محمد بنعيسى.. سفير الثقافة الذي تقلب بين أمواج الإذاعة والسياسة

جمع بين العمل الدبلوماسي والثقافي والتنموي والإعلامي، وهو مؤسس أحد أبرز المنتديات الثقافية في المغرب “موسم أصيلة الثقافي”. إنه محمد بنعيسى، الذي وافته المنية مساء أمس الجمعة عن عمر يناهز 88 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض.
كان مسار الراحل المهني شاهدًا على تنوع عطائه وتعدد مجالات اهتمامه، حيث شغل محمد بنعيسى أدوارًا رائدة في السلك الدبلوماسي والعمل السياسي، أبرزها كوزير للشؤون الخارجية والتعاون ووزير للثقافة، فضلًا عن تعيينه سفيرًا للمغرب لدى الولايات المتحدة.
مسار حافل في الإعلام والسياسة
وُلد بنعيسى في 3 يناير 1937 بمدينة أصيلة، حيث تابع دراسته الابتدائية قبل الانتقال إلى مدينة تطوان، ثم منها إلى مدينة الإسكندرية المصرية التي أكمل فيها دراسته الثانوية، قبل أن يضطر للعودة إلى المغرب بسبب العدوان الثلاثي على مصر.
وفي سنة 1960، عاد بنعيسى إلى مصر لدراسة الصحافة لمدة عام في جامعة القاهرة، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حصل هناك على شهادة البكالوريوس في علوم الاتصال من جامعة مينيسوتا عام 1961، ثم منحة من مؤسسة روكفلر لإجراء أبحاث في جامعة كولومبيا بنيويورك عام 1964.
بدأت مسيرة محمد بنعيسى المهنية عام 1963 كملحق إعلامي بالبعثة الدائمة للمملكة المغربية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ثم في دائرة الإعلام بالأمم المتحدة واللجنة الاقتصادية لإفريقيا في أديس أبابا بين عامي 1965 و1967.
وفي عام 1967، عُيّن مستشارًا إقليميًا في الإعلام لدى منظمة الأغذية والزراعة (FAO) في غانا حتى عام 1971، ثم انتقل إلى روما حيث شغل منصب رئيس قسم الاتصال ومدير الإعلام بالمنظمة حتى عام 1976. وخلال هذه الفترة، كان أمينًا عامًا مساعدًا لمؤتمر الغذاء العالمي للأمم المتحدة الذي انعقد بين نيويورك وروما عام 1975.
كما امتدت مسيرة محمد بنعيسى السياسية على مدار عقود طويلة، بدأها في عام 1976 عندما انتُخب مستشارًا في المجلس البلدي لمدينة أصيلة، ثم انتخب نائبًا برلمانيًا عام 1977، حيث شغل منصب مقرر لجنة الثقافة والإعلام. في عام 1983، انتُخب رئيسًا للمجلس البلدي لمدينة أصيلة، وهو المنصب الذي احتفظ به حتى عام 2021 حيث أُعيد انتخابه مجددًا.
شغل منصب وزير الثقافة بين عامي 1985 و1992، حيث ساهم في تعزيز المشهد الثقافي المغربي، ثم عمل سفيرًا للمغرب لدى الولايات المتحدة من عام 1993 حتى 1999، قبل أن يتقلد منصب وزير الشؤون الخارجية والتعاون من عام 1999 حتى 2007 في عهد الملك محمد السادس.
الثقافة.. جزء من حياة بنعيسى
كانت الثقافة محورًا أساسيًا في حياة بنعيسى، حيث أسس موسم أصيلة الثقافي الدولي عام 1978 عبر “جمعية المحيط الثقافية” التي أصبحت لاحقًا “مؤسسة منتدى أصيلة”، حيث حول مدينة أصيلة إلى منصة عالمية للتبادل الثقافي والفني، وهو ما أهّله للفوز بجائزة الآغا خان للعمارة عام 1989. كما كان عضوًا مؤسسًا لحزب التجمع الوطني للأحرار منذ عام 1978، حيث لعب دورًا بارزًا في تعزيز التعددية السياسية في المغرب.
تقديرًا لإسهاماته في الدبلوماسية والثقافة، حصل على العديد من الأوسمة الرفيعة، من بينها وسام ضابط العرش عام 1993، ووسام كومندار العرش عام 2002، ووسام كبير كومندار العرش عام 2008، كما نال جوائز دولية مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2008 وجائزة الإنجاز في مجال دبلوماسية حل النزاعات عام 2022. إلى جانب ذلك، كان محمد بنعيسى مستشارًا دوليًا وعضوًا في مجالس أمناء لمؤسسات فكرية وثقافية مرموقة مثل مكتبة الإسكندرية ومركز البحرين للدراسات الاستراتيجية.
خلال نهاية السبعينيات، شغل منصب مدير ورئيس تحرير جريدتي “الميثاق” و”AL MAGHRIB”، مما عزز حضوره كصوت ثقافي مؤثر. وفي عام 2009، أظهر انخراطه في تعزيز العلاقات العربية والدولية من خلال تأسيسه وعضويته كنائب ثانٍ لرئيس مجلس إدارة العلاقات العربية والدولية بالكويت. وفي عام 2011، نال جائزة شخصية العام الثقافية من معرض الشارقة الدولي للكتاب، بالإضافة إلى جائزة ملتقى الأقصر للفن التشكيلي، ما يُبرز التقدير الواسع لإسهاماته الفنية والثقافية.
عام 2012، عُيّن عضوًا في المجلس الاستشاري لمركز العلاقات الدولية والتنمية المستدامة، وشارك في إعداد مشروع التقرير الخاص بالأهداف الإنمائية للألفية. وفي عام 2015، كان من المؤسسين لمركز العلاقات الدولية والتنمية المستدامة ببلغراد، صربيا، مما يعكس التزامه بالتنمية المستدامة على المستوى العالمي.
كرّس بنعيسى حياته لتعزيز الحوار الثقافي والتنمية المستدامة، وجعل من أصيلة نموذجًا فريدًا للمدن الثقافية. وُصف بأنه رجل الثقافة والدبلوماسية والتنمية، حيث ترك إرثًا لا يُنسى أثرى به المشهد المغربي والعالمي، وحقق من خلاله توازنًا فريدًا بين المحلي والعالمي، وبين التراث والحداثة، إلى أن وافته المنية، تاركًا وراءه إرثًا عميقًا يشهد على إبداعه وتفانيه.
دبلوماسي.. عاشق الثقافة
ونعت القيادة الجماعية للأمانة العامة لحزب الأصالة والمعاصرة الفقيد محمد بنعيسى، مشيدةً بإسهاماته المتعددة في خدمة الوطن، حيث شغل الراحل عضوية المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة سابقًا، كما انتخب مستشارًا برلمانيًا خلال الولاية الانتدابية الحالية، إلى جانب رئاسة مجلس جماعة أصيلة.
وأشار “البام” في بلاغ له إلى أن الفقيد محمد بنعيسى عرف بشغفه الكبير بالثقافة والفنون والحوار الدبلوماسي العابر للقارات، حيث كرس جزءًا كبيرًا من حياته لتعزيز الإشعاع الثقافي لبلادنا وطنيًا ودوليًا، معتبرًا أن “بنعيسى نجح في تنزيل كل دعائم ومعالم “الدبلوماسية الثقافية”.
وكان المجال الثقافي بالنسبة لمحمد بنعيسى، يضيف حزب “الجرار”، “مشروعًا ينبض بالحياة؛ وجعله نبراسًا للحوار المشترك بين الشعوب وبكل اللغات”، مذكرًا بأنه أسس “جمعية المحيط الثقافية” التي ستحمل فيما بعد اسم “مؤسسة منتدى أصيلة”، والتي ستكون لها بصمة متميزة في المشهد الثقافي، من خلال تنظيم مهرجان أصيلة الثقافي الدولي الذي انطلق عام 1978.
وأشار “البام” إلى أن هذه المناسبة “أصبحت فضاءً دوليًا يجمع الثقافة والفنون والأدب بإسهام كبار المفكرين والفنانين والأكاديميين والسياسيين من مختلف أنحاء العالم، وكان ذلك نجاحًا في تحويل أصيلة إلى أيقونة ثقافية وتحقيق مزيد من الإشعاع لبلادنا على عدة أصعدة”، وفق تعبيره.
المصدر: العمق المغربي