ذكريات رمضانية أمد للإعلام

أمد/ يحمل رمضان نفحات روحانية، وصفاء للروح، ومعاني التراحم والتواصل الإنساني، والصبر، وتنقية النفس من الترهل الروحي، وصوم القلب عن الهموم الدنية.
أتأمل الصوم، فرصة لغذاء الروح، في هذا الزمن القاسي والجاف في إنسانيته، كما نعيشه تهذيباً للجسد والنفس، بالصلاة وتقوية نوازع التقوى وفعل الخير.
له مذاقه الخاص، وأجواؤه المتميزة، ويفتح للإنسان حقائب من ذكرياته، ويتذكر صومه في طفولته وشبابه، وحكايات رمضان في أكثر من بلد عربي وأجنبي، عاشها صاحبنا، في حله وترحاله.
يتذكر المرء رمضان طفولته وشبابه، وكيف كان أكثر ثراء وأعمق معنى، وأكثر تجسيداً لروح الصيام، وتعبيراً صوفياً نقياً.
تستعيد ذكرى قراءتك لقصة «أمير الممالك السبعة»، الذي خرج ذات يوم من قصره حافياً، في شهر رمضان، وراء «درويش» فقير عارف بالله، عابر سبيل.
وكان في عقل الأمير أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات لها، وقال له «الدرويش» في نهاية الرحلة: «قُل سيروا في الأرض فانظروا».. تأَملْ وتدّبَّر واعتبرْ، واستنبطْ سنن النجاح والهلاك، واستعد للمستقبل.
توقفت ذات يوم، أثناء زيارتي إلى متحف في مدينة اسطنبول، أمام لوحة فنية لوردة حمراء جميلة، يدور حولها «درويش» صوفي، وهُيئ لي أن «الدرويش» يراقص الوردة، ويناجيها ويشمها حيناً، ويُقبِّل قلبها، وبدا لي أنّه صائم، ومملوء بالحياة والمسرة والتقوى معاً.
أتأمل كيف صدَّقنا في مرحلة شبابنا أن شهر يونيو/حزيران هو أقسى الشهور، وفرحنا بشهر رمضان عام 1393ه.
وما حسبنا أن رمضان في عامنا هذا، وفي عام قبله، هما أيضاً من أقسى الشهور. توجَّعنا فيهما كلَّما شاهدنا على شاشات التلفزة أطفالاً يملؤهم الرعب، وهم يُقصفون بأقوى ما تم اختراعه من آلات القتل والإبادة والذكاء البشري والاصطناعي ويُعانون من الجوع والعطش والعري والبرد والفقد، لكنهم لا يستسلمون ويصبح الأنين مع الصبر كالتسبيح.
تحضر ليالٍ رمضانية من زمن مضى في الإمارات، حينما كانت البيوت متلاصقة، ويتبادل الجيران أطباق الطعام، كان الترابط الأسري، والألفة والتعاون والتراحم، وكان للأطعمة الشعبية مذاق خاص، وكان إيقاع الحياة هادئاً، وطعم الهريس واللقيمات والقهوة رائقاً، وصوت المسحراتي (أبو طبيلة) وهو يدور في الفرجان، له رنَّة «قم قومك أَخْيَر من نومك».
وتحضر ليالٍ رمضانية في القاهرة في الستينات والسبعينات، أجواء مفعمة بالحيوية والنشاط، حلقات الذكر والتواشيح والأمسيات الفنية، وأصوات قارئي القرآن المشهورين، ومقاهي «الفيشاوي» و«جروبي» و«ريش» و«دار الشاي الهندي» قرب ميدان التحرير، وموائد طعام في الشوارع، وذكريات التلفزيون المصري، والمسحراتي والكنافة البلدي وعرق السوس، وحكايات السياسة والحرب، وتحولات عاصفة خلطت «شعبان» «برمضان».
تحضر تقاليد متوارثة لليالٍ رمضانية في مدن عربية ومسلمة تتراءى في الخاطر، بيوت الشام العتيقة، وساحة الجامع الأموي، وصوت المسحراتي ينادي: «يا صايم وحِّدْ الدايم» والمقاهي الشعبية والدراما السورية، وأضرحة قادة وفلاسفة وشعراء عظام يجسدون رموزاً فذة لقوة الإرادة والتضحية وقوة العقل والروح والمحبة.
* تحضر «سرة» الأرض، وفي أول ليلة رمضانية، ينشر الفلاح المقدسي على مدخل بيته حفنة من سبعة أنواع مختلفة من الحبوب، كالقمح والشعير والذرة والعدس والحمص وغيرها، وكان يعتقد في أزمنة قديمة أن ذلك يمنع الأرواح الشريرة من دخول البيت (توقف عن هذه العادة منذ 58 عاماً، بعد أن دخلت هذه الأرواح الشريرة إلى شوارع القدس وأحيائها وجبالها).
كان صيام رمضان بهجة للأطفال، وكان مدفع تركي قديم ينطلق من مكان في أعلى مقبرة بباب الساهرة، ويتقاطر الناس للصلاة في المسجد الأقصى، وتزدحم المقاهي بالناس، ويستمتعون بالسماع للحكواتي، وهو يسرد سيرة أبو زيد الهلالي، وباعة جوالون يدورون في الشوارع منهم بائع العرقسوس والخرُّوب.
أما اليوم، فقد ذهبت الروحانية وتراجع التكافل الاجتماعي وقلَّت زيارات صلة الرحم بسبب منع التجول وفرض الطوق الأمني، وصارت ليالي رمضان (ناشفة) كما يقول المرحوم الدكتور صبحي غوشه في كتابه «الحياة الاجتماعية في القدس في القرن 20».
………..
في رمضان، هنيئاً لمن كان كالمطر، أينما وقع نفع، وسار بين الناس جابراً للخواطر، في سلوكه آية قرآنية، ولمن كان قريباً من الناس، يأَلف ويؤلَف.