مسار الراحل محمد بنسعيد آيت إيدر .. نضال الحرية والعدالة والاستقلال

تحل الذكرى الأولى لرحيل المجاهد محمد بنسعيد آيت إيدر، أحد رموز النضال الوطني واليساري بالمغرب والوطن العربي، الذي وسم مسيرته بالنضال من أجل الحرية والعدالة والاستقلال.
وبهذه المناسبة أصدرت “مؤسسة محمد بنسعيد آيت إيدر للدراسات والأبحاث” كتابا يضم شهادات شخصيات مغربية وعربية وأجنبية حول إرثه النضالي، تبرز فكره ومواقفه ومسيرته التي امتدت لما يقارب قرنا من الزمن.
وفي هذا السياق، قدم عبد الإله المنصوري، الباحث والإعلامي المهتم بالشأن الثقافي، شهادته حول شخصية الراحل الكبير، متحدثا عن ارتباطه به وعن القيم والمبادئ التي ظل بنسعيد وفيا لها طيلة حياته، لافتا إلى أن شهادته “ليست مجرد استرجاع لمحطات من مسيرة رجل عايش تحولات المغرب الحديث، بل هي توثيق لروح مقاومة لم تنكسر، ولزعيم لم تغيره الظروف ولم تزعزعه تقلبات السياسة”.
وورد في شهادة الباحث المغربي، المعنونة بـ “محمد بنسعيد آيت إيدر.. حمّام الضمير الشاهد على عصره”، أن محمد بنسعيد آيت إيدر شكل منارة لكل المقاومات، ومرجعية نضالية فريدة تجمع بين الفكر والممارسة، وبين الالتزام السياسي والمبدئية الأخلاقية، مشيرة إلى أنه “ظل حتى أيامه الأخيرة وفيا لقناعاته، حاضرا بقوة في قضايا الوطن والأمة، وترك وراءه إرثا نضاليا يلهم الأجيال القادمة”.
نص الشهادة:
لم يكن رحيل المجاهد محمد بنسعيد آيت إيدر مجرد رحيل لرجل عادي، بل كان رحيلا لجزء من روح المغرب الذي واكب مساراته ومنعرجاته وقدم تضحيات من أجله لما يقارب قرنا من الزمان. وبالنسبة لي لم يكن الرجل مجرد زعيم أو قائد ملهم لأجيال متعاقبة من المناضلين والمواطنين، بل كان رمزا لمدرسة في العمل السياسي والفكري، عمادها الالتزام المبدئي والنزاهة الأخلاقية والربط التكاملي بين القيم والممارسة، مع الابتعاد عن المزايدات الشعاراتية وتكريس ثقافة الجمع والابتعاد عن عقلية الشقاق ومنطق الصراعات الضيقة، التي كانت تميزه عن أخلاق معظم محترفي السياسة في المغرب والوطن العربي.
كان الرجل حمّاما للضمير (مثلما كان المجاهد محمد الفقيه البصري يصف الدكتور عمر الخطابي أحد أغصان شجرة النضال الخطّابية) كلما زرته وناقشت معه أخرج بحكمة أو درس جديد. حدثني أكثر من مرة عن الخلل في منطق السياسيين والنخب وممارساتها وتحولاتها الفانتازية، فاستحضرت له تحليلا واردا في مقدمة ابن خلدون يتحدث فيه عن أخلاق التجار، فاستغرب لتطابق تحليل ابن خلدون قبل أكثر من ثمانية قرون مع تحليله اليوم لأخلاق النخبة السياسية أو معظم المنتسبين إلى تلك الفئة، التي لا يجد الكثير من أبنائها حرجا في تغيير أفكارهم ومبادئهم مثلما يغيرون ملابسهم.
كنت كثير الحرص على زيارته بين الفينة والأخرى للتزود من حكمته والاستزادة من تجربته الثرية التي يصعب الإحاطة بها، حيث جمعتني به علاقة شخصية خاصة منذ حوالي ربع قرن. أزوره دوما ويطلبني لزيارته أحيانا أخرى. وكنت أستغرب كيف لشخصية بهذا الحجم والتجربة ألاّ يتوانى عن طلب معرفة وضعية هنا أو تطورات أحداث هناك، خاصة على الصعيدين العربي والدولي. وكم كانت جلساتي معه ومن أصحبهم معي من مدارس فكرية متنوعة للقاء السي بنسعيد مشبعة بطاقة عالية من التفاؤل والإرادة الإيجابية، حتى لو كان الواقع دافعا على التشاؤم والإحباط. وبعد استقراري خارج المغرب لأسباب مهنية أصبح برنامج زيارتي للمغرب لا يكتمل إلا باللقاء معه. وكان كل لقاء معه قصة في حد ذاتها تستحق أن تُحكى.
ترافقنا في السفر عدة مرات وكان يزداد كِبَراً في عيني وفي القلب. كم لهذا الرجل من احترام وتقدير لدى كل الأطياف؟! أذكر زيارة لبلاد الشام سنة 2009 لحضور مؤتمر عربي ودولي لدعم تحرير الجولان من الاحتلال الصهيوني. كان الراحل الكبير نجم كل اللقاءات. وأذكر كم كان شعوره مزيجا من الأسى والعزم حين وقفنا على تلة في قرية “عين التينة” المحررة المقابلة لقرية “مجدل شمس” المحتلة في الجولان حيث يوجد فيها موقع لجيش الاحتلال الصهيوني. فمازحته قائلا: هذا مجالك السي محمد، منطقة ومرتفعات مناسبة للكفاح المسلح ضد الاحتلال أليس كذلك؟، فنظر إليّ بوجهه المستبشر بابتسامته الهادئة والجميلة دون أن ينبس بكلمة واحدة، حيث كانت إشاراته أحيانا أبلغ من الكلام.
وبعد العودة إلى دمشق كان موعدنا مع نايف حواتمة، الزعيم الفلسطيني المعروف، في أحد مقرات الجبهة الديموقراطية، حيث أصرّ على أن يكون الكلام لضيفه الكبير “خالد عبد الله”، ولم أكن حينها أعرف أن الأمر يتعلق بالاسم الحركي للسي بنسعيد، الذي أخذه من مواطن جزائري من تلمسان وعاش معروفا به في أوراقه الثبوتية طيلة فترة وجوده في المنفى الفرنسي، فاستدركت الأمر مخاطبا أبو النوف أنا أقدم لك السي بنسعيد كاملا ولا أقدم لك فقط جزء من حياته النضالية في المنفى. وكان لا يخاطبه إلا بلقب كبيرنا ومعلمنا. وهذا كان ديدن جميع قادة الثورة الفلسطينية بتياراتها ومدارسها المختلفة.. فتح وحماس والجهاد والجبهة الشعبية وغيرها.. ويتذكر الكثير ممن حضر أحد لقاءاته مع الشهيد إسماعيل هنية كيف كان يخاطبه بكبيرنا الذي تعلمنا منك النضال والمقاومة والصمود.. لأنه سبقهم جميعا في النضال من أجل فلسطين. فقد انخرط السي بنسعيد في صفوف النضال الوطني بالمغرب بتأثير من النكبة الفلسطينية سنة 1948، بل في نفس سنة وقوعها حيث تعلق بفلسطين حين زارها أحد معارفه وحكى مشاهداته لأحداث ثورة 1936، التي اندلعت عقب موجات المقاومة التي أطلقها الشهيد عز الدين القسام، والتي انتهت بالثورة العربية الكبرى التي استمرت حتى 1940.
كان الراحل الكبير دقيقا في مواعيده، ملتزما بها. أذكر أننا شاركنا في منتدى العدالة العربي الدولي من أجل فلسطين المنعقد في بيروت، حيث ترأس وفدا شعبيا مغربيا يمثل أطيافا متنوعة، وحين كنا نتفق على اللقاء صباحا نجده أول النازلين لفضاء الاستقبال المرة تلو الأخرى، أنيقا معطرا ممتشقا طربوشه المميز. لذا كان محط احترام الجميع. كنت شاهدا على حوار طويل أثناء حضور المؤتمر القومي العربي بالدار البيضاء سنة 2006 بينه وبين الدكتور حارث الضاري، رئيس “هيئة علماء المسلمين” التي أطرت مرحلة المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي للعراق، فكان حوارا بين الكبار حقا، استحضارا للتجارب واستخلاصا للدروس اللازمة لتحقيق الانتصار والنهضة. العراق الذي شكل سقوطه تحت الاحتلال جرحا مضاعفا له انضاف إلى الجرح الفلسطيني النازف. وكم كنت أحس بالفخر والاعتزاز حين يُعرَف المغرب به في المؤتمرات الشعبية والحزبية في الوطن العربي مشرقا ومغربا، وحتى في صفوف يسار أوروبا وأمريكا اللاتينية. إذ بمجرد ما تذكر أنك من المغرب يذكرون اسمه ويلهجون بصفاته النبيلة.
أما نزاهته ونظافة يده فلم يكن ليبلغها أحد. حكى لي الزعيم الوطني والقومي الراحل محمد الفقيه البصري ذات مرة في أواخر حياته كيف أن السي بنسعيد كان مكلفا بمالية المقاومة أثناء معركة التصدي للاستعمار، وكان يتسلم المبالغ التي تأتي من التبرعات، ولم يكن يملك شيئا، فلا تمتد يده لأموال المقاومة مهما كانت الظروف. وبقي نظيف اليد طول حياته، عفيفا كريم النفس حتى لقاء ربه وهو لا يملك درهما واحدا، بل ليس له أي تقاعد. بل إن الدولة نزعت منه قطعة أرضية بدعوى المنفعة العامة، كان قد اشتراها من إخوانه دون أن يأخذ التعويض القانوني المستحق، ولم يطلب تدخل أحد من مسؤولي الدولة لحل هذا المشكل، في حين كان لا يتوانى عن التواصل مع مسؤولي الدولة لحل مشاكل الناس واسترجاع حقوقهم. وقد كنت شاهدا على تدخله في قضية المقاوم الشهيد المدني شفيق، أحد مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي شارك بفعالية مع المقاومة في مواجهة الاستعمار الفرنسي، قبل أن يختطفه الجنرال محمد أوفقير ويقوم بتصفيته ومصادرة أملاكه بدون وجه حق، في مناطق مختلفة، خاصة تلك الموجودة بمنطقة الرأس الأسود شمال المغرب (المحتفظة بالاسم الاستعماري الإسباني كابو نيكرو) ليتم إلحاقها بهولدينغ “أونا”، الملكي الذي كان يعرف باسم “الشركة الوطنية للاستثمار” (SNI)، وتُبنى فوق أراضي الشهيد المدني شفيق فنادق وإقامات سياحية فاخرة، تقدر قيمتها بعشرات المليارات، وهي القضية التي تكلف النقيب عبد الرحيم الجامعي بالدفاع عن عائلة الشهيد فيها. وقد كنت شاهدا على جهود السي بنسعيد، الذي تابع هذا الملف بإصرار وصبر مع المستشار عمر عزيمان أملا في التوصل إلى اتفاق بين القصر الملكي وأبناء الشهيد المختطف، الذي ناضل السي بنسعيد بالموازاة مع ذلك حتى عثر على رفاته في إحدى مقابر منطقة اسباتة بالدار البيضاء وأعاد دفنها في مراسيم تليق بمقامه بالتنسيق بين “مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للدراسات والأبحاث” و”المجلس الوطني لحقوق الإنسان”.
لقد كان السي بنسعيد صاحب سيرة ناضحة بقصص التضحية والنضال دون كلل أو ملل، وهي السيرة التي رسمت صورته الناصعة في قلوب الناس، لذا نال احترامهم وتقديرهم ومحبتهم الكبيرة.
أذكر منها تمثيلا لا حصرا بالطبع أنه تم الاتفاق شهر غشت من سنة 2012 أن نعطي لمطالب حركة 20 فبراير دفعة جديدة في سياق صعود حركة الشعوب في إطار الربيع العربي، من خلال صياغة بيان يدعو إلى القطع مع ثقافة الإخضاع والعبودية التي تستهدف من خلالها المنظومة المخزنية في بلادنا إذلال الشعب عبر طقوس الركوع وتقبيل اليد التي تحط من كرامة المواطنين، فكان المجاهد محمد بنسعيد على رأس قائمة الموقعين على بيان حمل عنوان: “بيان من أجل الكرامة”. وأذكر أنني لما اتصلت به مستأذنا إياه بوضع اسمه ضمن لائحة الموقعين، خاطبني قائلا: كان يفترض أن نتخلص من هذه الطقوس المهينة للشعب والمسيئة لصورة المغرب منذ مئات السنين. وكان اسمه تاجا على رأس لائحة وقعتها رموز مغربية من تيارات متنوعة شجعها وجود اسمه، لتضاف الثقة الواسعة فيه وفي نزاهته وساما على صدره المليء بأوسمة الشجاعة والفخر وسيرته المنتصرة دوما لكرامة الإنسان.
كانت فضائل الرجل وأخلاقه كثيرة جعلت منه هرما شامخا ومثالا نادرا بين النخبة، لم تجعله يفقد مع ذلك تواضعه ودماثة أخلاقه وخفة دمه. فكان يحكي أحداث التاريخ ممزوجة بروح النكتة، لا يحمل الحقد لمن أساء إليه بالاتهام أو الشتم أو الاعتقال أو التعذيب أو النفي خارج الوطن. لذا كان الكثير من الأصدقاء يلحون في طلب مجالسته، وكنت أحيانا أصطحب معي الأستاذ أحمد المرزوقي، وكانت اللقاءات تستمر ساعات من النقاش والحكي والضحك حتى تدمع عينَا السي بنسعيد ضحكا وسعادة.
زرته ذات رمضان فاشتكى لي إلحاح الطبيب عليه أن يفطر ويبتعد عن الصوم بجكم إصابته بمرض السكري، وهو ما لم يكن يستسيغه ويقبله. ورغم محاولتي لفت انتباهه إلى أن الطبيب هو صاحب الأمر في هذا المجال وأن ذلك هو مقصد الدين في الحفاظ على الصحة، وأنك فقيه أعلم مني بالأمر، فكان جوابه أنه كان ينتظر أن أكون إلى جانبه في الأمر لكنني اخترت جانب الطبيب.
لا أدري كيف ساورني شعور في زيارتي له أثناء مرضه الأخير نهاية شهر يناير من السنة الماضية أن الوضع غير مطمئن، رغم أنني فوجئت باسترجاع قدرته على الكلام معي ليحكي لي ما وقع له، وليسألني عن تطورات طوفان الأقصى، الذي كان قد اندلع قبل بضعة أسابيع في فلسطين، رغم تأثير المرض الواضح على ذاكرته القوية في الأصل. شعرت بفرح طفولي يغمره حين اقترحت عليه أن نخرج للغداء في أحد المطاعم بضواحي الدار البيضاء مع بعض الأصدقاء بعد أن استأذنت زوجته الأستاذة سعيدة، التي كانت سنده وعماد بيته الذي يرتكز إليه، وكم كان فرحه طفوليا أكثر حين وجد نفسه وسط جمهور من الناس حيث كان الجو ممطرا وجميلا. تبادلنا فيه الضحك وودعناه دون أن نعرف أنه سيكون لقاؤنا الأخير.
بعدها ببضعة أيام نزل خبر رحيله كالصاعقة على الجميع، ليرحل السي بنسعيد عن هذا العالم جسدا احتضنته مقبرة الشهداء بالبيضاء، لكن قلوب المغاربة اتسعت لاحتضان قيمه وتخليد ذكراه، حتى يعلم من ضاق عقله بتشريف شارع في العاصمة العلمية باسم مجاهدنا الكبير أن لاسمه ونهجه ونبله في قلوب المغاربة مستقرا وملاذا..
المصدر: هسبريس