ترمب والتهجير .. ماهو حجم الحقيقة
![](https://alarabstyle.com/wp-content/uploads/2024/09/9_1499109513_2317.jpg)
أمد/ هزيمة سياسية كبيرة منيت بها الإدارة الأمريكية الجديدة عندما حاولت إدارة عقارب الزمن للخلف فطرحت ترحيل الفلسطينيين من أرضهم فكان مقترحا في غير وقته وفاقدا للسياق المنطقي للصراع فنحن في مرحلة العودة وتهشيم روح المشروع الصهيوني وإفشال عدوانه عن تحقيق أي هدف سياسي استراتيجي بعد أن سجلت غزة ملحمة التمسك بالحق والتشبث بالأرض رغم هول التضحيات.. فلقد ألغى طوفان الأقصى كثيرا من المسلمات السياسية و ألغى إمكانيات خطط كثيرة وافقد كبار الشياطين توازنهم وقدرتهم على تثبيت أقدامهم في المعركة فجاء اقتراح ترمب ليقوم بفحص حقيقة القوى في الأرض ومدى ترتيب الخريطة السياسية في المنطقة..
من جديد ماذا تعني فلسطين:
قضية فلسطين تتمدد في كل قضايا المنطقة والعرب والمسلمين سياسيا واستراتيجيا وامنيا وتاريخيا وروحيا ومستقبلا بحيث أصبح الوجود العربي وغاياته كلها مرتبط بالحالة التي تكون عليها فلسطين.. وترتبط بقضايا الصراع الكوني بين قوى دولية تبحث عن النفوذ والمصالح تاريخيا فللموقع من الخصوصية والتميز ما جعله دوما محل الأطماع والاستهداف من قبل كل الإمبراطوريات حيث يسجل الاستحواذ على المكان رمزية عالية بالإضافة لكل ما سبق من الفرس والرومان مرورا بالصليبيين والتتار ونابليون والانجليز وكذلك قوة المال الضخمة التي تشكل الحكومة الخفية التي تهيمن على القرار الدولي.. ولذا فان اي محاولة لحلها بمعزل عن معالجة امتداداتها وبدون تحييد قضايا الصراع الكبرى يكون كالحرث في البحر.. ومن هنا فهي عبارة عن مهماز لتحريك المنهوبين والمستضعفين والمشتتين والمهمشين وكشف أطراف العدو وان الدم المتدفق على ساحاتها الشريفة هو السراج المنير لنهضة المنطقة وقواها العميقة بل والضمير الإنساني وهي القلم الذي يرسم معالم الطريق نحو تغيرات عميقة في الاصطفافات والخرائط السياسية.. لقد سقطت فلسطين يوم انتصر النظام الدولي الجديد بل كان سقوطها تتويجا لانتصاره، ولقد سقطت فلسطين يوم حلت التجزئة بديار العرب والمسلمين وسقطت فلسطين بفقدان الامة لمنهجها وهويتها وقد أصبحت مقادة بجيل متغرب ومفاهيم دخيلة واستمر سقوط فلسطين لاستمرار تلك الأسباب جميعا ورغم عظيم تضحيات الحركات الوطنية إلا أنها كانت دوما دون مستوى تفجير المنظومة النفسية الفكرية التي تكرست في الأمة وتتحكم في ثقافة أبنائها وسياستهم واقتصادهم.. صحيح يكاد يواجه الفلسطينيون وحدهم حد السيف وصحيح ان حجم التضحيات فاق كل تخيل، ولكن هذه فلسطين المرتبطة بالدين والسيادة والرمزية والمصالح الإستراتيجية لكنها عتبة لمواجهات كبيرة في المنطقة يزيد استفزاز العدو تسريعها..
التهجير مسار طويل:
التهجير فكرة قديمة تبناها الغربيون لحل القضية الفلسطينية وانطلقوا من نظرية تفريغ فلسطين تماما من شعبها لكي يتم جلب جماعات بشرية من شتى الأرض اليها وكان ذلك تحت شعار:”أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” وحاولوا خلال عقود عديدة ان ينجزوها بمجازر وخناق قاتل وتغطية سياسية وإعلامية وعسكرية عارمة ولكنهم رغم ترحيل أكثر من 90 بالمائة من الشعب الفلسطيني من 80 بالمائة من ارض فلسطين ولم يتبق فيها أكثر من 100 ألأف نسمة الا ان هذا الجزء من فلسطين في اراضي ال1948 أصبح يضم في حضنه اليوم أكثر من 2 مليون نسمة.. وفي قطاع غزة والضفة الغربية أكثر من 5.5 مليون نسمة هذا فضلا عن وجود مايقارب 8 مليون خارج فلسطين معظمهم على حدودها..يتفاجأ مشغلي الكيان الصهيوني بأن عدد الفلسطينيين في فلسطين بعد ترحيل أكثر من نصفهم أكثر من اليهود الذين سخرت لهم كل الوسائل والحماية والإغراء لجلبهم من أصقاع الأرض.. وكان الحفاظ على مهمات الدولة المستحدثة يستدعي تنازلات إيديولوجية وفكرية عميقة في النظرة العلمانية الغربية للمجتمعات.. ففي حين يرفض قادة الغرب الليبرالي قيام دول على أسس عرقية او دينية على اعتبار انها حالة تكريس للعنصرية إلا أنهم في حالة الكيان الصهيوني أصبحوا رجال دين متطرفين يدعون لدولة يهودية صافية.. هم في الحقيقة لا يكونوا غيروا من عميق قناعاتهم بالوقوف ضد الدول الدينية والعرقية الا انهم يدركون ان هذا القانون ليس من مصلحة المشروع الاستعماري وعصابة المال المتحكمة في القرار الدولي فأصبح الخطاب الغربي يبدي مصطلحات ومعاني عنصرية بقناعة تروجها وسائل الإعلام والسياسة.
فوجئ هؤلاء بتطور عجلة الديمغرافيا وتقدمها في الواقع لإلغاء يهودية إسرائيل وبذلك إلغاء ضمانة المصالح الإستراتيجية الغربية في المنطقة هنا تتجدد محاولة التهجير اليائسة وعلى لسان رجل مال لا يفهم في حركة التاريخ ولا يدرك قيمة المشاعر والقيم والانتماء ولكن الخطوة ليست بمعزل عن صناع القرار الدولي دفعوا ترمب لخطوها.. وهنا لابد من الإشارة الى ان مقاومة الشعب الفلسطيني في غزة في السنة ونصف الأخيرة أنتجت وقائع جديدة وكرست مفاهيم من الصعب نسيانها.. حيث تشبث الشعب بأرضه وبيوته المهدمة ورفض الرحيل، لم يكن شعبنا الا هكذا على طول سنوات المواجهة مع المشروع الصهيوني الا انه لم ينجح في التشبث بأرضه في 1948 لأسباب موضوعية أولها ان الجيوش العربية التي كانت تدار بقيادات عسكرية مخترقة وبعضها انجليزي مباشرة لم يكن عليها من مهمة الا تكريس حدود دولة إسرائيل ولقد كانت لتلك الجيوش المهزلة دورا واضحا في ترحيل الفلسطينيين وسحب أسلحتهم وذلك على اعتبار أن الجيوش العربية ستعيدهم الى قراهم ومدنهم خلال أيام أو أسابيع.. أما الشرط الذاتي فلعل قصة القائد عبدالقادر الحسيني مع الدول العربية في محاولته التزود بالسلاح ورفضهم ذلك وعودته للاستشهاد بالقسطل.. وهذا الشرطان الذاتي والموضوعي تلاشيا الى حد كبير أولا ان الفلسطينيين تمكنوا من تملك سلاح وذخائر كانت قادرة ان توقع بالعدو خسائر فادحة وثانيا ان سطوة النظام العربي على القرار الفلسطيني أصبح ضعيفا كما ان الفلسطينيين غسلوا أيديهم من النظام العربي.. لهذا كان صمود المقاومة وعدم استسلامها وعدم تمكن العدو من القضاء عليها او تحقيق اي من أهدافه المعلنة.. واستطاع الفلسطينيون في غزة من خلال مشهدية العودة الى شمال غزة ان يوصلوا رسالة للعالم كله ان تمسكهم بأرضهم ليس مجالا للمناورة والمساومة.. ولعل الرسالة البليغة وصلت من خلال بقاء اكثر من 100 في مدن الشمال تحت الدمار الشامل والقتل وخروج المستشفيات عن الخدمة وفقدان كل وسائل الحياة وذلك لعدة أشهر متتالية.
ترمب قنبلة صوتية:
عندما تحرك ترمب في صورة مهرج مسرحي يعلن عن ترحيل الفلسطينيين الغزاويين الى مكان آخر تبنى فيه مساكن جميلة حيث لم تعد غزة صالحة للحياة الآدمية كان في حقيقة الأمر يتوج الهزيمة الكبرى للسردية الصهيونية وللمنطق الاستعماري المستحكم في الإدارة.
لكن من خلال قراءة سريعة لموقع هذه المبادرة في سياق سياسة ترمب خلال أسابيع قليلة نجد أنه قد سبقها صراعه العنتري ضد الحليف الاستراتيجي كندا وضد بنما وضد كولمبيا والمكسيك وضد اوربا حيث وقع مراسيم ضريبية ضد كندا والصين والمكسيك وأوربا كما اتخذ خطوات تعسفية ضد المهاجرين المكسيك.. ووصلت الشحناء درجات عالية في جبهة حلفاء أمريكا التقليديين في هذه اللحظة جاءت خرجته المجنونة بترحيل سكان غزة وسيطرة الجيش الأمريكي عليها.. هنا انتفض العالم كله ضد ترمب ومبادرته العبقرية..
وواصل ترمب جنونه في التأكيد بان العالم سيقبل المبادرة رغم ان الإسرائيليين لم يكترثوا لها وتعاملوا معها باستخفاف ما عدا المتطرفين الإرهابيين الصهاينة.. لم يدرك ترمب حجم التغيرات في المنطقة وماذا فعل الطوفان في وعي الناس ووجدانهم، فكانت مبادرته عبارة عن اصطفاف إقليمي ودولي واسع رافضا ومستنكرا وداعيا لإقامة دولة فلسطينية تكون غزة في صلبها..
الغريب أن عبثية ترمب وخطوته المسرحية تسير في عكس اتجاه ما يفعله ضد المهاجرين من دول الجوار.. هو يرحل المهاجرين مقيدين بالحديد في الحين الذي يدعو الفلسطينيين الى الهجرة الى دول الجوار مصر والأردن.
راهن ترمب على بعض الحكومات العربية في البداية راهن على مصر والأردن فجاءه الجواب سريعا وافيا كاملا بالرفض من مصر والأردن وفورا توسعت دائرة الرفض العربي لتشمل عدة دول على رأسها المملكة العربية السعودية والتي تميز موقفها برفع السقف ورفض اي كلام عن التطبيع قبل قيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس.. ترمب لم يدرك ان السعودية الان ليست في حاجته امنيا كما كان حالها في دورته الأولى.. فلقد خرجت إيران من سورية ولبنان بمعنى خسر المشروع الإيراني في المنطقة مواقعا حساسة وان سورية أصبحت ضمن الإطار السياسي السني العربي وهذا بالنسبة للسعوديين مكسبا وفوزا كبيرا ضد النفوذ الإيراني في المنطقة الأمر الذي يهيئهم أكثر للتحلل من الابتزاز الأمريكي وترويجه انه هو من يحميهم ويحافظ على عروشهم.
ترمب ووجه بأكبر موجة استنكار دولية وإدانة على مبادرته المسرحية الى درجة نقل الاستنكار الى قاعة مجلس الكونجرس حيث طالب بعض النواب بعزله من موقعه لانه يعرض الأمن القومي لخلل كبير ويعرض الجنود الأمريكان للموت.. وكما كانت الصدمة في كثير من أصقاع الأرض فلقد فوجئ الامريكان بالمبادرة لتحدث الاستقطابات الشرسة بين التيارين.
التهجير وبديله:
قد يكون طرح فكرة التهجير على اعتبار انها ليست الهدف انما هي ذر للرماد في العيون.. وقد يكون الهدف هو مقايضة بين التهجير و التطبيع المنطقة مع اسرائيل ونزع سلاح المقاومة.. قد تكون اللعبة من هذا النوع الا ان ما جرى خلال السنة ونصف في المنطقة ازاح ملف التطبيع بعيدا ولم يعد احد متشجعا على تطبيع يجر معه ويلات امنية في المنطقة لاسيما قد بلغ الغضب مداه في ظل النظام العربي.. اما المقاومة فلقد ادرك العدو قبل اي جهة ان السلاح المتطور والمصنع في غزة يكفي تماما لمعركة سنوات حيث اصبح الانتاج باتقان اظهر فعاليته في المواجهات العنيفة.. ولكن هنا لا يمكن اغلاق الملف قبل معرفة الاحتمالات التي تطرح للنقاش الآن أولها: القضاء على المقاومة، وتهيئة السلطة من جديد للحكم في غزة، وزرع عناصر الاشتباك بين السلطة والحركات المقاومة.. وهناك بلاشك بدائل كلها تدور حول إضعاف المقاومة..
سقط ترمب مع مبادرته وانتشى الموقف العربي في مصر والأردن والسعودية لمثل رافعة موقف عربي كبير يرفض التهجير ويعلن عن الاستعداد في تسريع عجلة الإعمار وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني واستعادة الفلسطينيين لوحدة الفصيلين المتصارعين فتح وحماس.. ولا يمكن التقليل من شأن الموقف الأوربي الذي يرى في مبادرة ترمب وفي سلوكه انتهاكا للقانون الدولي والأعراف السياسية..
من أهم انجازات الطوفان انه نزع أنياب الإدارة الأمريكية وافقدها القدرة على المبادرة وانه حاصر القادة الصهاينة الذين أصبحوا قيد البحث وأسماؤهم في المنافذ والمعابر حيث لم يعد لهم مكان يزورونه الا واشنطن بحيث تم تعميم أسماء ألاف الأشخاص الصهاينة القتلة بما ارتكبوا من مجازر غزة.. صحيح قد يستفيد ترمب ونتنياهو من مبادرته رغم فشلها في ميادين أخرى ولكن خسارتهم أكبر من أي مكسب ذلك ان المبادرة تسببت في اجتماع عربي مهم وكذلك إسناد دولي وكان ذلك عبارة عن موقف دولي عالمي مع الحق الفلسطيني في فلسطين.. وعلى هذا نكون خرجنا من كمين كبير نصبته الصهيونية العالمية وتقدمت قضيتنا الى الأمام.. وان الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.