الجانجويد كما عرفتهم عامي 2002م 2003م (الجزء الثالث والأخير)

عمر القوني
مقدمة لابد منها:
انقطعت طويلاً عن الكتابة في هذا الموقع بسبب الكآبة التي أصابتني بسبب أخبار هذه الحرب اللعينة المستعرة في السودان، وكنت أظن أنها لن تستمر أكثر من بضعة أشهر حتى تنهار قوات الجانجويد، ويعود البرهان وأزلامه إلى الخرطوم وتعود حياة السودانيين إلى ما كانت عليه قبل الحرب، ولكن الحرب استمرت وتمددت وازدادت قبحاً إلى قبح، وكنا في بدايتها ندعو الله على البرهان وحميدتي وعلي كرتي، وعلى الجانجويد ومن يساندهم، ثم ازدادت القائمة حتى شملت كتائب البرَّاء بتشديد الراء بسبب جرائمهم التي ارتكبوها في حق المواطنين العزل، فآثرت الابتعاد عن أخبار السودان حفاظاً على صحتي العقلية، وطفقت أسافر في أمريكا الشمالية وأوروبا، ثم دول الخليج وأديت العمرة، ثم عدت قبل شهر إلى بيتي في كندا، وهأنذا أوفي بوعدي بالاستمرار في الكتابة عن الجانجويد كما عرفتهم بعد خففت أخبار الهزائم المتتالية التي مني بها الجانجويد بعضاً من الألم النفسي والكآبة عني.
ملخص ما سبق
كنت قد حدثتكم في الحلقة الأولى عن كيف تفتق خبث وسوء طوية علي عثمان محمد طه عن فكرة إخراج موسى هلال من السجن حيث كان يقضي عقوبته على جرائم نهب مسلح ارتكبها في دارفور، والإغداق عليه بالمال والسلاح ليقوم “بتأديب الغرابة حتى لا تقوم لهم قائمة” على حد قول مصدري نقلاً عن علي عثمان، وحدثتكم عن الإفطار الجماعي الذي حضرته في بيت قطبي المهدي في حي المطار، وعن حديث أحد مجاهدي القوات الخاصة بالدفاع الشعبي عن جرائم لا ترضي الله ورسوله ترتكب في دارفور، وأنه طالب قطبي المهدي بتبليغ رسالة إلى عمر البشير عن تلك الجرائم، وعن عواقب تسليح القبائل ضد بعضها، وطالبه كذلك بالإيعاز لعمر البشير بقصر التسليح على القوات النظامية والدفاع الشعبي.
ثم حدثتكم في الحلقة الثانية عن زيارتي للفاشر أوائل عام 2003م، حيث كان الشعور العام بعدم الرضا عن التسليح القبلي لمحاربة التورابورا كما كان يطلق على المتمرد خليل وجنوده في دارفور، وكان الاستياء سائدا حتى لدى القبائل المستعربة الذين كانوا يرون أنهم يتم استغلالهم في الحرب دون أن تلتفت الحكومة إلى تحسين أحوالهم، وكان بعضهم يشعر بالامتعاض تجاه قبيلة المحاميد بالذات لأنهم كانوا يشاركون بني عمومتهم من الأجانب القادمين من وراء الحدود في ارتكاب جرائم مريعة ضد المواطنين السودانيين العزل، حتى وصل الأمر إلى الاشتباك المسلح بين بعض المتفلتين من المحاميد سودانيين وأجانب من جهة وبعض زملائهم في “القوات الصديقة” والقوات المسلحة والدفاع الشعبي من جهة أخرى حين شرع المحاميد في ارتكاب جرائم لا أخلاقية ولا إنسانية في منطقة كتم، فحدث الاشتباك بين الطرفين فاستشهد عدد من جنود وضباط القوات المسلحة ومجاهدي الدفاع الشعبي وهم يدافعون عن حياة الأبرياء وأعراض النساء، ولكن الحكومة تكتمت على الخبر فلم تتناقله وسائل الإعلام الوطنية.
وأواصل اليوم ما انقطع من حديث فأقول إن القوات الصديقة كما كان يطلق على الجانجويد في أوائل عام 2003م كانت مقيمة في مدرسة ثانوية في الفاشر، وكانت المدرسة قريبة جداً من قيادة الفرقة السادسة، وكنت أرى مجموعات منهم يذهبون إلى داخل الفرقة لاستلام أسلحتهم، وكانوا يلبسون الكدمول، وأكرر مرة أخرى وأقول إني لم أسمع بهذا الاسم قط قبل اشتعال هذه الحرب، إذ كنا نسمي الكدمول بالعمة التشادية، لأننا لم نر غير التشاديين يلبسونه، ولم أر سودانياً قط يلف عمامته على هذه الشاكلة لا في دارفور ولا في غيرها، فذهبت يوماً إلى داخل قيادة الفرقة السادسة، إلى حيث كان يتم تسليح الجانجويد، فوجدت ضابطاً برتبة ملازم أول اسمه خالد، نسيت اسمه الكامل ولكني أذكر أنه من الدفعة 45 أو 46، وكان مشرفاً على تسليح الجانجويد، فكان هذا الملازم يسأل الجانجويدي عن اسمه وعن قبيلته وشيخ قبيلته، فيقوم عسكري بتسجيل هذه المعلومات في دفتر، ثم يلتقط العسكري سلاحاً من بين كمية كبيرة من الأسلحة كانت موضوعة على مشمعات فرش على الأرض، فيكتب رقم السلاح في الدفتر، ثم يناول السلاح إلى الجانجويدي، ثم يعود الجانجويدي إلى المدرسة لينضم إلى زملائه، أو يذهب على وجهه ضارباً في الأرض، ولم يكن هنالك تدريب ولا تعليم على قواعد الضبط والربط، ولم أرهم يأخذون نمراً عسكرية، ولا تصدر لهم بطاقات، فقط يستلمون السلاح بناءً على القبيلة.
وكنا نصلي الصلوات الخمس في مسجد سيد الشهداء الذي يوجد داخل سور إدارة التوجيه المعنوي التابع للفرقة السادسة، وكان الكثير من مواطني حي الكرانك يصلون في هذا المسجد، ولكني لم أكن أرى أحداً من القوات الصديقة يأتي ويصلي معنا في المسجد، برغم أنهم كانوا يمرون أمامه بالمئات في كل الأوقات، وهم يسمعون الأذان، وكانت المدرسة الثانوية التي يقيمون فيها قريبة جداً من المسجد، ولاحظت وجود مصلى داخل سور المدرسة وعليه مكبر صوت، بيد أني لم أسمع صوت آذان ينبعث منه أبداً، وفي يومٍ من الأيام ذهبت إلى ذلك المصلى داخل المدرسة في وقت صلاة الظهر، فأذنت للصلاة، وانتظرت وانتظرت، ولكن لم يحضر أحد للصلاة معي، فأقمت الصلاة وصليت وحيداً، ثم خرجت من المسجد، فسألت أحدهم لماذا لم يأت أحد منهم للصلاة معي وقد سمعوا الأذان، فضحك، وقال لي ما معناه أنه لا يظن أن أحداً منهم سجد لله سجدة واحدة في حياته قط.
ثم تجولت داخل سور المدرسة فوجدت مجموعة منهم متحلقين حول رجل منهم جالس على عنقريب، والآخرون جالسون على الأرض، فعرفت أنه أحد كبرائهم، فذهبت وجلست معهم، فوجدته يتحدث بلهجة غريبة عن كيف قاموا بنهب بنك في نيالا، وكيف أخذوا المال ووضعوه على “الوتيرهنانا” على حد تعبيره، والوتير كلمة تشادية فرنسية الأصل voiture وتعني السيارة و”هنانا” كلمة تشادية تعني حقتنا باللهجة السودانية، أي أنهم أخذوا المال من البنك ووضعوه في سيارتهم، فعرفت أنه تشادي، فسدر يتفاخر بنهبهم البنك، وحدثنا أنه تم القبض عليهم وإيداعهم السجن، فسألته عن كيفية خروجه من السجن، فقال متهكماً أن الحكومة ليس لديها رجال يحاربون التورابورا، فلذلك أخرجوه وباقي أفراد عصابته من السجن وأحضروهم إلى الفاشر وسلحوهم ليقاتلوا متمردي التورابورا نيابة عن الحكومة، ولم تصدمني كلمات هذا الرجل، لأني كنت على علم أن موسى هلال نفسه تم إخراجه من السبب بذات الطريقة ولنفس الغرض، ولكني صدمت لانعدام هيبة الدولة والقانون في قلب ذلك الرجل، ثم عدت إلى بيت مضيفي نادماً على إضاعة صلاة الظهر في جماعة، ولم أعد إلى تلك المدرسة ثانية حتى غادرت الفاشر.
كان عدم الضبط والربط هو الوصف السائد على قوات الجانجويد، وكانوا يطلقون النار بشكل عشوائي ويخلقون فوضى ويخيفون سكان الفاشر، فكان الناس يهربون إلى بيوتهم ويغلقون الأسواق، وكان ذلك يحدث مراراً في اليوم الواحد، ولم يكن بوسع قيادة الفرقة السادسة فرض الضبط والربط عليهم، كأن مهمة الفرقة تنتهي بمجرد تسليح هؤلاء المجرمين وقطاع الطرق بلا تدريب ولا تهذيب، واتفق أن حضر ضابط برتبة رائد من الخرطوم ، جمعني به مجلس أمام بيت مضيفي في حي الكرانك بعد صلاة المغرب فكان يتحدث بأسلوب ينم عن انتمائه إلى الحركة الكيزانية، وكان معنا بعض الضباط في المجلس ممن يفوقه رتبة، ولكن إذا تكلم الرائد أنصتوا له كأن على رءوسهم الطير، فعلمت أنه أعلى منهم رتبة في التنظيم الحركي، وإن كان أدنى منهم في التراتبية العسكرية، تماماً مثل الرائد إبراهيم شمس الدين الذين كان يتوقع من اللواءات أن يرفعوا له التمام إذا زار وحداتهم، وكان الرائد يجلس على يميني، وفجأة سمعنا صوت إطلاق نار كثيف من جهة المدرسة الثانوية التي يسكنها الجانجويد، فلم نعر الأمر اهتماماً لتعودنا على ذلك، ولكن فجأة سقط شيء خلفي وخلفه، فقام الرائد ليرى ما هو فعاد بقطعة حديد، وقال إنها بقايا “كلينكيت” أي مقفوذ صاروخي، ثم تنحى جانباً وقام بالاتصال بهاتفه المتحرك، ولم أدر في ذلك الوقت بمن اتصل، ولكني أظنه اتصل باللواء عصمت قائد الفرقة السادسة، ولهذا الظن سبب سيتبين للقارئ لاحقاً، فكان الرائد يتحدث بغضب مما حدث، فإطلاق النار بواسطة الأسلحة الخفيفة كل ليلة شيء وإطلاق مقذوف صاروخي باتجاه حي الكرانك حيث يسكن الضباط وكبار موظفي الدولة شيء آخر، وبعد الفراغ من اتصاله عاد إلينا الرائد ولما ينحسر غضبه فاستأذن وانصرف، ثم انفض المجلس.
وفي اليوم التالي أمر اللواء عصمت قوات الجانجويد بالخروج من الفاشر والانتقال إلى شمال دارفور حيث يتمركز المتمرد خليل وقواته في دار زغاوة، ويا ليت اللواء عصمت تركهم في الفاشر، فبدلاً من الذهاب إلى الشمال، اتجه الجانجويد جنوباً وأحرقوا مائة وعشرية قرية وقتلوا ونهبوا واغتصبوا، وقتلوا الآلاف من الأبرياء الذين لم يكن لهم علاقة بخليل وجنوده، وكل ذلك حدث في غضون أربع وعشرين ساعة من خروجهم من الفاشر، ولم تكن تلك القرى المائة والعشرين واقعة في مناطق التمرد، وانقطعت حركة السفر بين الفاشر ونيالا تماماً، وكنت أريد الذهاب إلى نيالا لزيارة عمي وأسرته قبل العودة إلى الخرطوم، ولكن لم أستطع بسبب جرائم الجانجويد، والجدير بالذكر أن الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة في ذلك الوقت اللواء محمد بشير سليمان تكلم عن تلك الجرائم وأقر بحدوثها على التلفزيون القومي. ثم غادرت الفاشر إلى نيالا بالطائرة، ثم من نيالا إلى الخرطوم بطائرة أخرى، ثم ألقيت الوداع الأخير على السودان، متشائماً قلقاً على مستقبله.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة