الدكتور الباقر العفيف : كان مع الأحباب نجمة شارق
د. مجتبي سعيد عرمان
نعي الناعي إلينا نبأ رحيل الدكتور الباقر العفيف الرجل العفيف بعد رحلة طويلة في سوح الفكر ، والاستنارة. دلفت إلي مكتبي ذات صباح بهي بجامعة الأحفاد للبنات قبل سنوات خلت ، وأنكببت علي تصحيح بعض الواجبات لطالباتي ، فإذا بي أرفع رأسي وأجد صديقينا الدكتور أحمد إمام المتواجد الآن بالسعودية يهديني ورقة بحثية باللغة الإنجليزية تحت عنوان : ” أزمة الهوية في شمال السودان متاهة قوم سود ذو ثقافة بيضاء“ ، التي تم إدراجها في كتاب له صدر فيما بعد يحمل عنوان وجوه خلف الحرب. طربت أيما طرب بتلك الورقة البحثية القيمة ، ودوما ما أجد نفسي منجذبا إلي الأعمال الفكرية الرصينة كالدرويش في حلقة الذكر قبل أن يختلط التصوف بالنفط والمال الذي يُعد المُخرب الأول للضمائر المخروبة في أزمنة الإختلال المجتمعي مع سطوة رأس المال في دولة الامويين الجدد فيما مضي وما سيأتي. جال في خاطري وقتها المفكر الألمعي فرانز فانون وكتابه القيم بشرة سوداء ، أقنعة بيضاء” ، فهو الطبيب ، والمناضل المارتينيكيّ الأصل الذي ناضل ضد قوي الأستعمارالقديم كاشفا عنها القناع المزيف الذي يحوي داخله المصالح الطبقية والدنيوية. كان الدكتور الباقر العفيف مدركا بعلمه وثقافته الواسعة بأن ظاهرة الحرب في السودان التي نشبت مع بواكير الأستقلال تحتاج إلي منهجينة علمية رصينة تتجاوز الكليشيهات أو العبارات المبتذلة ، القاصية للتفكير أو مانعات التفكير علي شاكلة الأستعمار هو المسؤول الأول عن بذر بذور الشقاق بيننا وبين أخوتنا في جنوب السودان عبر ما يسمي بقانون المناطق المقفولة ، الحركات التي تناضل من أجل المساواة في جنوب السودان قديما عبارة عن مخلب قط للقوي الأمبريالية وغيرها من التفسيرات القاصرة التي تنم عن إزدراء المطالب العادلة بل وتحقيرها ، وما تزال “وساقيتنا لسه مدورة!” بعد أن كتب ثوار ديسمبر الفصل الأخير من المهزلة التي أنتجت الشرور الإجتماعية صائحين بحناجرهم وصدروهم العارية حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب وبذلوا أرواحهم رخيصة من أجل التحرر من قبضة الشمولية الدينية وما بدلوا تبديلا رضوان الله عليهم.
هكذا تحدث الدكتور الباقر العفيف عن مشكلة الحرب في السودان التي ظلت ملازمة للتاريخ السياسي الحديث في سودان ما بعد الأستعمار : “تشتعل في السودان حرب هي الأطول عمراً في أفريقيا ، وربما في العالم كله. استمرت هذه الحرب ثلاثين عاماً ، قتل فيها 1،9 مليوناً وشرد 5 ملايين. وقد قتل منذ أن استولت هذه الحكومة على الحكم عام 1989م ، بسبب الحرب والمجاعة الناتجة عنها ، عدد أكبر مما قتل في الحروب البوسنية والرواندية والصومالية مجتمعة . وفي محاولاتهم لفهم جذور الحرب ، اتبع المؤرخون والمحللون السياسيون السودانيون ، منهجين. الجيل الأول من هؤلاء ركز بصورة أساسية علي القوى الاستعمارية ، ومخططاتها المحسوبة لفصل الجنوب عن الشمال ببذر بذور الكراهية في الجنوب. و لكن وبعد أكثر من أربعة عقود من الحكم الوطني ما تزال الحرب قائمة فحسب ، بل تفاقمت واتخذت سيماؤها الدينية الكامنة , شكلها الواضح والمكتمل. وقد دفع هذا الواقع أجيالاً جديدة من السودانيين للتفكير في الأمر بصورة مختلفة. وهنا برز المنهج الثاني ، لينقل مركز الاهتمام من العدو “الخارجي” إلى العدو “الداخلي” عندما يحاول الوصول إلى جذور الحرب، باعتبارها نزاعاً بين الهويتين الرئيسيتين في البلاد : الشمال والجنوب. وهناك الآن اتفاق واسع بين السودانيين ، شماليين وجنوبيين علي حد سواء ، أن بلادهم تعاني أزمة الهوية الوطنية”.
ولا ننسي مساهماته القيمة حول قضايا الأزمة الوطنية الشاملة في بلادنا التي اقعدته من اللحاق بركب الامم المتطورة وتحقيق النمو المطرد ، وخلق التساكن والتسامح بين مكونات السودان المجتمعية شديدة التنوع التي عملت قوي الهوس الديني علي ضربها بكل ما أوتيت من قوة مستخدمة جهاز الدولة والمال “الحرام” لخلق الفتن بين تلك المجتمعات من أجل جعل الحكم سرمديا. ولا غرو ، فقد اختار الدكتور الراحل الباقر العفيف جبهة الفكر والاستنارة وجدل الهوية الذي شغل الساحة السياسية والثقافية. وقف الدكتور الباقر في هذه الحرب مثل الطوْدُ الاشم أو جبل الداير في وجه الرياح الهوج مفندا الحجج التي ساقها طرفا الحرب لتبرير حريق الوطن تحت دعاوي “الكرامة” والديمقراطية المحمولة علي التاتشرات. لم يعقده المرض العضال عن حضور الأجتماعات بين القوي السياسية مثل تقدم ، والظهور في القنوات الفضائية وذلك من أجل الدعوة إلي وضع نهاية عاجلة للحريق الذي يلتهم الوطن ويدمر الأنسان أولا والبنية التحتية علي تواضعها. حاول أنصاف الصحفيون ومداحي المتوكل وعبدة بوت العسكرتاريا الأصم المكرين أن ينتاشوه بسهامهم الصدئة ولكنه كان قوي الشكيمة ، صلدا كما حجارة القرنيت في الرد علي أحاديث الجاهلين ، الحاقدين الذين لا ينتون أن تُكشف حججهم التي هي أهون من بيت العنكبوت ولن تصمد دقيقة وأحدة في وجه الحجج الرصينة التي يقف من وراءها فكر رصين يمثله الدكتور الراحل الباقر العفيف. وحقا عند الملمات الكبري ، والمنعطفات ، والأزمات يظهر أصحاب المقامات الكبيرة وسط الضجيج الذي يصدره صغار العقول وهم أمنين في سربهم بعيدا عن أصوات الرصاص وضرب الطيران. لكم كان طرفة بن محقا حينما قال :
إذا الحَربُ حَلَّت ساحَةَ القَومِ أَخرَجَت عُيوبَ رِجالٍ يُعجِبونَكَ في الأَمنِ
سلام عليك أيها الصلب العنيد وأنت في عليائك السامقة بعد أن وقفت في وجه سلطة البغي ، والتجبر ، والعسف ، والاستبداد ، والشمولية الدينية التي أشادها الأخوان المبذرين علي جمام الجوعي والبشر المهانين ولكنك وقفت كنخيل بلادي ، شامخا صلبا تنشر الاستنارة قبل وبعد تأسيسك لمركز الخاتم عدلان للاستنارة في العاصمة الخرطوم وليس في العواصم البعيدة وسط المؤامرات والدسائس التي كان يحيكها كبير البصاصين محمد عطا المولى وزمرته من مرتزقة السلطة ولكنهم لم يكن في أستطاعتهم إسكات صوتك الجهور ولا فكرك النير. مليون زهرة من البنفسج علي قبرك وقد كنت حقا عفيفا وشريفا في أزمنة الحروب والجوع ، شامخا كنخيل بلادي. الآن دعني أقول لك كما قال محمود درويش لصديقه سميح القاسم: “معك حق. معك حق : نحن فى حاجة ماسة إلى الإيمان الأول وإلى النار الأولى. نحن فى حاجة إلى سذاجتنا. نحن فى حاجة إلى درس الوطن الأول : أن نقاوم بما نملك من عناد وسخرية ، بما نملك من جنون. فى الأزمات تكثر النبوءات وها أنذا أرى وجها للحرية محاطا بغصنى زيتون. أراه طالعا من حجر”. كن مطمئنا سيشرق الصبح من جديد علي بلادنا من سعف النخيل ، من رمال بلادي النعامة ، من النيل العظيم الذي يُعد الرباط الوطني الأول والذي نحن منه وإليه راجعون مهما تكالبت علينا سهام الداخل والخارج وسيعيُد ثوار ديسمبر السمحين النضرين الشوراع إلي القها المفتقد كما عملت وحلمت بذلك. طبت حيا وميتا أيها الصلد العنيد.
العنوان كما هو وأضح مُقتبس من قصيدة ما هو عارف قدمه المفارق للفنان والشاعر ، وداعي الحرية والإنعتاق والتحرر ، والملحن خليل فرح .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة