شذرات لفهم العقل الجمعي
![](https://alarabstyle.com/wp-content/uploads/2025/02/67abc3309d8c4.jpg)
في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، يصف الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون كيف تنصهر التباينات الفردية داخل الجموع، ليتحول الأفراد إلى كائنات مشحونة او مدفوعة بالعواطف والغرائز، بمنزلة أقل عقلانية وأكثر قابلية للتأثير. لكن هل يختفي الفرد حقا داخل براثين “العقل الجمعي”؟ أين تنتهي فاعلية الفرد واين يبدأ تأثير الجماعة؟ هذا الإشكالات التي طرحها كوستاف لبون ضمنيا منذ أكثر من قرن، لا يزال صداها يتردد بقوة في عالمنا المعاصر، الذي يشهد تزايدا مطردا في قوة تأثير الجماعات على الأفراد. فمنصات التواصل الاجتماعي الجديدة، ووسائل الإعلام، والأحداث السياسية، كلها عوامل تساهم في تشكيل عقل جمعي ذو سطوة هائلة، قادر على التأثير في سلوك الأفراد وقراراتهم.
العقل الجمعي؛ أشكلة المفهوم وماهيته.
ان المجتمع باعتباره كيانا لا يتوقف تعريفه على المحددات المادية المورفولوجية فقط؛ من افراد ومجال جغرافي وثروة مادية يتم تداولها؛ فهذه المحددات قاصرة على الإحاطة بتعريف المجتمع ما دمت لم تحتضن معها محددات اخرى لا يكون المجتمع جديرا بهذا الاسم الا بها. نتحدث هنا عن وجود منظومة من الروابط الثقافية والاجتماعية والقيمية، المهيكلة لعلاقات و تفاعلات الأفراد في ما بينهم والنابعة من احتكاك بعضهم مع بعض في مجال جغرافي معين. حيث تعمل هذه المنظومة على تكريس وإضفاء هامش من الاتفاق الأخلاقي بين افراد المجتمع الواحد يغدو كتعاقد ضمني او علني ملزم لهم؛ كما يمكن ان تشكل كذلك نسقا لبناء ما يمكن ان نسميه الشخصية القاعدية او المنوالية لهؤلاء الأفراد والتي ترتد الى مجموع التماثلات الثقافية والسوسيومجالية التي توحدهم، كما تؤسس تدريجيا لعقل جمعي يسيج سلوكات الأفراد داخل قواعد ومعايير تشرعها الجماعة او المجتمع.فإلى ماذا يحيل مفهوم العقل الجمعي ؟ وكيف يتشكل؟ وما هي حدود تأثيره؟
العقل الجمعي او الوعي الجمعي او الضمير الجمعي. هي مفاهيم تصب في ذات المضمون، الا اننا قد ندرج مفهوم العقل الجمعي ونحن نتناول الجانب الضبطي للمجتمع. ويفصل عالم الإجتماع الفرنسي ايميل دوركايم (18571917)الذي صاغ نظرية العقل الجمعي، بين العقل الجماعي كشعور خارج عن ارادة الفرد وتصوراته, وبين التصور الفردي الذي لا يقيم له دوركايم وزنا في افتعاله للظواهر الإجتماعية 1. وان التصورات الفردية هذه تتكاثف بفعل عوامل عدة لتكون بذلك عقل جمعي خارج عن ارادة الأفراد، ما يشكل قهرا وإلزاما لهم. ومنه فإن العقل الجمعي وللوهلة الأولى عبارة عن ظاهرة او موقف اجتماعي يعجز فيه الأفراد عن النأي بأفكارهم ومواقفهم وقرارتهم لأنفسهم ويفترضون ان مواقف الجماعة وسلوكاتها هي الصحيحة وهي الجديرة بالإتباع.
ووجود العقل الجمعي يتجلى في تمظهراته المختلفة، وفي قدرته على اخضاع الأفراد له، وانخراطهم في تنفيد اليات الإلزام والقهر الاجتماعي بوعي او بدون وعي منهم. ونجد ان لكل فئة او جماعة اجتماعية او مجتمع، عقل جمعي يؤطره ضمن حدود الممارسات وقواعد السلوك المسموح بها؛ فكل تنظيم اجتماعي توحده معايير وقيم وأهداف، انما يرزح تحت عقل جمعي واحد؛ هذا العقل الذي تبلور معالمه منظومة من الآراء والاعتقادات والاتجاهات وطرق للتفكير، والتي تعمل اي جماعة اجتماعية على حقنها في افرادها بغية تأمين وحدتها وتحقيق غاياتها؛ وتستحيل هذه المنظومة مع التواتر الى قناعات راسخة لدى افراد الجماعة او المجتمع, آو الى بوصلة للسلوك الاجتماعي يغدو من الصعب المضي بدونها.
وعند محاولة الغوص في بنية العقل الجمعي؛ سنجده يتشكل جراء تداخل مجموعة من المكونات والعناصر التي تساهم في تقعيد وتعقيد نسيجه، ومن جملة المكونات والعناصر التي يجد فيها العقل الجمعي ضالته: التراكم التاريخي للعادات والتقاليد والأعراف تقديس الرواسب الثقافية والإبقاء على العمل بها المنظومة العقائدية من ايمان ديني وغير ديني تأثير اللغة والحكايات والأمثال والفنون الشعبية الطقوس و السحر والشعوذة التمثلات السائدة حول الموت والحياة الأحداث والتجارب التي عايشها المجتمع المناخ والمجال الجغرافي الإعلام النظام السياسي والاقتصادي المتبع، وتجدر الإشارة الى ان العامل الديني هو من العوامل التي مازالت تلعب دورا فعالا في تركيبة العقل الجمعي للمجتمعات التقليدية، وذلك باعتبار الدين عنصرا مهما في المنظومة الأخلاقية التي تتكئ عليها هذه المجتمعات. وتعد هذه المكونات والعناصر هي مصادر اساسية لسلوكات المجتمع وممارساته، وهي بمثابة المادة الخام التي تدخل في البناء التلقائي للعقل الجمعي، وتنعكس على البنى الذهنية لأفراد الجماعة او المجتمع الواحد، وتنسج بذلك شعورا مشتركا بينهم تذوب فيه كل التصورات والمشاعر الفردية، وذلك في نوع من “التوافق”2 الذي يكون في ظاهره اتفاق صامت وعفوي. وهنا يجب الأخذ بمنتهى الأهمية؛ التباين بين طبيعة انتظام عقل الجماعة الإجتماعية والانسجام الحاصل بين اعضائها، وطريقة انتظام المجتمع ومستويات التوافق الذي يحصل بين اعضائه.
وتختلف سطوة العقل الجمعي من مجتمع الى اخر، وبين كل من المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة، وذلك تبعا لشدة حضور عناصره ومكوناته او ضعفها او غيابها. فالمجتمعات التقليدية تعرف سطوة عارمة للعقل الجمعي، و ذلك بسبب حيوية وكثافة العناصر والمكونات المنسجة له؛ وعلى سبيل التوضيح يلعب تغلغل العادات والتقاليد والأعراف وقوة الانتماء التي تؤثث بنمط الأسرة الممتدة ونظام القرابة دورا هاما في اذكاء سطوة العقل الجمعي في المجتمعات التقليدية، واشعاع قهره على الأفراد واجبارهم على الدخول في دائرة الامتثال الاجتماعي. اما في المجتمعات الحضرية فإن الأمر يختلف، فحضور العقل الجمعي في هذه المجتمعات يكون حضورا ثانويا؛ ومرد ذلك الى ضعف العوامل الرئيسية الفاعلة في بنائه، وذلك بسبب طبيعة المجتمعات الحضرية التي تتميز بالاختلاف والتنوع واللاتجانس. ففي نظريته” الحضرية كأسلوب للحياة” رصد عالم الإجتماع الأمريكي لويس ورث (18971952) مجموعة من الخصائص التي يتميز بها نمط العيش دخل هذه المجتمعات وتؤثر مباشرة على صور الفعل الاجتماعي للأفراد دخلها، ومن هذه الخصائص نذكر: عقلانية التفكير نفعية المصالح تنافسية النشاط تخصصية المجال ثانوية العلاقات توتر المشاعر تعدد الولاءات… وهذه الخصائص بدورها، هي جسر لشيوع فلسفة عيش جديدة دخل هذه المجتمعات وهي الفردانية، والتي تناهض ما يمليه وما يفرضه العقل الجمعي. فمثلا لنأخذ خاصيتا العلاقات الثانوية وتخصصية المجال، كتجلي لضعف وتفكك العقل الجمعي في المجتمعات الحضرية؛ فالعلاقات الثانوية التي تطبع المجتمعات الحضرية، هي نتيجة لضعف او غياب روابط القرابة في هذا المجال، والتي تشكل احد ركائز العقل الجمعي. وأن التخصص في المجال كذلك دخل المجتمعات الحضرية، هو نتاج لوجود تقسيم جديد للعمل الاجتماعي معزز بأساس اخلاقي مخالف لما هو عليه الوضع في المجتمعات التقليدية.
كاستنتاج؛ فإن ضعف او غياب سطوة العقل الجمعي في المجتمعات الحضرية، هو تحصيل حاصل لضعف العوامل المؤثرة في تركيبته؛ فعامل الدين والعادات والتقاليد، يتلاشى بفعل الإختلاف والتنوع اللذان تعرفهما المجتمعات الحضرية الحديثة، وقوة الانتماء تضعف بسبب تعدد الجماعات وبالتالي تعدد ولاءات الفرد لها، هكذا الى ان نصل الى اندثار كلي للعقل الجمعي وذلك في بعض المجتمعات الموغلة في التحضر.
ختاما فإن العقل الجمعي هو عقل قهري، ومتسلط، ومقاوم لأي تغير، ويملك القدرة على اعادة انتاج نفسه باستمرار. وللعقل الجمعي سلبيات كما يمكن ان تكون له ايجابيات، ولعلى من ايجابياته ادخار وحدة الجماعة او المجتمع وللإبقاء عليها من اجل تحقيق أهداف حضارية مرسومة، مع العلم ان لكل مجتمع أهدافه وغاياته التي يضع لها معايير ووسائل للوصول اليها. ومن سلبيات العقل الجمعي؛ تكبيله لحريات الأفراد وخنقه للإبداع ولابتكار تحث دريعة الحفاظ على السائد والمألوف.
___________________
1 قواعد المنهج في علم الإجتماع, اميل دوركايم, ترجمة وتقديم محمد قاسم, مراجعة السيد محمد بدوي دار المعرفة الجامعية الإسكندرية, 1988,ص195196.
2 الجماعة والمجتمع حسب تونيس, اميل دوركايم, ترجمة محمد الإدرسي, منشورات مؤمنون بلا حدود,18 ننوفمبر2016.
3 ـ سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون، ترجمة وتقديم هاشم صالح، مراجعة السيد محمد بدوي، دار الساقي، بيروت، 1991.
المصدر: العمق المغربي