حرب البذاءات، والانتكاسات القيمية
وجدي كامل
طوال حياتنا، وعلى مر الأيام، ولأجيال متعاقبة، كانت الكلمة النابية والألفاظ الجارحة والخادشة مرفوضة، وكان المجتمع، بمختلف طبقاته ومستوياته، يقف موقفًا واضحًا منها، نابذًا إياها، رافضًا تسللها إلى الحديث العلني. كانت كلمة *”عيب”* بمثابة السيف القاطع الذي يردع كل من تسوّل له نفسه الانحدار إلى هذا المستوى من الإسفاف، يطلقها الكبار بصرامة، فتُخرس المتجاوزين وتعيدهم إلى جادة الاحترام والانضباط.
لم يكن الأمر مجرد تقليد تربوي عابر، بل كان قيمة متجذرة، معيارًا أخلاقيًا تقيس به المجتمعات رُقي أفرادها. حتى أولئك الذين وُصموا بـ”قلة الأدب”، كانوا يدركون، ولو ضمنيًا، أن هناك حدودًا لا يجوز تجاوزها، فكانوا يتحفظون أمام النساء والأطفال، يراقبون ألفاظهم، وإن مارسوا إساءاتهم، مارسوها في الخفاء، بعيدًا عن أعين المجتمع ورقابته الصارمة.
لكن، يا للأسف، جاءت هذه الحرب، ولم تكتفِ فقط بإخراج أسوأ ما فينا، بل جعلتنا نشهد، بلا حول ولا قوة، مدى هشاشتنا الأخلاقية، ومدى قابلية القيم التي كنا نظنها راسخة لأن تنهار تحت وطأة الفوضى. لم تجرح هذه الحرب مسامعنا فقط، لم تشوّه لغتنا وحدها، بل شوّهت وعينا وإدراكنا، حين رأينا ليس فقط الجنود والمقاتلين من الطرفين يتلفظون بأسوأ الألفاظ، بل حتى المدنيين، كبار السن، العجائز الذين كانوا يومًا يُعدّون مرجعًا للقيم، باتوا اليوم يستخدمون ذات الألفاظ التي لطالما شجبوها. أين هم الآن في إعراب تلك التربية التي ظلوا يتحدثون عنها؟ وأين ذهبت القيم التي طالما نادوا بتطبيقها؟
لم تكن هذه الحرب مجرد معركة على الأرض، بل كانت حربًا على المعاني، على الحدود التي تفصل بين الوحشية والإنسانية. لم تقتصر على الكلمات، بل أظهرت لنا أبشع الصور التي لم يكن يمكن لعقل بشري أن يتخيلها؛ رأينا البطون تُبقر بوحشية، والأكباد تُؤكل كأنها غنائم، والأبرياء يُقتلون بلا ذنب، والحوامل يُسحلن في الطرقات كأنهن لم يحملن في أرحامهن الحياة، رأينا الوطن يُسرق، والخائن يصعد فوق الجثث ليصبح بطلًا في أعين قومه.
لكن أكثر ما يملأ القلب حزنًا ورعبًا هو أثر كل هذا على الأجيال القادمة، أولئك الذين وجدوا أنفسهم شهودًا رغماً عنهم على هذا الزمن الذي تحكمه *التفاهة، ويسوده **التافهون*. كيف سيكون نسقهم القيمي بعد أن أصبحوا يرون الباطل حقًا، والجريمة بطولة، والخيانة دهاءً، والانحطاط حرية؟ كيف سيتشكل وعيهم في عالمٍ لم يعد للأخلاق فيه أي وزن، ولم يعد للحق أي صوت؟
قلبي على هذه الأجيال، على مستقبلها الذي بات مجهولًا أكثر من أي وقت مضى، على القيم التي ستنهار تحت وقع الدماء والخراب، على اللغة التي لم تعد تُستخدم للتعبير عن الجمال، بل تحولت إلى أداة شتم وسب، على وطنٍ لم يعد يعرف من هم أبناؤه الحقيقيون ومن هم أعداؤه.
إنه زمنٌ غابت فيه كل القيم، وصار فيه الصراخ أعلى من الحكمة، والرعاع هم سادة المشهد، والتفاهة هي القانون الحاكم، والحق أضعف من أن يجد له مكانًا.
مداميك
المصدر: صحيفة الراكوبة