار، ويتسبب النزوح السكاني في خسائر اقتصادية تُقدر بنحو 312.7 مليار دولار.
ليس سرا على أحد أن هذا التهديد يتجاوز الإطار الأيديولوجي، إذ يُشكل جزءاً من لعبة جيوسياسية تستهدف المملكة. ففي منطقة المغرب العربي التي تميزها الطموحات الجيوسياسية والتوترات الدبلوماسية يُفسر صعود الجماعات الإرهابية بتآزر عوامل هيكلية عدة. إن هشاشة الدول الساحلية التي تعاني من عدم القدرة على ترسيخ نظام أمني فعال تخلق فجوات يستغلها المتطرفون، بينما تسهل مسامية الحدود التبادلات غير المشروعة من المخدرات والأسلحة والاتجار بالبشر وحركة المقاتلين عبر الحدود، فيما تُفاقم التدخلات الخارجية وبعض القوى المحدثة للفوضى دون الدولة الموجهة بمصالح إستراتيجية، خاصة من عدم الاستقرار الإقليمي.
وعلاوة على ذلك فإن النزاع المستمر بين المغرب والجزائر، الذي يُعزز التنافس الإقليمي عبر الدعم الدائم الذي تُقدمه الأخيرة للحركة الانفصالية البوليساريو، يُزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي. وهذا المزيج من العوامل يُهيئ بيئة ملائمة لتوسع التهديدات الأمنية، ما يستدعي استجابة منسقة لاستعادة الاستقرار في المنطقة؛ إذ يُنظر إلى المغرب، بفضل قربه والتزامه الأمني، كحاجز يمنع تقدم هذه التهديدات نحو دول شمال غرب أوروبا.
ومن هذا المنطلق أدرك المغرب تمام الإدراك تحديات الأمن المعاصر، فقام بوضع عقيدة دفاعية قوية ترتكز على تعزيز أمنه الوطني وتحسين تحالفاته الإستراتيجية. واعتماد المملكة على نهج استباقي وشامل جعلها لاعباً رئيسياً في استقرار المنطقة، مستندة إلى بنية أمنية متطورة تضم قدرات مراقبة متقدمة، وتنسيقاً فعالاً بين مختلف الجهات، ونظاماً لمكافحة التهديدات الهجينة؛ وقد مكنتها عملية تحديث قواتها الأمنية ودمجها تقنيات متطورة وبنية استخباراتية حديثة مع المراقبة الإلكترونية من توقع المخاطر الناشئة وتحييدها، كما أن تعزيز شراكاتها الدولية، لاسيما مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول إفريقيا، يعزز موقفها كجهة رئيسية للاستتباب الأمن.
وفي هذا السياق يقوي المغرب موقعه الإستراتيجي في مكافحة الإرهاب من خلال نشر استخبارات عملياتية فعالة وتعزيز قدرات قوات دول الساحل الإفريقي عبر برامج تدريبية متخصصة ضمن إطار عمل مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في الرباط؛ ويتيح له التزامه النشط بالمبادرات متعددة الأطراف، مثل مجموعة فوكس إفريقيا، أن يلعب دوراً محورياً في تحييد الشبكات الجهادية والسيطرة على التهديدات العابرة للحدود.
الطموحات الإرهابية في الساحل.. تهديد متزايد على المغرب
تجعل هذه المقاربة المتكاملة من المغرب معقلًا للصمود ونموذجًا للتكيف مع التحديات الأمنية المتطورة باستمرار. وكشريك إستراتيجي للولايات المتحدة وأوروبا تسهم المملكة في حماية الجناح الجنوبي للتحالف الأطلسي والسيطرة على تدفقات الهجرة غير النظامية نحو أوروبا؛ وتعتمد قوتها في مجال الاستخبارات على بنية أمنية متطورة وتكامل بين عدة أجهزة أمنية رائدة. وتضمن هذه التنسيقات بين الجهات توقعًا فعالاً للتهديدات غير المتماثلة وقدرة على الرد السريع على الخلايا الإرهابية النائمة والفعالة، ما يعزز دور المغرب كركيزة للأمن الإقليمي والدولي.
وفي هذا السياق، ومنذ عام 2002، أدت هذه الديناميكية إلى تفكيك أكثر من 200 خلية إرهابية، بعضها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشبكات الجهادية العاملة في منطقة الساحل والصحراء، وفي سوريا والعراق. وبفضل إستراتيجية تجمع بين الاستغلال المتطور للاستخبارات ومكافحة التجسس التكنولوجي وتقنيات التحليل العميق للشبكات الإرهابية والإجرامية يضع المغرب نفسه كحصن إستراتيجي ضد التهديدات العابرة للحدود والتحولات في شكل الإرهاب المعولم. وفي هذا الإطار يُظهر المخطط الإرهابي الذي أحبطه المغرب عزيمة المملكة على مواجهة شبكات المتطرفين ذات الروابط العابرة للحدود؛ إذ كشفت أجهزة الاستخبارات عن شبكة سرية يقودها مسؤول رفيع المستوى، مسؤول عن العمليات الخارجية في تنظيم “داعش”، امتدت تأثيراته إلى قلب الأراضي المغربية. وتُعد عملية 19 فبراير 2025 مثالًا بارزًا على هذا الرد.
وبفضل معلومات استخباراتية دقيقة قدمتها المديرية العامة للأمن الخارجي نفذ مكتب مكافحة الإرهاب الدولي عملية إستراتيجية أدت إلى تحييد خلية إرهابية نشطة في تسع مدن مغربية. وتم القبض على اثني عشر مشتبهًا فيه، وصُودِرَ مخزون كبير من المتفجرات والأسلحة المتطورة والوثائق الحساسة في مركز لوجستي سري بمدينة الراشيدية، وهي منطقة حدودية حيوية مع الجزائر وقريبة من الساحل. ومن بين الاكتشافات الرئيسية وُجدت ترسانة مخفية تُظهر حجم المخطط والنطاق العابر للحدود للشبكات الجهادية. وكشفت التحقيقات المعمقة أن هذه الشبكة يقودها رئيس العمليات الخارجية لتنظيم “داعش” في الساحل، وهو المحرض على المخطط والمنظم للعملية، مدعومًا بفريق من المنسقين والمنفذين والميسرين اللوجستيين. وعلاوة على ذلك تؤكد الأدلة وجود ملاذ لوجستي إستراتيجي يلعب دورًا حيويًا في نقل الأسلحة من الساحل إلى المغرب، عبر ممرات تربط بين جاو وكيدال في شمال مالي، مرورًا بأرليت في النيجر، وصولًا إلى تمنراست في جنوب الجزائر. ويظهر تفعيل هذه الممرات مدى تطور دوائر التزويد الخاصة بالجهاد، ما يبرز الحاجة الماسة إلى تعزيز المراقبة في المناطق الحدودية والمحاور الحيوية لتهريب الأسلحة.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن عدم الاستقرار المزمن في منطقة الساحل يعتمد على عدة عوامل هيكلية، من بينها هشاشة الدول، ومسامية الحدود، والاضطرابات الجيوسياسية، وتدخل الجهات الأجنبية غير الحكومية.
وتشكل هذه العناصر أرضًا خصبة لتوسع الجماعات الإرهابية والحركات الانفصالية، التي تستغل هذه الثغرات لترسيخ نفوذها. وتلعب الجزائر، من خلال دعمها الحركة الانفصالية البوليساريو، دورًا غير مباشر في هذه الديناميكية الصراعية، ما يُسهم في زعزعة استقرار المنطقة. ومن الأمثلة البارزة على هذا التفاعل بين الانفصالية والإرهاب ما حدث عام 2016، حين كانت محاولة تعطيل معبر الكركرات، المعبر الحدودي بين المغرب وموريتانيا، بواسطة الميليشيات المسلحة التابعة للبوليساريو. وقد أدى هذا الفعل الإجرامي إلى تعطيل التدفقات التجارية بين البلدين، ما أعاق التعاون الإقليمي وشكل محاولة خلق مناطق رمادية تستغلها الشبكات الجهادية.
علاوة على ذلك تشكل معسكرات تندوف، الواقعة جنوب غربي الجزائر، مثالًا آخر على هذه المسامية؛ فبسبب ضعف السيطرة الجزائرية عليها تتيح هذه المعسكرات تسلل الأسلحة والتهريب وعبور المقاتلين إلى مسارح العمليات في منطقة الساحل، ما يغذي دوامة من العنف وعدم الاستقرار. بالإضافة إلى ذلك يظهر الارتباط بين الانفصالية والإرهاب في الساحل، من خلال نشأة وتوسع الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى؛ هذه الأخيرة أنشأها أبو عدنان وليد صحراوي، وهو عضو سابق في البوليساريو. وقد اعتمد هذا التنظيم الإرهابي على شبكات موجودة داخل الحركة الانفصالية لترسيخ وجوده. وتسهم هشاشة الحدود، وخاصة بين الجزائر وموريتانيا، إلى جانب غض العين عن الأنشطة الإجرامية من قبل السلطات الجزائرية تجاه أنشطة البوليساريو، في تسهيل نمو هذه الشبكات السرية وقدرتها على العمل بسرية تامة. ومن ناحية أخرى أدى سقوط القذافي في ليبيا، بالتزامن مع انتشار ملايين الأسلحة الخفيفة، إلى تكثيف عمليات تهريب الأسلحة بشكل كبير حتى اليوم.
وفي الواقع يسلط تقرير للأمم المتحدة نُشر عام 2022 الضوء على هذه التفاعلات، مشيرًا إلى حالات مثبتة من تهريب الأسلحة تمر عبر معسكرات تندوف. وتساهم هذه الأسلحة بشكل مباشر في تمويل الجماعات الإرهابية النشطة في مالي وبوركينافاسو والنيجر، ما يزيد من حدة العنف ويضعف هياكل الدول في الساحل؛ وتدعم هذه الوضعية التي تفيد بأن بعض الفصائل التابعة للبوليساريو رغم دعايتها تقيم علاقات انتهازية مع الجماعات الجهادية لتعظيم نفوذها وضمان بقائها في سياق إقليمي يتزايد فيه الانقسام. وهكذا يشكل التواطؤ بين الانفصالية والإرهاب في الساحل عاملاً مساهماً في تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي وتحت الإقليمي؛ إذ يخلق غياب السيطرة الفعالة للدول، وانتشار الأسلحة، وتساهل بعض الجهات الحكومية تجاه الحركات الانفصالية، بيئة ملائمة لتوسع الجماعات الجهادية.
المغرب.. حصن للأمن الأوروبي وفاعل رئيسي في التعاون الدولي
لا شك أن الجماعات الإرهابية تستهدف المغرب أيضًا في إطار إستراتيجية أوسع لزعزعة الاستقرار تهدف إلى فتح شق نحو أوروبا. وكآخر حاجز قبل الشمال الغربي للقارة الأوروبية يلعب المغرب دورًا حاسمًا في تحييد التدفقات الجهادية العابرة للحدود. لقد ساهم التعاون مع الأجهزة الإسبانية والأمريكية والفرنسية في تفكيك عدة خلايا إرهابية، إذ تُعد العملية المشتركة الأخيرة بين الأجهزة المغربية والإسبانية في نوفمبر 2024 في تطوان ومدريد مثالًا على تعاون أمني استثنائي. ومن الناحية الإستراتيجية يُعتبر المغرب شريكًا رئيسيًا للولايات المتحدة ضمن برنامج مكافحة الإرهاب عبر الصحراء (TSCTP)، حيث لعب تبادل المعلومات الإستراتيجي بين المديرية العامة لمراقبة الأراضي (DGST) ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) دورًا محوريًا في تحييد تهديدات تجاوزت بكثير حدود المغرب. ومن الأمثلة البارزة على هذا التعاون العملية التي استهدفت خلية “داعش” بقيادة كول بريدجز غونزاليس، حيث أدت القدرات المشتركة في مجال الاستخبارات إلى تفكيك شبكة إرهابية تعمل خارج الحدود الوطنية قبل وقوع هجمات محتملة؛ ما أبرز أهمية الاستخبارات العابرة للحدود في مواجهة التهديدات العالمية المرتبطة بالإرهاب.
ومدركًا أن مكافحة التطرف لا يمكن أن تقتصر على الإجراءات الأمنية فقط تبنى المغرب إستراتيجية شاملة تجمع بين الوقاية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية؛ فتقوم مؤسسة محمد السادس للائمة في إفريقيا بدور رئيسي في تعزيز صورة الإسلام المعتدل وتدريب الأئمة. ومع ذلك يعقد استمرار بروز بؤر إرهابية في منطقة الساحل وتورط جهات خارجية، مثل مجموعة فاغنر، استقرار المنطقة؛ إذ أدى فشل التدخلات العسكرية التقليدية إلى ترسيخ الجماعات الجهادية، ما يستدعي يقظة متزايدة وإعادة صياغة إستراتيجيات مكافحة الإرهاب.
ومن المؤكد أن النهج الأمني للمغرب لا يقتصر على حماية حدوده فحسب، بل يهدف أيضًا إلى احتواء التهديد الإرهابي قبل أن يصل إلى أراضيه. وبفضل التعاون المستمر مع دول الساحل والوكالات الامنية الغربية تمكنت الأجهزة المغربية من تعطيل عدة سلاسل إمداد بالأسلحة ومواجهة تمويل الجماعات الجهادية العاملة بين مالي والنيجر وليبيا. وفي الوقت ذاته تم تقليل تدفقات المقاتلين الأجانب العابرين من المغرب العربي إلى الساحل بفضل تكثيف الضوابط الحدودية والمراقبة الجوية وتبادل المعلومات مع الدول المجاورة. وهكذا يمتد النفوذ المغربي إلى المستوى السياسي والدبلوماسي، إذ ساهم المغرب في تغيير تصور الحلول طويلة الأمد لمواجهة عدم الاستقرار في منطقة الساحل من خلال الدعوة إلى نهج شامل يجمع بين الأمن والتنمية، وتنفيذ مشاريع تعاون اقتصادي ومساعدات إنسانية في المناطق الحساسة لتقليل جاذبية الجماعات الجهادية لدى الفئات المهمشة.
وعلاوة على ذلك، من خلال التصدي للهيكلة المالية للمنظمات الإرهابية، لعبت المملكة دورًا حاسمًا في تفكيك الدوائر السرية لتمويل الجهاد التي تمر عبر الجهات الجنوبية من المغرب وموريتانيا ومالي. وبفضل زيادة تتبع التدفقات المالية وتعزيز التعاون مع المؤسسات المصرفية الإقليمية تم تحديد عدة مصادر تمويل للإرهاب وحجبها، ما قلل من القدرة التشغيلية للجماعات المتطرفة.
نحو إعادة تعريف الإستراتيجيات الأمنية
تبرز التحديات في منطقة الساحل، التي تُعد إحدى البؤر الإرهابية الأكثر إصرارًا، حدود النهج الأمني البحت؛ فقد ساهم فشل التدخلات العسكرية التقليدية، ولاسيما تلك التي نُفذت في إطار عملية “بارخان”، في ترسيخ جماعات إرهابية تستغل تجزئة الدول وضعف المؤسسات المحلية. كما أن انتشار المرتزقة الأجانب، مثل مجموعة فاغنر، يزيد من تفاقم هذه الحالة، ما يجعل إعادة صياغة الإستراتيجيات الأمنية أمرًا ضروريًا. وفي مواجهة هذا الواقع يبرز المغرب كلاعب رئيسي من خلال تطوير نهج هجين يجمع بين استخبارات عالية الدقة، ودبلوماسية استباقية، ومبادرات للتنمية الاقتصادية. وتوضح عملية تحديث قدرات المراقبة، مقرونةً بالترويج لإسلام معتدل من خلال مؤسسات مثل مؤسسة محمد السادس للأئمة في إفريقيا، هذه الإستراتيجية متعددة الأبعاد التي تهدف إلى تجفيف منبت التطرف.
ولهذا فإن التهديدات غير المتماثلة في المستقبل ستتطلب يقظة متزايدة وابتكارًا دائمًا في الإستراتيجيات الأمنية. وقد يُعد انضمام المغرب إلى تحالفات استخباراتية عالية المستوى مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على غرار اتفاقيات “Five Eyes”، خطوة إستراتيجية هامة لتعزيز قدراته في مجالي الأمن السيبراني والاستخبارات الالكترونية؛ لأن مكافحة الإرهاب لن تتحقق بالقوة وحدها، بل بمزيج من التقنيات المبتكرة والتخطيط الإستراتيجي والتعاون متعدد الأطراف. وفي هذا السياق يلعب المغرب، بصفته قطباً أمنيًا في إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط والأطلسي، دورًا محوريًا في إعادة تعريف معايير الأمن العالمي.
المشهد الأمني في المنطقة والتحديات المستقبلية
يجد المغرب نفسه في قلب مشهد أمني معقد يتوسط بين مسؤولياته كركيزة إقليمية وطموحات التوسع الجماعي لجماعات إرهابية مثل الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى وفروعها، فضلاً عن الديناميات الانفصالية التي تجسدها فصائل البوليساريو؛ ويضعه موقعه الإستراتيجي والتزامه بالاستخبارات العملياتية المتقدمة في الصف الأول في مواجهة الإرهاب العابر للحدود. وبفضل عقيدة دفاعية قوية وتحديث مستمر لقواتها وتعاون دولي وثيق تبرز المملكة كجهة رئيسية لتوفير الأمن العالمي؛ ومع ذلك فإن هذه الفعالية في مجال الاستخبارات وتأمين الحدود تجعلها هدفًا مفضلاً لأولئك الذين يسعون إلى زعزعة توازن الاستقرار الإقليمي.
وفي ظل سياق جيوسياسي هش بالفعل يبدأ تهديد تنظيم “داعش” في إيجاد أرض خصبة متزايدة في قلب منطقة الساحل، متفاقمًا بسبب ضعف الهياكل الدولة والجمود الدولي. فإذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة ومنسقة فإن الوضع قد يصبح لا رجعة فيه؛ فبإعادة توطين أنشطته بشكل إستراتيجي في هذه المنطقة لا يقتصر دور التنظيم على بث الرعب محليًا، بل يهيئ أيضًا الأرض لمأساة عالمية.
والآن، أكثر من أي وقت مضى، أصبح من الضروري للمجتمع الدولي فهم حجم هذا الخطر والتحرك بشكل موحد. إن توسع “داعش” إلى ما وراء الحدود الساحلية، ولاسيما نحو أوروبا والأطلسي، ليس مجرد احتمال بسيط، بل هو واقع يتجلى تدريجيًا؛ وإذا لم يتحرك المجتمع الدولي بشكل حاسم وفوري فقد يتحمل العالم بأسره تبعات هذا الوباء الذي طالما اعتُبر بعيد المنال لكنه أصبح الآن على أعتابنا. لن يعد الساحل مجرد مختبر للرعب، بل سيكون نقطة انطلاق لزعزعة استقرار عالمي غير مسبوق. لقد حان الوقت للعمل قبل فوات الأوان، وفي مواجهة هذا السيناريو الكارثي يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك دون تأخير لمواجهة توسع “داعش” في منطقة الساحل وما بعدها. تخيلوا مستقبلًا تنتشر فيه الشبكات الجهادية من هذه البؤرة غير المستقرة إلى كامل القارة الإفريقية، مهددة حتى أوروبا ومناطق إستراتيجية أخرى.
هذا الخطر ليس مجرد تصور نظري، بل يمثل تهديدًا حقيقيًا لاستقرار العالم، وانحرافًا قد يحول مناطق الصراعات المحلية والمناطق الرمادية إلى بؤر للتطرف العابر للحدود. لقد حان الوقت لنقول ذلك بصراحة، حتى وإن استمر المتشككون والساخرون في التقليل من خطورة الوضع؛ فالوقت يداهمنا، وقد يؤدي تقاعس المجتمع الدولي إلى غرق العالم في أزمة أمنية لم يسبق لها مثيل، فقد تتحول منطقة الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء الى أفغانستان جديدة. إن وقت التحرك هو الآن، وإلا فإننا سنشهد انتشار التهديدات إلى ما يتجاوز تصورنا.
المصدر: هسبريس