من الخوف إلى الأمل: نظرة إلى ميثاق السودان التأسيسي

منعم سليمان
يتجادل البعض ويختلفون حول الحكومة التي ستُشكَّل بموجب ميثاق السودان التأسيسي الذي تم توقيعه أمس في العاصمة الكينية نيروبي. فكما أن هناك مؤيدين كُثرًا لها، هناك أيضًا من لديهم مخاوف من أن تؤدي هذه الخطوة إلى انفصال البلاد، وهي مخاوف منطقية ومشروعة بالنظر إلى سابقة انفصال جنوب السودان القريبة.
فكما جعل “الكيزان” الوحدة منفِّرة أمام الجنوبيين في السابق، وهذا ما يفعلونه الآن أيضاً، لأنهم لا يملكون سوى “بل بس” لإدارة قضايا التعدد والتنوع والتنمية المتساوية والمستدامة، وهذا طبعهم الأصيل، فهم خونة ولئام فطرة. ولكن أين كان المجتمع المدني والسياسي الذي يذرف الدموع الآن؟ لقد كان غائبًا تمامًا، فلم يفعل شيئًا، ولم يجترح مبادرة حقيقية جادة لجعل الوحدة جاذبة للجنوبيين في ذلك الوقت.
لا زلت أتذكر تفاصيل يوم 9 يوليو من العام 2011 جيدًا، وقد كنتُ في العاصمة جوبا، لحظة إعلان انفصال (استقلال) دولة جنوب السودان، أقف ضمن قلة قليلة (شمالية) أمام ضريح جون قرنق، ذلك الرجل الصالح الذي قدَّم روحه فداءً لوحدة البلاد، وكنا نستمع إلى الإعلان عبر مكبر الصوت القريب، ونذرف الدموع على حواف الضريح على وحدة لم نعمل كفاية من أجل تحقيقها.
لذلك، فلنتَّعظْ ونأخذ العبرة مما حدث، ولنُشعل شموع وحدة البلاد بدلًا من البكاء وإدمان لعن الظلام. ولنفعل ذلك الآن، قبل أن لا يكون هناك آن.
هذا فيما يخص المخاوف المشروعة وكيفية تحويلها إلى نعمة قبل أن تصبح نقمة. والملاحظة الجديرة بالإشارة هنا هي أن كثيرين ممن أبدوا مخاوفهم على وحدة البلاد لم يتطرقوا، ولو بلمحة، إلى الميثاق الموقَّع، الذي أراه، في تقديري الشخصي، أفضل وثيقة وُقِّعت في تاريخ السودان الحديث.
فالميثاق يتميز بالكفاءة والقوة والشمول، حيث تناول بشجاعة وعمق كل القضايا الحقيقية التي كانت دومًا سببًا رئيسيًا في شعور قطاع واسع من السودانيين بأن هذا الوطن ليس وطنهم، وأنهم مجرد ضيوف فيه. ومن بين هذه القضايا: إدارة التنوع والتعدد، وضمان عدم انحياز الدولة لأي هوية ثقافية أو عرقية أو دينية أو جهوية، بل الاعتراف بهذا التنوع وصونه، إلى جانب ضمان حق المواطنين في المناطق المهمشة بالتمتع بمواردهم ومقدراتهم، ومشاركتهم الفاعلة في السلطة المركزية، واتخاذ القرارات المصيرية التي تؤثر على حياتهم ووجودهم وكينونتهم.
هذه القضايا كانت السبب الرئيسي في اشتعال الحروب على أطراف البلاد، ودون مواجهتها وحسمها لن تتوقف حرب، ولن ينتهي تمرد.
وعلى ذكر الحروب، ما لفت انتباهي أيضًا في الميثاقوهذا أمرٌ مهم هو الإدانة الواضحة التي وردت فيه بشأن انقلاب 25 أكتوبر 2021 ضد الحكومة الانتقالية المدنية، واعتباره السبب الرئيس لما آلت إليه الأوضاع في البلاد، حتى انحدرت إلى حرب بلا هوادة كما نشهدها اليوم.
وهذا، إلى جانب كونه تأكيدًا لما أكدته هذه الحرب اللعينة، يحمل أيضًا اعترافًا صريحًا من قوات الدعم السريع، التي كانت شريكة في ذلك الانقلاب. وهو اعتراف، كما يستوجب التقدير، فإنه يُقرّ كذلك بعواقب الانقلابات العسكرية المدمرة على البلاد، مما يعزز ضرورة منع تكرارها في المستقبل.
لم يُبقِ الميثاق شاردة ولا واردة إلا أحصاها، لكننا نستعرض هنا بعضًا منها على سبيل الإضاءة فقط. ولعل من أبرز ما جاء فيه إقراره الواضح، الذي لا لبس فيه ولا غموض (ولا لف أو دوران)، بالعمل على تأسيس دولة سودانية جديدة، عادلة، ديمقراطية، وعلمانية، وفي الأخيرة يتجلى الوضوح كما الشجاعة، فلم يقعد البلاد سوى خوف وتلكؤ وتلكك ساستها ونخبتها في حسم علاقة الدين بالدولة!
إضافة إلى ذلك، أكد الميثاق على ضرورة إنشاء جيش وطني بعقيدة عسكرية جديدة، تعكس التنوع والتعدد، وترتكز على القومية والمهنية، مع خضوعه للرقابة والسيطرة المدنية الكاملة. كما شدد على أن يكون الجيش خاليًا من الحزبية والأيديولوجيا، وألّا يتدخل في الشأن السياسي أو الاقتصادي، وهو من أكثر البنود التي تبعث الطمأنينة في نفوس السودانيين بشأن مستقبل بلادهم.
لقد ظلت قضية الجيش، بصيغته التي ورثناها عن الاستعمار وأقرتها الحكومات الوطنية الأولى منذ الاستقلال، تمثل عقبة كَؤودًا، وحجر عثرة أمام تقدم السودان ورفاه شعبه. فبدلًا من القيام بدوره المهني، انشغل الجيش بالعمل في السياسة، وشن الحروب الداخلية، وإشعال الفتن القبلية ليبقى في السلطة ويستحوذ على الثروة بالقوة والقهر.
وهنا، تجدر الإشادة بتناول الميثاق لقضية سيادة البلاد، وهي مسألة لم يكن بالإمكان حسمها دون معالجة أزمة تأسيس الجيش. فبلا تجنٍّ أو اتهامات مجانية، وكما هو معلوم للناس كافة؛ لم تُنتهك السيادة الوطنية إلا في عهود الحكم العسكري الشمولي.
ولم يغفل الميثاق ضرورة حل وتفكيك حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، وجمعياتهما ومنظماتهما وواجهاتهما، ومصادرة جميع ممتلكاتهما وأصولهما، سواء كانت مسجلة باسمهما أو باسم أي من واجهاتهما أو منظماتهما، داخل السودان وخارجه، لصالح حكومة السودان.
وهذا يفسر ما ورد في الميثاق بشأن إنهاء الحروب، وتحقيق السلام الشامل، وضمان وصول المساعدات الإنسانية لمستحقيها، والابتعاد عن التنظيمات الإرهابية. فطالما لم يتم تفكيك هذا الكيان الإرهابي الفاسد واستئصاله إلى الأبد، فلن يتحقق أيٌّ من البنود الجوهرية التي أقرها هذا الميثاق التأسيسي.
هذا غيض من فيض مما تضمنه الميثاق، الذي أراهكما ذكرتُأهم وأوضح وثيقة طُرحت على الساحة السياسية. فلم يشهد تاريخ السودان السياسي الحديث، بكل ما صاحبه من تطورات دستورية، وثيقة أو ميثاقًا أو اتفاقًا أكثر أهمية من هذا الميثاق، من حيث الشمول والوضوح والقوة في طرح الحلول لمشاكل البلاد.
لذلك، فلنختلف حول الحكومةوأنا شخصيًا لم أحسم أمري بعد لأقول قولًا واضحًا وصريحًا بشأنها، ولا زلت، مثل كثيرين، أسيرًا لمخاوفيلكنني أؤمن أن أولى خطوات كسر هذه المخاوف ومواجهتها هي اختراقها. وليكن الاتفاق على الميثاق أولى هذه الخطوات.
وحدة البلاد لن تُصان بتعظيم المخاوف وترديد المرثيات، بل بوحدة الوحدويين أولًا، واتفاقهم على حدٍّ أدنى. وليكن هذا الميثاق هو ذلك الحد الذي نجتمع حوله، ونجعل منه ضامنًا لوحدة السودان لا مصدرًا لتمزقه.
وشخصيًا، لن أكون يومًا جزءًا من أي جماعة أو جهة تعمل على تمزيق البلاد أو الدفع بها نحو الانفصال. ولهذا السبب، لا لغيره، أقف مع هذا الميثاق. فليس هناك متسع من الوقت، فقد دُمّرت البلاد، وتآكل نسيجها الاجتماعي، ولم يتبقَ الكثير للملمة الجراح وخياطة الرتق مع اتساع الفتق. فلنعمل متحدين لجعل الوحدة هذه المرة جاذبة لا منفّرة، ولنبدأ من هذا الميثاق، (ميثاق السودان التأسيسي).
حفظ الله السودان .
المصدر: صحيفة الراكوبة