متاهة عمسيب وجرح النهر
يوسف عزت
كنت قد كتبتُ مقالًا سابقًا أُعلق فيه على كتابات عمسيب، وقتها كنت أتعامل معه كصفحة على الفيسبوك. لكنه ظهر أخيرًا كشخص متعلم، يطرح مشروعًا لا يُعبِّر إلا عن كراهية الآخر وعنصرية لا تستند إلى معرفة حقيقية وعليه قبل إدعاء ملكية النهر والسعى للانفصال به، ان يتعرّف أولًا على تاريخه وتاريخ هذا النهر الممتد منذ آلاف السنين لان الهويات لا تُبنى على إنكار الآخرين، بل على فهم الجذور والانتماء الأصيل.
كتبت عن عمسيب وصفحته من قبل احترامًا لوضوحه فيما يعبر عنه من مواقف ، رغم خطئه وقبح القبلية التي يتحدث بها والان افعل لذات السبب.، تبصيرًا له ولغيره من عرب القوز وعرب النيل، وأقول له : اذا كنا نحن عرب شتات إذا فأنت عنوان هذا الشتات.
وغربة الذات التي تعاني منها ، قادتك وتقودك لمثل هذه الحالة المشوهة التي تثير الشفقة وتخلق الكثير من الإشكالات لآخرين في الشمال والوسط والسودان عموما الذي لا يحتاج لنهريين تقودهم انت للانفصال ، بل إلى وقف بحر الدماء المسفوحة على طول البلاد ونهرها.
أولًا: معظم العرب الذين استوطنوا النهر لم يكونوا غرباء عنه تاريخيًا، بل خرجوا منه إلى تيه دام لآلاف السنين في أفريقيا إثر انهيار مملكة كوش. فأصل القبائل (العبرية) هو وادي النيل، وإبراهيم العبري ابو الأنبياء ، خرج من هذا النهر إلى بابل، حيث معه سارة التي في أورشليم وهاجر التي اسكنها وابنها مكة ولذلك نسل إسماعيل وإسحاق استقر خارج أفريقيا، بينما ظلَّت قبيلة إبراهيم في نهر النيل لأنها قبيلة اصلها هنا ، وبواديها تشرب في وادي النيل وترعي في صحاريه . كان الجنس العبراني يعتبر من أعمدة السلطة الروحية في ممالك وادي النيل منذ زمن الإله آمون الذي لا تختم صلاة او دعوة إلا بذكر اسمه وذلك مرددا حتى اليوم في كل الأديان السماوية الثلاثة ، وكانوا بلا شك جزءًا من إدارة الممالك المتعاقبة وعمارها في هذا النهر، الذي تريد الآن الانفصال به عن بقية السودان وعن شعوبه التي تفرقت عبر السودان ودول الجوار.
تعرضت الممالك التي نشأت على نهر النيل لهجمات الغزاة، وتبادلت السلطة فيها بين ملوك وأقوام مختلفة، مما أدى إلى تفتتها إلى ممالك صغيرة على النهر وبوادي منتشرة في صحراء أفريقيا بعد انهيار الحضارة وذلك فعل التاريخ.
وكما يتحاربون اليوم ، فلهم ماض في الحروب التي تشتتوا بسببها ، رعاة ومزارعون ، حيث هاجر البدو الى الصحراء، بينما فرَّ آخرون شرقًا، كعرب صالح في الصومال اليوم والفلاشا في إثيوبيا وغيرهم.
وعليك ان تتعرف على من سكن النهر من قبل ومن هاجر خارجه، وكيف نشأت حضارة وادي النيل.
هذا التاريخ لديَّنا فيه أطروحة أوسع ستُنشر يوما ما في منابر أخرى. أما في التاريخ، الراهن فمن حقك أو حق أي باحث آخر أن يبحث في كل الوطن العربي، من أرض ظفار والمهرة في اليمن إلى ديار المرازيق في الجزائر، ليجد قبيلة عربية تحمل اسم “الشايقية” في التاريخ القديم أو في بطون القبائل العربية الراهنة ، وهنا، لا تهمني عروبتك أو عروبة غيرك، فالعرب ليسوا فوق الآخرين، ولكنني أريد أن أوضح لك ما تجهله عن نفسك.
ثانيًا: الهجرة العكسية إلى بلاد النوبة من شمال أفريقيا، التي تُعرف بهجرة جُنيد أبي الراشد جد الجُنيديين لم تكن إلا عودة إلى الديار التي أُخرجوا منها، أي وادي النيل وروافده وهي كثيرة ، فـ”وادي الهور”، الذي تراه الآن، كان رافدًا لوادي النيل، لكنه دُفن تحت الرمال، ويمتد من تازربو إلى دنقلا، بل إنه يجري اليوم صناعيًا في ليبيا كمصدر مياه، وكان سببًا للحرب بين القذافي وجعفر نميري، وحسين هبري والقذافي ايضاً وهو ما لا تعلمه.
ثالثًا: يا عمسيب، الحقيقة التي تجهلها أن الشايقية في السودان هم أبناء محمود ود رزيق الجُنيدي، هكذا قال لنا أجدادنا، وهي حكاية تتناقلها الأجيال، كتاريخ غابر يشبه قصة الابن الضال.
تقول الحكاية إن شايق، ابن محمود، بعد أن استقرت عائلته في وادي الهور شمالا كان نهرًا قبل قرون مات محمود ود رزيق، وكان رجلًا ثريًا وله أبناء، أصبحوا اليوم فروعًا داخل قبيلة المحاميد. كان شايق كثير الزواج، فأنجب العديد من الأبناء، لكنه اختلف مع إخوته بعد حرب العطاوة والخُزام، التي انتصر فيها العطاوة وهزموا الملك شرنقوا، الذي لا تزال آثاره موجودة بالقرب من الزُرْق وزهد الجنيق .
كان سبب الحرب ناقة، مما أدى إلى تهجير قبيلة خُزام إلى دار “وداي”، وهي تشاد حاليًا. غنم العطاوة الكثير من الإبل في حرب السليب والنهيض، ولكن أبناء شايق اختلفوا مع إخوانهم في تقسيم نصيب المحاميد من تلك الغنائم. فأخذ شايق أولاده وهاجر إلى “بلاد الصُبَاح”، حيث عاش مع النوبة، وزوَّج بناته لهم، وتزوج أبناؤه من بناتهم. وهكذا، كما يقول أجدادنا: “فلان راح روحة شايق”.
لم نكن نعلم حتى وقت قريب أن اولاد شايق موجودين ولهم كيان قبلي داخل السودان ، إلا بعد وصول الإذاعة لبوادينا فسمعنا نغمة طنبورهم الحنين الذي يعبر عن آلام غربتهم التي تسببت في حالتك الراهنة.
سنعود لأصل عرب الشتات وعرب النهر لاحقا بتوسع ، لكن الان بالضرورة توضيح أن اصل كلمة “عربي” حسب المعلوم مقلوب لكلمة “عبري”، وترتبط بإسماعيل ونسله. ونطقت هكذا بسبب سؤال أفرادُ من قبيلةِ جُرهم اليمنية لهاجرَ عن ابنها، وإلى أي القبائل ينتمي، قالت لهم: “عبري”، فنطقوها “عربي”لان الجنس العبري لا يوجد في تلك الديار في ذلك الوقت . وهذا إلأمر موثق في الكثير من المراجع التاريخية. وقد توسَّع الدكتور سيد محمود القمني في الحديث عن تاريخ الجنس العبري وعلاقته بوادي النيل، في إطار نقده للأديان الإبراهيمية التي نشأت منه، إذ إن جميع أنبيائها من هذا الجنس.
يا عمسيب، بوضوح ، أنت جُنيدي/رزيقي/محمودي، وناظرك في السودان اليوم هو الشيخ موسى هلال عبد الله، فلا تستعلِ علينا ولا على الناس. فإذا كنت تائهًا، فلن تسد تيهك بالتعنصر على الآخرين، بل تعالَ وراجع انتماءك حتى لا يكون سببا في تشتيت أهل السودان بعد أن نصبت نفسك ناطقا رسميا للعنصرية.
وأخيرًا: لا للاستعلاء، ونعم لتعمير النهر والبحر والغابة والعتامير والجبال بالسلام والمحنة .
المصدر: صحيفة الراكوبة