إلى حميد يا قدال

عبداللطيف علي الفكي
كيف يتسنّى لي شعورٌ يجعلني أن أتحدث عن صاحب النادوس؟ كيف أُرسي ذلك الشعور ، أو أضفي عليه امتيازاً ، أو أجعله مؤتلفاً. لمن إرساءُ الشعور هذا ، ولمن أُضفيه ، ولمن أُوْلفُهُ؟ لـهُتاف المكان الذي شيعه “خالد خالد يا حميد”؟ أم لدموع المكان التي تعانقت في الشارع تبكيه؟ رُبَّ أسئلةٍ يجب أن تُسْمَع بأذنٍ في سماع صوت مصطفى سيد أحمد. أن تُسْمَع بضميرٍ واثق كضمير صاحب النادوس ، وبتسليمٍ معيَّن هما اللذان أي الأذن السامعة والضمير الواثق أشعر بهما هنا فيه. إن ذلك الشعور يتبع شيئاً متبادلاً ، لا يسير من مُرسِل إلى مُرسَل إليه ، إنه في تبادل صوتين : صوت حميد وصوت المكان. إن هذا التبادل لا يشبه تبادل صاحب النادوس مع النادوس ، فصاحب النادوس أحياناً يضجر منه ومن جنون حكوماته ، ومن منقلباته ، ومن جحوده ، وأحياناً يترك له الحبل على الغارب في أوقاتٍ قصيرة جداً إذا ما قورن بذلك الضجر والحنق وهما مصدرا إنتاج شعره. لكنه يرجع سريعاً جداً من تلك الأوقات القصيرة في ضجره ، لأن النادوس أحياناً فيه شنشنة (أي طبيعة خُلقية دائمة) تجعلك كما يقول في عفارم عفارم (يا سكر يا طاعم مسيخ البكان البعيد من عيونك. . . مرير الزمان البخيِّب ظنونك) .
فالتبادل بين الصوتين صوت المكان وصوت حميد لا ضجر فيه ، إنه تبادلٌ يحتضن آمال قصيدته مُحققةً “سوداان” غير معكوس في حاله وفي إملاء كلمته.
العَلَم يرتبط دائماً بالموت ، وليس صاحب العَلَم ؛ لأنني حين أستحضر صاحب العَلَم ، أستحضره بكل هيئآته وملامحه ، أتحدث معه ، أحلُمُ به ، أسمع رنين ضحكاته ، وغضباته ، سواء أكان ذلك الاستحضار من أهله أو أقربائه أو أصدقائه أو قرَّائه. كل صاحب عَلَم له هذا الاستحضار طالما له أهل وأقرباء وأصدقاء ؛ فكثير من الشفرات والطقوس تنزع نحو عكس هذا الاستحضار ؛ عندنا “جيب لك ولد يشيل اسمك”. هذه الجملة خاطئة.
وفي هذا الاستحضار ، هذه الأفكار له ، لحُمِّيد ، وتعني أنني أفكِّر فيه وعنه وعن عمله. تبدو عبارة “له” تقترح أنني أريد أن أهدي هذه الأفكار له ، أعطيها له، أقررها له ، وأُطْمَئِنُ أن هذه الأفكار ستصل إليه كما كان لا يزال عائشاً ، لأنه لا يزال أهو فيَّ؟ أفيك؟ أفينا؟ ولهذه الضمائر المتصلة ولهذه الضمائرُ المتصلة حميد كمنادَى يصلُهُ صوتــُك لأنه هناك ويعود هناك . فلنتمسَّك بهذا الدليل سريعاً حَدَّ بداهة وضوحه تمسُّكاً يجعلنا أن نعاوده باستمرار وكأنه شيء في غاية البساطة . بل كأنه قد غادرنا لنفكِّر وأعطانا مناسبةً للتفكير ، ولذلك التبادل الذي ينتج ما يحتضن آمال قصيدته محققةً “سوداان” لا عكس لها لأنه هو هناك .
“سودان” حميد ضوءٌ لا ينفد، فترك فينا تفكيراً ورغبةً ، ومعرفةً من خلال لغةٍ محليةٍ تجوهر “سودانه”، وتجعلك أن تحبه دون معرفةٍ واضحةٍ لسبب الحب. إن ما وراء عبارتي التي قلتها قبل قليل وهي “دون معرفة السبب” تحمل وراءها “حقيقةً ما”. وإذا عرفنا أن كلمة “حقيقة” في الإغريقية القديمة عهد أفلاطون تشير إلى مفهوم “لا خفاء”. فجملة هذا ذهبٌ حقيقي تعني بقوانين الكلمة الإغريقية هذا ذهبٌ لا خفاء فيه ، أي لا يخفي أية شوائب غير ذهبية. لا خفائية صوت حميد تتسرب إلى عراء نفس السامع ، فما يتسرب في لا خفاء إلقائه شيءٌ في مسَّةِ حزن في جوانية نفس المخاطب. فلا يزيد فيك هذا الحزن إلا شيئاً آخر ليس بعيداً من حقل الحزن هو الحَنْق أي الغضب الشديد الذي يؤدي إلى النـَّــيـْـل من سرقة “سودان” حميد. اِسْمَعْـهُ يقول :
يا حُرَّ الإرادة وجماعي القيادة
يا وكتين تصادم
بروقك تضوي
ورعودك تدوِّي
ورياحك تقصقص رقاب المظالم
هذا هو النَّيْل من سرقة “سودان” حميد الذي انصلح من حالته النادوسية.
عبارة “ود البلد” في متن شعر حميد ليست بالمعنى العنصري حيث ظلالها في اللهجة تعني ذلك ، لأنها تنفي مواطنين وتجعلهم غرباء عن البلد. عند عبد الله محمد الفنان الشعبي “نحن أولاد بلد نقعد نقوم على كيفنا”. عند حميد “ود البلد” هو السلطة أو المسؤول الذي لا يسرق البلد ، في مطر عز الخريف نقرأ :
متين إيد الغبش تتمد
ولا قدام
تتشْ عين الضلام بالضو
تفرهد شتلة لا هدَّام
ولا فيضاً يفوت الحد
عُقـُبْ يا نيل تكون ياكا
ونكون أهل البلد بالجد
فهنا عبارة “أهل البلد” لا ضدَّ لها كأن تشمل ضداً هو الغريب ، بل ترتبط بالغبش الذين تكون السلطة سلطتهم وحين ذاك يقصون رقاب المظالم. الغـُبش علامة مزدوجة فهي من جهة البسطاء الذين يعملون منذ غبش الصبح باليومية ومن جهة العمال والفلاحين التابعين لعمالة وفلاحة الدولة. فسُلْطة الغبش ليسوا هم الغبش أنفسهم لكنها السلطة التي تمثلهم. ليست هي السلطة التي في نادوس حميد حيث وَجْهُهَا كما قالته قصيدة الجابرية :
بعدما زار الجابرية العسكري الحاكم وهتفوا له وقالوا له مطالبهم يقولون في مضض الفرحة
نمشي الليلة نصاقر الرادي
نمشي الليلة ونحضر نشرة
إلا في ستة من الجابرية
قالوا تعبكم خارم بارم
يذهب حاكم خلف الحاكم
والجابرية تظل في حالها
في خيبة ظن هذا الشعب من مصدر (يذهب حاكم خلف الحاكم) ينسج حميد معظم خيوط نصه.
يا لتشرِّك لي غمامك
وتحتك الأنهار قوية
ما انسرق من ذات سنامك
لو قبيل كست الـحُوْوِيَّة
ما بيضيع حق لا قضية
لو في طلاب من وراهو
ونية بيضاء وبندقية
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة