اخر الاخبار

العملاء والخونة والحركى.. هم العدوّ فاحذرهم

 سورة التوبة من أواخر السور نزولا، واللافت أن هذه السورة العظيمة اهتمت أكثر ما اهتمت بفضح المنافقين وسلوكياتهم ونفسياتهم، لها عدد كبير من الأسماء كلها تدل على هذا المعلم من معالم السورة، فهي سورة براءة، وتسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، وتسمى الحافرة؛ لأنها حفرت عن قلوب المنافقين وأخرجت ما فيها، وتسمى المُقَشْقِشَة؛ لأنها تُقشقش من النفاق أي تبرئ منه، وتدعى المبعثرة؛ لأنها بعثرت أخبار المنافقين وكشفت عن سرائرهم، ويقال لها: المثيرة؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم من مكامنها ونشرتها بين الناس، ويقال لها: البَحوث أيضا؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، وتسمى المخزية؛ لأنها أخزت المنافقين بفضحهم وإظهارها حقيقهم، إلى غيرها من الأسماء التي ذكرها المفسرون، وكلها توكد أن من أظهر مقاصد السورة الكريمة فضح المنافقين وتحذير المؤمنين منهم ومن مكايدهم؛ لهذا كان نصف السورة تقريبا كلاما عن المنافقين ونفسياتهم وسلوكاتهم، فلا غرو أن نقرأ في آياتها العظام قول الحق سبحانه: {يحذر المنافقون أن تُنزّل عليهِم سورة تُنَبّئهم بما في قلوبهم قلِ استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون}، فسورة التوبة هو ما كان يحذره المنافقون.

وحُقّ لنا أن نسأل: ما الرسالة التي يعنيها اعتناء سورة من آخر السور نزولا بالمنافقين والتحذير منهم؟، فالقرآن الحكيم له دلالات عظام في منطوقه ومفهومه، وإيمائه وتصريحه، وفي مفرداته وصيغه، وفي تنزّله وفي أوقاته، وفي كل صغير وكبير مما يتعلق به، وبخصوص اهتمام سورة براءة بفضح المنافقين، فمما لا ريب فيه أن في ذلك حكم وأسرار وله مقاصد وغايات، منها: تنبيه المسلمين في كل الأعصار أن الخطر الأكبر الذي يتهددهم ليس هو خطر أعدائهم الذين بارزوهم بالعداء من كل أطياف الكفر وملله، بل هو خطر المنافقين الذين يعايشونهم ويظهروا على عواراتهم بكل أصنافهم وفئاتهم، وفي مقدمتهم العملاء والخونة والحركى، فهؤلاء ضررهم أخطر؛ لأنه غدر وخيانة، وضربة في الظهر ومكر في السر، {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون}. ومعلوم أن الداء الدفين الداخلي أخطر من الداء الظاهري الخارجي وأسهل علاجا وأيسر، كما أن الداء النفسي أو العقلي في الغالب أكثر ضررا من الداء العضوي، وأعسر علاجا وأصعب، وهكذا حال العملاء والحركى والمنافقين والخونة فهم داء دفين داخلي، داء نفسي وعقلي خبيث؛ ولهذا شدد الله عز شأنه في الأمر بمحاربتهم وجهادهم لشدة خطورتهم، فقال جل شأنه في سورة التوبة: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير}، وكرر الأمر نفسه في سورة التحريم فقال عز شأنه فيها: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير}.

إن عدونا وإن كان أكثر منا عددا وعدة في بعض الأزمان لم يكن أقوى منا بإطلاق في أي زمان، بل كل وقائع التاريخ تشهد أن أعداءنا في غالب الأوقات والأكثرية الساحقة من الأزمان كان أكثر من المسلمين عددا وأكثر منهم عدة، وأقوى منهم سلاحا، ومع ذلك ينهزم هزائم نكراء، بل كل المعارك العظمى في تاريخ الإسلام عبر العصور انتصر فيها المسلمون نصرا مؤزرا وهم أقل عددا وأضعف عدة، من غزوة بدر العظمى، إلى طوفان الأقصى المبارك، مصداق قول الحق جل في علاه: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، وكتب المؤرخين الغربيين أنفسهم تشهد بهذا قبل كتب مؤرخي الإسلام. وهذا التاريخ ذاته يشهد أن ما حققه أعداؤنا في الغالب هو نتيجة خيانات يقوم بها عملاء وحركى باعوا دينهم وأوطانهم وإخوانهم نفاقا لأعدائهم بثمن بخس، وباعوا نفوسهم وضمائرهم نفاقا للشيطان الرجيم، بمخادعة أهلهم من المسلمين والمكر بهم: {يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}.

إن المقام لا يسمح بتتبع خيانات المنافقين من العملاء والحركى للمسلمين في شتى بقاع الأرض، ولكن لا بد أن نذكّر بما عانته الجزائر من خيانات المنافقين قبل الثورة من (القياد والقُومية والصبايحية)، وبعد اندلاع الثورة المباركة من (الحركى والقُومية والبياعين)، وكم من ضحايا سقطوا بسبب وشايتهم وأعمالهم؟، وكم حققت فرنسا الإرهابية الإجرامية من أهداف ما كان لها أن تدركها لولا خيانة العملاء الحركى؟، ويكفي أن نعلم أن أكثر القادة التاريخيين للثورة، الذين اغتيلوا في السنوات الأولى لاندلاعها وفي مقدمتهم القادة الأبطال الشهداء الأماجد: بن بولعيد، زيغود، ديدوش، بن مهيدي… وغيرهم، إنما اغتالتهم فرنسا وقتلتهم بناء على خيانة الحركى والعملاء ومساعدتهم لها بالمعلومات. والأمر ذاته في فلسطين الشهيدة الشاهدة، فأغلب قيادات المقاومة الإسلامية في فلسطين (وحتى القيادات الوطنية وقيادات المقاومة في لبنان) الذين اغتالهم الكيان المجرم كان بناء على مساعدة الخونة والعملاء والتنسيق الأمني، من الإمام الشهيد أحمد ياسين رحمه الله، إلى القائد الشهيد محمد الضيف وإخوانه من القادة الذين استشهدوا في معركة طوفان الأقصى المبارك، أستثني منهم القائد الشهيد الفذ يحي السنوار رحمه الله الذي قتل عرضا دون تدبير من الكيان المجرم ومخبريه من العملاء والخونة. وهكذا فالعدو لا يمكنه قهرنا ولا يقدر أن يحقق إنجازات كبيرة لولا الخونة من العملاء الحركى، وصدق الله سبحانه: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولَأَوْضَعُوا خِلَٰلَكُم يبغونكم الفتنة وفيكم سَمّاعون لهم}، فالخبال والفتن لا تكون إلا على يد المنافقين والخونة، وعلى المسلمين الحذر منهم ومن مكرهم، واتقاء شرهم لا يكون إلا بطاعة أمر الله تعالى فيهم وهو أحكم الحاكمين: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}.

*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *