أنماط طرائق التفكير السوداني (٦)
عوض الكريم فضل المولى
وحسن عبد الرضي
التعليم : مناهجه وطرق تدريسه وفلسفته تعيق تحرر أنماط التفكير السوداني
لقد لعبت المناهج التعليمية وطرق التدريس التقليدية وفلسفة التعليم السوداني دورًا كبيرًا في تكوين أنماط التفكير السائدة في المجتمع ، التي غالبًا ما تعيق التطور وتحد من الإبداع. إن هذا الواقع المؤسف هو نتاج لمنظومة تعليمية ورثناها من الاستعمار الإنجليزي وعمقتها النخب الثقافية والسياسية وزادتها الطائفية بلة. لا شك أن الاستعمار قد صمم التعليم ليخدم أغراضه الاستعمارية ، أما النخب التي حصلت عليه فقد استخدمته لتمتاز به عن المجتمعات المحلية ولخدمة مصالحهم الخاصة وأغراضهم السياسية والسيادية ، وليس لصقل وتحرير العقول السودانية وتمكينها من بناء مستقبل أفضل.
وأثر الموروث الاستعماري على التعليم ما يزال ظاهرا إذ أن تبنى الاستعمار الإنجليزي منهجًا تعليميًا يهدف إلى إعداد السودانيين ككتبة وموظفين لإدارة مصالحه ، دون تمكينهم من أدوات النهضة الفكرية أو الإبداعية. إذ أهمل النظام الانجليزي تعليم المرأة بشكل كبير ساعدهم في ذلك الموروث الثقافى والديني ، مما أدى إلى استمرار المرأة في دائرة التهميش والجهل ، وحرمها من دورها الحيوي في بناء الأجيال. هذا الإهمال الممنهج قاد إلى انعدام التوازن في تكوين المجتمع ، حيث غابت المرأة الواعية القادرة على المساهمة في التطور الثقافي والاجتماعي.
وأكبر العلل في تخلف أنماط التفكير السوداني هي قصور المناهج وطرق التدريس التقليدية ، فرغم التطور الكبير الذي شهدته المناهج التعليمية في كثير من دول العالم المتقدمة والنامية ، الا أن المناهج السودانية ما زالت تعتمد على الحفظ والتلقين بدلاً من التفكير النقدي والتحليل البنيوي. هذه الطرق البالية تنتج أجيالًا تفتقر إلى الإبداع والقدرة على حل المشكلات. ويصر كثير من المعلمين والمسؤولين والأسر على التمسك بالمناهج القديمة وطرق التدريس العقيمة ، بعتبارها نموذجًا مثاليًا ، رغم أنها أصبحت متجاوزة في العصر الحديث.
ولا بد من التطرق للأثر السلبي لمناهج التعليم وطرقه على أنماط التفكير السوداني ، إذ لم يساهم التعليم السوداني في خلق مجتمع متحضر ومدني ، بل عزز من النزاعات القبلية والعنصرية ، وزرع أفكارًا جامدة لا تتناسب مع متطلبات العصر. بدلاً من التركيز على بناء عقلية منفتحة حرة قادرة على التفكر والتطوير ، غرق التعليم في تحفيظ النصوص دون فهمها ، مما ساهم في تكلس الفكر وانتشار الجهل وخلق مجتمع يفخر ويباهي بالحفظ حتى أصبح المتعلم عبارة عن مخزن لحفظ معارف الآخرين بدلا عن البحث في معارفهم ودراستها ومرجعتها والبناء عليها لتطوير واقعنا الموروث.
حتى في المجال الديني ، أُغفلت القيم الحقيقية للإسلام التي تدعو إلى التفكر والتجديد ، مما جعل التعليم الديني أداة لتعزيز المفاهيم الضيقة واستنساخ الهوس والتطرف بدلاً من نشر القيم والفهم العميق للإسلام.
ويتبدى قصور التعليم في الفشل في تطوير الاقتصاد والمجتمع ، فلم يسهم التعليم في تطوير البحث العلمي للقطاعات الحيوية كالزراعة والصناعة والعلوم الاخري ، ولم يقدم حلولًا عملية للتحديات التي تواجه السودان. بدلاً من ذلك ، بقي التعليم القاباً واشارات معزولًة عن واقع وتقدم وتطور المجتمع ، مما زاد من اتساع الفجوة بين العلم والحياة اليومية للسودانيين.
وإن كان لا بد من الحاجة إلى إصلاح جذري في تطوير أنماط طرائق التفكير السوداني. ينبغي إصلاح التعليم أولا وذلك يتطلب إعادة النظر في فلسفته وأهدافه ، بالاستفادة من التجارب الناجحة في الدول المتقدمة. ويجب أن يتم التركيز على تطوير المناهج لتكون شاملة ومرنة ، وتتبنى التفكير النقدي والإبداعي. كما يجب أن تتوفر بيئة تعليمية حديثة تعزز من دورها في المجتمع ، مع العمل على دمج التكنولوجيا في التعليم لتحقيق نقلة نوعية.
وتجدر الإشارة إلى أن طرق القياس التربوي قد وضعت بشكل لا يناسب تطور البلاد ولا المساهمة في البناء الوطني ونهضته وريادته في كثير من الأحوال. بل كانت معوقاً ومهدراً للطاقات البشرية وسبب في هجرة الكثيرين.
رغم ان عملية القياس في النظام التعليمي عملية مهَمة ومكملة للمراحل التعليمية وعامل مساعد في البحث والإنتاج الفكري الا ان تقيدها المخل يشكل أداة الي تدمير العملية نفسها. فإذا كنا نقيس التحصيل الأكاديمي من أجل مراجعة الحفظ واستذكار مخزون المنتج البشري فقد تجاوزت أدوات الميديا الحديثة والتطور التكنلوجي ذلك ، فاصبحت القيمة الرقمية منها الي قيمة كمية. ولكن من يطور هذه الأدوات؟ فالمنتج الفكري هو المطور الحقيقي ، عليه يلزمنا تغير طرائق التفكير في القياس الي تقييم المقدرة الفكرية الفردية وليس العددية حيث لكل فرد مقدرات شخصية في ضروب الحياة تختلف عن الأخر ، فكيف تقاس مقدرات شخص بٱخر نطمح أن يكون مثله. فمن يفهم الرياضيات ليس شرطا ان يكون نحويا. ومن يهوى الكيمياء ليس بالضرورة أن يكون حافظا لكتاب الله. ومن كان طبيبا لا شرط ان يكون جغرافيا أو جلوجيا او معماريا. ومن الأهمية بمكان أن تراعي طريقة تدريس كل هذه العلوم أذ لا يعقل ان يجيد الطالب جميع هذه العلوم حتى يقاس وفقا لذلك إن كان ناجحاً أو فاشلاً ، دون مراعاة جوانب أخرى من قدراته مثل المهارات الحياتية أو التفكير الإبداعي وملائمتها للسياق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي للسودان مع التحليل النوعي للتحديات التي تواجه الطلاب والمعلمين والمجتمع بإسره. وإذا شعر الطلاب أن التقييم لا يعكس قدراتهم الحقيقية ، فإن ذلك يقلل من اهتمامهم بالتعليم والتعلم. وبالنظر إلى ذلك يكون التفكير المتبع في مؤسساتنا التعليمية يؤدي إلى إهدار الموارد البشرية والإقتصادية ويضع الأفراد في مجالات غير مناسبة لقدراتهم ويهمل بذلك المواهب المتعددة التي يزخر بها المجتمع. وكثيرا ما تساهم الأسر والثقافات المجتمعية في تحديد مستقبل وتجميد وتحجيم وتغير رغبة الطلاب بدلا عن تنميتها وصغلها وادماجها في المجتمع لتساهم في تطور الدولة.
وفي الخاتمة ، نؤكد على إن الخروج من مأزق التعليم الحالي يتطلب تغييرًا جذريًا في الفلسفة التعليمية ، بحيث يتم التركيز على بناء مجتمع واعٍ وقادر على مواجهة تحديات العصر. فالتعليم ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة ، بل هو أداة للتغيير والتحرر ، وهو ما يجب أن يكون في صلب رؤيتنا المستقبلية.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة