السَّير إلى الله سير قلوب لا سير أبدان!!

في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عند الشيخين، يبيّن عليه الصلاة والسلام حقيقة القلب فيقول: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”.
القلب هو موضع نظر المولى سبحانه من عباده: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”، فبالقلب يعلم العبد أمر ربه ونهيه، وبه يحب العبد ربه ويخافه ويرجوه، وبالقلب يفلح العبد وينجو يوم القيامة، وبالقلب يقطع المرء سفره للآخرة، فإن السَّير إلى الله تعالى سير قلوب لا سير أبدان، كما يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله.
ولذلك، نجد في كتاب ربنا آيات كثيرة تتحدث عن أعمال القلوب، وأعظم هذه الأعمال، بلا ريب، هو الإيمان الذي هو الدين كله، ونحن الذين خاطبنا الله سبحانه باسم الإيمان، حيث قال: {يا أيها الذين آمنوا}، والمقصود بالذين آمنوا هم الذين استجابوا لله تعالى، وأذعنوا ظاهرا وباطنا، قولا وعملا.
ومن هنا، نلاحظ أن الله سبحانه يخاطبنا بذلك، ويبيّن لنا أهمية القلب، فمثلا، لما جاء الأعراب وقالوا كما حكى القرآن عنهم: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}، فالأعراب أسلموا، أي قد حصل منهم الانقياد الظاهر فحسب.
فالإيمان في الحقيقة هو إيمان القلب: {ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم}، وذلك في مخاطبة المؤمنين، فهكذا يكون تزيينه في القلب ودخوله فيه، أما المؤمنون السابقون فقد زيّنه في قلوبهم، وأما الأعراب فهو لم يدخل قلوبهم بعد، مع أن الجميع مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنحن، مثلا، في الصلاة كلنا في مسجد واحد، لكن بين هذا وذاك من التفاوت، بقدر الإيمان وبقدر أعمال القلوب من الإخلاص والخشوع والإنابة والإخبات.
أما أعمال الجوارح، فإنها لا تكفي من دون أعمال القلب، كما حصل في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم، في الرجل الذي أبلى بلاء شديدا في إحدى الغزوات، ومع ذلك فإن المصطفى صلّى الله عليه وسلم قال في شأنه: “إنه من أهل النار”، مع أنه ربما كان في تلك الغزوة من هو من أهل الإيمان والتقوى ومن أهل الجنة في الجيش، ولم يبل ذلك البلاء، وكذلك في الإنفاق والصدقة والإحسان وسائر أعمال الخير التي نعبد الله ونتقرّب بها إليه.
إذن، فالإيمان هو إيمان القلب، والتقوى أيضا هي تقوى القلب: {ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، وفي الصحيح: “التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات”، فمحل التقوى هو القلب، والتقوى تشمل كل أعمال الخير والبر والصلاح.
والقلوب أقسام ثلاثة: قلب سليم: {يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم} أي: خالص، متجرد لله، لا تشوبه شائبة من شرك أو نفاق أو رياء. وقلب مريض: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}، والنصوص التي تتحدث عن القلوب المريضة تشير غالبا إلى طائفة كبيرة محسوبة على هذا الدين وهم المنافقون الذين ينفقون ولكن ينفقون وهم كارهون، ويصلون ولكن يصلون وهم كارهون، ويخرجون للجهاد، ولكن: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} (خبالا)، أي اضطرابا في الرأي وفسادا فى العمل. وقلب ميت: وهو الذي لا حياة فيه، وصاحبه لا يعرف ربه بل يعرف شهواته، حتى لو كان فيها سخط ربه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه، رضي ربه أم سخط، فهو يحب غير الله، ويخاف غير الله، ويرجو غير الله، ويرضى لغير رضى الله، ويسخط لغير سخط الله، ويعظم غير الله، ويتذلل لغير الله، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فالهوى إِمامُه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه، فهو في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، لا يستجيب لناصح، فهو أجير الدنيا الفانية، وشقي من أشقيائها.. نسأل الله العافية.
* إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي براقي