اخبار السودان

انسحابات عسكرية فرنسية متتالية من أفريقيا.. من يملأ الفراغ؟

يقول المثل الأفريقي: عندما يتقاتل فيلان يتضرر العشب بشدة؛ أو بعبارة أخرى، عندما تندلع معركة بين قوى كبيرة تحدث أضرار جانبية كثيرة.

هذا المثل ينطبق تماما على ما تعيشه دولة مالي، الغارقة منذ عقود في نزاعات دامية، أطرافها الجيش المحلي والانفصاليون والفرنسيون والروس والمهربون وغيرهم.

فمنذ سنوات طويلة، يعاني الماليون من حروب لا تنتهي، مات وتشرد وفُقد بين أتونها مئات الآلاف.

في ليلة 20 إلى21 ديسمبر 2024، والعالم يتهيأ لاستقبال العام الجديد بكثير من الأمنيات، عاشت منطقة “باندياغارا”، وسط مالي، على وقع مجزرة مروعة.
حاصر جهاديون قرى في “باندياغارا”، قتلوا 20 شخصا، هرب آخرون، و عم الخراب المكان.

قلّما تُعير وسائل الإعلام وعدسات المصورين اهتماما لما يمزق القارة السمراء من صراعات، لكن ذلك لا يعني أن المأساة أقل وطأة مما هو عليه الوضع في مناطق نزاعات أخرى عبر العالم.

خلال الليلة الدموية الطويلة التي عاشتها ستة قرى في منطقة “باندياغارا”، سقطت أرواح وحُرقت مخازن ودُمرت منازل، في مشهد متكرر من التحديات الأمنية التي يعيشها هذا البلد.

عسكريون فرنسيون أثناء مغادرتهم إحدى القواعد بدولة تشاد
عسكريون فرنسيون أثناء مغادرتهم إحدى القواعد بدولة تشاد

يقول الشاب المالي بوكاري غيندو، وهو ناشط مدني ومسؤول بمنظمات تنموية محلية، في تصريح لموقع “الحرة”، إن “تلك الهجمات حدثت بين الساعة الثانية بعد الظهر ومنتصف الليل، ولم يكن هناك للأسف أي تحركات من قِبل القوات المسلحة المالية لمنع الاعتداء أو تقديم المساعدة للسكان”.

في تلك اللحظات التي سيطر فيها شبح الموت على المكان، ربما تردد في ذهن الكثير من سكان “”باندياغارا” سؤال وحيد: هل كان هذا ليحدث لو لم تأمر السلطات العسكرية المالية القوات الفرنسية بالانسحاب؟

انسحابات متتالية

في الفترة الفاصلة بين عامي 2022 و2023، طلبت أربع بلدان أفريقية كانت مستعمرات فرنسية سابقة، وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، من باريس سحب قواتها العسكرية من أراضيها.

ثم سرعان ما انتقلت العدوى إلى عواصم أفريقية أخرى، لتعلن تشاد والسنغال وكوت ديفوار الشهر الماضي إنهاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيها أيضا.

وحسب تصريحات إعلامية سابقة لوزير الجيوش التشادي إسحاق مالو جاموس، فإن 31 يناير المقبل “سيمثل الرحيل النهائي للقوات الفرنسية”. ثم أكد: “لا رجعة في القرار”.

وبعد أن كان الحضور العسكري الفرنسي في أفريقيا يتجاوز الـ60 ألف جندي في ستينيات القرن الماضي، تقلص هذا العدد في السنوات الأخيرة ولم يعد يتجاوز بضع مئات.

وعند إتمام الانسحابات المقررة من مالي وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر وكوت ديفوار والسينغال، سيقتصر الوجود العسكري الفرنسي في القارة على دولتين فحسب، هما جيبوتي والغابون.

قناعة أفريقية
يطرح الانسحاب العسكري الفرنسي نقاشات واسعة في الأوساط السياسية والأكاديمية داخل القارة حول أسباب توالي هذه القرارات الأفريقية ومدى قدرة الجيوش المحلية على ضبط حدود بلدانها وأمنها الداخلي.
يرى الديبلوماسي علي تاسع، وهو سفير سابق للنيجر في القاهرة وأبوجا، أن هذه “الانسحابات الفرنسية ككرة الثلج ولن تتوقف”، مرجحا أن “تطلب جيبوتي والغابون أيضا خروج القوات العسكرية الفرنسية من أراضيها”.

ويقول تاسع في تصريح لموقع “الحرة” إن “عواصم أفريقية كثيرة حذت حذو ما بات يعرف بتجمع دول الساحل، الذي يضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر، بعد أن كان الاعتقاد السائد أن أي ابتعاد عن فرنسا سيجلب المشاكل للزعماء والقادة المحليين”.

ويشدد تاسع على أن الدول الأفريقية قادرة على تأمين حدودها بعيدا عن فرنسا، الذي يطرح حضورها الكثير من نقاط الاستفهام، معتبرا أن “العواصم الأفريقية بحاجة إلى السلاح، وهو متوفر لدى قوى أخرى كروسيا والهند والصين وتركيا وغيرها”.

إعادة تسمية شارع “شارل ديغول” بشارع جيبو باكاري في عاصمة النيجر نيامي
إعادة تسمية شارع “شارل ديغول” بشارع جيبو باكاري في عاصمة النيجر نيامي
ومن وجهة نظر الديبلوماسي النيجيري السابق، فإن هناك “قناعة سائدة في أفريقيا بأن فرنسا لم تحارب الإرهاب، بل بالعكس أدى تدخلها في ليبيا إلى انتشار السلاح ووصوله إلى الجماعات المتشددة بدول جنوب الصحراء”.

هناك أيضا، يضيف محدثنا، “وجهة نظر تقول إن فرنسا مسؤولة عما يقع في أفريقيا من إرهاب، لكي تظل هذه الدول دائما تحت سيطرتها”، مستدلا على ذلك بأن “مساحات شاسعة من بوركينا فاسو مثلا كانت تخضع لسيطرة الإرهابيين قبل أن تستعيدها السلطات البوركينابية بعد طرد الفرنسيين”.

لماذا تتوالى الانسحابات؟

يُقسّم الباحث الموريتاني في الشؤون الأفريقية المحفوظ ولد السالك، بلدان القارة التي طلبت من فرنسا سحب جنودها، إلى فريقين، يتبنى الأول قطيعة تامة مع باريس، تشمل العلاقات الاقتصادية، فيما يدعو الثاني إلى إنهاء الوجود العسكري فقط.

ويرى ولد السالك أن الفريق الأول الذي يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي دول تحكمها نخب عسكرية وصلت عبر انقلابات، يسعى إلى المحافظة على السلطة من خلال العزف على وتيرة الاحتجاجات الشعبية الرافضة لنفوذ باريس في المنطقة.

ويشير في تصريح لموقع “الحرة” إلى وجود رأي عام في دول جنوب الصحراء يرفض الحضور العسكري الفرنسي، بحجة أنه لم يقض على الجماعات المسلحة، وهو الأمر الذي استثمرته النخب العسكرية التي وصلت إلى السلطة تحت غطاء “الانحياز إلى شعوبها”.

ولا يستبعد ولد السالك عودة الفرنسيين إلى النيجر وبوركينا فاسو ومالي في حالة عودة المدنيين إلى السلطة مستقبلا، قائلا إن “ما جرى ليس رغبة في التحرر بقدر ما هو سعي عسكري للمكوث فترة أطول في مراكز القرار”.

وفي المقابل، يضيف السالك، هناك “دول أخرى تحكمها أنظمة مدنية طلبت بدورها من فرنسا سحب عسكرييها دون إحداث قطيعة اقتصادية معها، ومبررها في ذلك أنها بلدان مستقرة أمنيا ولا حاجة لها بوجود عسكري أجنبي على أراضيها، والأمر هنا ينطبق على السينغال وتشاد وكوت ديفوار”.

من يملأ الفراغ؟

ويطرح الانسحاب العسكري الفرنسي أسئلة كثيرة حول المستفيد الأكبر من هذه العملية والجهة التي ستملأ الفراغ الذي ستخلفه باريس، خصوصا في ظل النشاط المتزايد لجماعات متشددة، بينها بوكو حرام والقاعدة وداعش وغيرها.

إجابة على هذا السؤال، يقول أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنيف حسني عبدي إن “الانسحاب العسكري الفرنسي يُتيح فرصة لدول أخرى كالصين وتركيا وروسيا لتعزيز نفوذها في القارة الأفريقية”.

وعلى عكس روسيا التي استثمرت كثيرا في تكوين النخب العسكرية الأفريقية ولديها رغبة في التغلغل هناك، يشير عبدي إلى أن الصين وتركيا يركزان أكثر على تقوية حضورهما الاقتصادي.

لكن المستفيد الأكبر من الانسحاب العسكري الفرنسي، حسب عبدي، يتمثل في التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة غير النظامية.
وبالنسبة لعبدي، الذي تحدث لموقع “الحرة”، فإن الفراغ الأمني الذي ستتركه فرنسا “يصب في مصلحة التنظيمات الإرهابية، خاصة أن الأنظمة الأفريقية لا تملك القدرة المالية للقضاء على أسباب الإرهاب”.

“المقاربة الأكثر نجاعة للقضاء على الإرهاب هي المقاربة الاقتصادية والتنموية وهو الأمر الذي لا تستطيع الحكومات الإفريقية تحمل أعباءه، ما يفسر تواصل ظواهر تهريب السلع والبشر والسلاح”، وفق المتحدث ذاته.

وحسب إحصائيات لمنظمة “آكليد” غير الحكومية، تسببت أعمال العنف في بوركينا فاسو وحدها على سبيل المثال، في مقتل أكثر من 26 ألف شخص منذ 2015، بينهم أكثر من 13500 منذ انقلاب سبتمبر 2022.

في قراءة أخرى، يرى الباحث في الشؤون الأفريقية محفوظ ولد السالك أن المستفيد الأول من الانسحاب الفرنسي هو روسيا، إذ استعاضت دول النيجر وبوركينا فاسو ومالي عن باريس بموسكو.

ويؤكد أن باماكو تعاقدت مع مجموعة “فاغنر” الروسية (التي تحولت لاحقا إلى فيلق أفريقيا)، ونُشرت قوات روسية في النيجر كما يوجد حاليا تعاون أمني بين واقادوقو وموسكو.

وحسب تقرير صادر عن الخارجية الأميركية، فقد ظهرت منذ أواخر العام 2021، أنباء عن انتشار محتمل لقوات مجموعة فاغنر في مالي، وهي تروج لنفسها على أنها قادرة على مواجهة التهديد الإرهابي في المنطقة.
ورغم الحضور الروسي المتزايد، يرجح ولد السالك استمرار التهديدات الإرهابية والتحديات الأمنية في هذه الدول، سواء بوجود فرنسا أو روسيا أو غيرها، خاصة أن هذه الجماعات المسلحة تنشط منذ فترة طويلة ولم تتأثر بوجود أي قوى عسكرية أجنبية.
استبدال فرنسا بروسيا لا يقتصر، وفق ولد السالك، على الجانب العسكري فحسب، بل يشمل أيضا الاقتصاد وذلك بعد توقيع اتفاقيات مع موسكو وقوى دولية أخرى لاستخراج الموارد الطبيعية.

وبالفعل تعمل شركات صينية منذ 2011 على استخراج النفط من النيجر ومنذ مطلع العام الحالي على تأمين منشآت نفطية، ضمنها خطوط إمدادات لنقل المواد الخام إلى موانئ دولة بنين المجاورة.

في المقابل، يرى ولد السالك أن دول المجموعة الثانية التي تتبنى نهجا أقل تشددا إزاء باريس، اكتفت بمطالبة فرنسا بسحب عسكرييها مع تبني سياسة انفتاح اقتصادي على شركاء دوليين كبار، بينهم باريس وواشنطن وموسكو وبيكين وأنقرة وغيرها.
خلال جلسة الاستماع المخصصة لتثبيته على رأس الدبلوماسية الأميركية في الإدارة الجديدة، شدد ماركو روبيو على ضرورة لعب الولايات المتحدة دورا أكبر في غرب أفريقيا تحديدا، ليس على مستوى محاربة الجماعات الإرهبية فقط، بل أيضا على مستوى الاستثمارات، فهل يحد تدخلها من تحركات أطراف مزعزعة للاستقرار في المنطقة؟

عبد النبي مصدق ـ  الحرة

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *