اخبار السودان

“اللجنة” لصنع الله إبراهيم : كيف تسائل الرواية أنظمة القهر؟

إبراهيم برسي

 

تُعد رواية “اللجنة” لصنع الله إبراهيم أحد أهم الأعمال التي كسرت القوالب التقليدية للسرد العربي الحديث. فمن خلال بنيتها التجريبية ، وتحليلها العميق للسلطة والاستلاب .

تقدم الرواية قراءة نقدية لأنظمة القهر السياسي والاقتصادي ، مما يجعلها وثيقة أدبية تحمل بعدًا فلسفيًا يتجاوز زمنها. حيث تجاوزت القوالب التقليدية للسرد لتقدم نصًا عميقًا ومتعدد الأبعاد.

استطاع صنع الله إبراهيم أن يمزج بين السرد الفني والنقد الاجتماعي والفلسفي ، مما يجعل الرواية وثيقة إنسانية تكشف عن تحولات النظام العالمي وهيمنة الرأسمالية وآليات الاستلاب.

 

يستنطق صنع الله واقع الهيمنة السياسية والاقتصادية عبر أسلوبه الفريد. يتعامل مع الكلمات كأدوات مواجهة ضد البنى الفوقية التي تمارس استلابها اليومي على الفرد والمجتمع.

 

إن نصوصه ، والتي منها “اللجنة”، ليست مجرد سرديات أدبية بل مساحات للتحليل البنيوي للسلطة والهوية. تجعل القارئ أمام مرآة تعكس تناقضاته مع النظام السائد.

صنع الله ، الذي ينهل من تجارب الواقعية الاشتراكية ويناهض الهياكل الاقتصادية النيوليبرالية ، يقدم الأدب كفعل مقاومة لا كوسيلة ترفيه.

 

تُعد رواية “اللجنة” نموذجًا أدبيًا جريئًا يستنطق منظومة الاستبداد السياسي والاقتصادي.

في الرواية ، يتم استدعاء البطل أمام ‘اللجنة’ ليخضع لاستجوابات غامضة حول قضايا لا تُوضح طبيعتها بالكامل. تتلاعب اللجنة بأسئلتها وتوقعاته ، مما يضعه في حالة دائمة من القلق والارتباك.

هذا الغموض يعكس كيف تعمل السلطة الحديثة على تحييد الفرد وتجريده من إرادته تحت مبررات بيروقراطية لا يمكنه فهمها أو مقاومتها والتي تتخفى خلف أقنعة البيروقراطية.

 

يظهر هذا بوضوح في التجربة العبثية التي يخوضها البطل مع “اللجنة”، حيث تكشف الرواية عبر سيرورتها عن كيفية استلاب الفرد من خلال الإذعان لسلطة غامضة وغير محددة ، ما يجعل الإنسان خاضعًا لنظام يفرغ هويته المتجذرة من محتواها ويضعه في حالة وجودية من الانفصال عن الذات.

 

هذا المظهر يتقاطع مع تحليلات فوكو حول السلطة التي لا تتجلى في مؤسسات محددة فقط ، بل تتخلل أنسجة المجتمع عبر خطابها وآلياتها الرمزية. “اللجنة” ليست مجرد مؤسسة ، بل هي تعبير عن عقلية التحكم التي تحكم العالم الحديث، حيث تُطمس الحدود بين ما هو واقعي وما هو تمثيلي.

 

تعتمد الرواية على بنية سردية تتسم بالتجريبية والعبثية. يعكس هذا فلسفة عدمية مضمرة تسائل جدوى الأنظمة الوضعية في احتواء الوجود الإنساني.

يمكن قراءة ذلك من خلال عدسة التحليل البنيوي الذي يركز على كيف أن السرد ذاته يتحول إلى أداة للتشكيك في الثنائيات الكبرى.

تشبه تجربة البطل في ‘اللجنة’ ما طرحه ألبير كامو في ‘أسطورة سيزيف’، حيث يجد الإنسان نفسه في مواجهة أنظمة عبثية ، لا يستطيع فهمها أو التكيف معها. البطل ، رغم محاولاته للإجابة على أسئلة اللجنة أو فهم دوافعها ، يبقى عالقًا في دائرة مغلقة من القهر وعدم اليقين.

هذا الانفصال عن المنطق والعدالة يعكس أزمة الوجود الإنساني في عالم تتحكم فيه قوى فوقية مجهولة، مما يثير تساؤلات حول الثنائيات الكبرى: المعرفة والجهل ، الحقيقة والوهم ، الفرد والجماعة.

 

نجد هنا صدى لأفكار رولان بارت حول “موت المؤلف”، حيث يغيب صوت الكاتب ليحل مكانه نص مفتوح للتأويل.

في “اللجنة”، يصبح البطل رمزًا لذواتنا المعذبة ، العاجزة عن فهم عالمها ، ما يخلق نوعًا من التوتر النفسي بين القارئ والنص.

 

من خلال تسليط الضوء على مركزية “اللجنة”، تُبرز الرواية نقدًا عميقًا للرأسمالية العالمية التي تحكمها “لجان” رمزية تسير الاقتصاد والسياسة في الخفاء. إن استعراض الرواية لهذه الفكرة يقترب من رؤية ماركس حول الهيمنة الطبقية ، حيث تُصبح السلطة أداة لشرعنة الاستغلال الممنهج للأفراد.

 

يبرز صنع الله إبراهيم الصراع بين الهويات المحلية والأدوات الرأسمالية الكونية ، في محاولة لاستعادة ما يسميه غرامشي بـ“الهيمنة الثقافية”.

ففي الرواية ، يتم توظيف وسائل الإعلام والتعليم والبيروقراطية كوسائل لفرض هذه الهيمنة ، مما يؤدي إلى إنتاج سرديات تتلاعب بالوعي الجمعي وتُعيد تشكيله وفقًا لمصالح الطبقة المسيطرة.

 

اختيار صنع الله للغة حادة ومتقشفة يعكس الرغبة في فضح زيف البنية الخطابية السائدة.

تتسم اللغة بالواقعية والجفاف ، ما يجعلها أداة لزعزعة الاستقرار العاطفي للقارئ.

تُستخدم اللغة في الرواية بأسلوب يتجنب الوصف الزائد أو الزخرف.

فعلى سبيل المثال ، وصف مشهد استدعاء البطل أمام اللجنة يأتي مباشرًا وجافًا، ما يجعل القارئ يشعر بثقل اللحظة وعدميتها.

هذه الحدة اللغوية ليست مجرد اختيار أسلوبي ، بل هي أداة تُظهر الانفصال بين الفرد والمؤسسات المحيطة به ووضعه في مواجهة مباشرة مع وحشية الواقع.

يشبه ذلك استخدام كامو في “الغريب” للغة كوسيلة لتجسيد العبثية.

النصوص في “اللجنة” ليست فقط أدوات تعبير ، بل هي أيضًا كيانات فلسفية تُحرض على التفكير.

 

الرواية تُمثل مثالًا على ما يُمكن أن نُسميه بـ“اللغة المقاومة”، تلك التي لا تخضع للقواعد المألوفة التي تهدف إلى تسكين القارئ أو جذبه ، بل تصدمه وتعيد ترتيب علاقته بالعالم.

بهذا المعنى ، تتجاوز الرواية حدود السرد التقليدي لتصبح نصًا فلسفيًا يطرح أسئلة حول كيفية استخدام الخطاب لتكريس الهيمنة أو لفضحها.

 

تتقاطع هذه الفكرة مع رؤى جاك دريدا حول التفكيك ؛ حيث اللغة ليست ثابتة ولا بريئة ، بل هي وسيط يتلاعب بالمعاني وينزعها من يقينيتها.

بهذا ، تتحول “اللجنة” إلى مختبر تفكيكي يُظهر هشاشة الأنظمة السياسية والثقافية ، ويُعيد للقارئ دور المُفكر والمُفسر بدلًا من كونه مستهلكًا للنص.

 

“اللجنة” ليست مجرد نص أدبي ، بل هي نص فلسفي متعدد الطبقات يحاكم السلطة وهيمنتها على الأفراد في عالم يعج بالسرديات المتجذرة في أنظمة الاستلاب والقهر.

إن الرواية ، عبر بنائها المعماري المعقد ولغتها المتقشفة والعبثية ، تدفع القارئ إلى إعادة التفكير في موقعه كفرد ضمن منظومة أوسع تحاول استلابه من ذاته.

 

في هذه الرواية ، يكشف صنع الله إبراهيم كيف يمكن للسردية الأدبية أن تكون مرآة فلسفية تجسد قضايا الإنسان الحديث : قضايا الهوية ، والاغتراب ، والاستلاب في مواجهة هيمنة الرأسمالية العالمية وآلياتها الخفية.

إن “اللجنة” تُعيد طرح تساؤلات وجودية كبرى عن موقع الفرد بين القوى الأكبر التي تتحكم بمصيره مما يجعلها نصًا يتجاوز أبعاده السردية ليصبح فعلًا فكريًا ومقاومًا في آنٍ واحد.

 

لا يمكن قراءة الرواية دون التفكير في تأثيرها البعيد على وعي القارئ.

فهي تقدم نقدًا عميقًا للأنظمة القمعية ، بطريقة تجعل القارئ متورطًا عاطفيًا وفكريًا.

كما أن تجربة البطل في مواجهة اللجنة تُذكرنا بتحليل أدورنو وهوركهايمر عن “جدل التنوير” ، حيث تصبح الأدوات التي يفترض أن تحرر الإنسان هي ذاتها التي تقيده وتخضعه.

 

صنع الله إبراهيم يدعو القارئ ، بشكل غير مباشر ، إلى المقاومة الفكرية لتلك السرديات الهيمنية ، وإلى التفاعل معها بتساؤل دائم.

 

ختامًا ، يمكننا القول إن “اللجنة” ليست مجرد عمل أدبي ، بل هي وثيقة إنسانية تحمل في طياتها رؤية فلسفية عميقة لنظام الهيمنة العالمية.

بهذا المعنى ، تقف ‘اللجنة’ في مصاف الروايات العالمية الكبرى التي تناقش قضايا الإنسان المعاصر مثل ‘1984م’ لجورج أورويل و’محاكمة’ كافكا.

إنها ليست مجرد انعكاس للواقع العربي ، بل هي أيضًا صرخة إنسانية ضد كل أشكال القهر والاغتراب التي يعاني منها الفرد في مواجهة أنظمة تسعى لتفريغه من جوهره.

بمهارة نادرة ، يجعل صنع الله من السردية وسيلة لتفكيك الخطابات السلطوية وكشف تناقضاتها ، ليبقى النص شاهدًا حيًا على قدرة الأدب على الوقوف في وجه التسلط ، والتحريض على استعادة الإنسان لإنسانيته المسلوبة .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *