اخر الاخبار

لا أسطورة إلا غزّة!!

 الأسطورة مشتقة من سطر، وسطر كتب سطرا، وأسطورة من أساطير الأولين: أي مما سطّروا من أعاجيب أحاديثهم، وكتبوا من غرائب أخبارهم، وشاع استعمالها فيما سطروه من الأكاذيب التي يعجب الناس من سماعها، وفي لُكنة المعاصرين تطلق الأسطورة ويراد بها خبرا غير واقعي أو غير حقيقي، كما يقولون: بطولة أسطورية: أي خارقة للعادة، وشخصية أسطورية: أي قامت بأشياء تبدو خارقة للعادة لا وجود لها إلا في الأساطير.

لا يخفى أن كلمة أسطورة قد ابتذلت في استعمالاتها في زمن التفاهة هذا الذي نعيشه، فصار أكثر ما يقال له أسطورة: لاعب كرة القدم أو ممثل أو مغني والتافهون من أمثال هؤلاء، ممن تميز منهم في لعبه ولهوه، مع أن المؤكد أنه ليس في ما يقدمونه من أسطورة ولا أعجوبة ولا أحدوثة غير لهو فارغ يملأ حياة كثير من الناس الفارغة!، إلا إن كان مرادهم بهذا الإطلاق أن هوس البشرية بهؤلاء اللاعبين والفنانين هو ذاته من الأساطير التي ستتعجب أجيال البشرية اللاحقة منها عند رجوعها إلى رشدها وتتندر بذلك وتتفكّه، وتسأل كيف نزل مستوى البشرية إلى هذا الحضيض؟!: {لقد خلقنا الإنسان في أحسنِ تقوِيم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}.

وإذا حملنا استعمال كلمة أسطورة على محمل إيجابي، فيكون معناها إذا ذاك معنى حسنا، عملا خارقا للعادة أو بطولة خارقة أو تميزا خارقا لا وجود لأمثالها إلا في الأساطير، فمن المؤكد أنه سيسقط كل ما قيل فيه أسطورة، ولن تبقى إلا غزّة الجهاد والعزّة، غزّة الاستشهاد والصمود أسطورة سامقة، وملحمة صادقة، أسطورة أصدق ما يكون الصدق!، أسطورة جهاد، وأسطورة مقاومة، وأسطورة استشهاد، وأسطورة صمود، وأسطورة عزّة، وأسطورة حرية، وأسطورة فداء وتضحية!.

وإلا بربكم كيف نهضت منتصرة من ذلك الركام؟!، وكيف ركّعت جيش الكيان ومن خلفه جيش الأمريكان؟!، وكيف أخضعت عصابات الصهاينة ومن ورائهم وحوش الغرب كلهم لشروطها؟! إن لم تكن أسطورة حق وصدق!. إن كل المعطيات المادية، وكل المعطيات الجغرافية، وكل المعطيات العسكرية، وكل المعطيات السياسية، وكل المعطيات العربية والإسلامية كانت تقضي أن (النقطة من الأرض) التي تسمى قطاع غزة لن تصمد أمام آلة الإبادة الجماعية الأمريكوصهيونية شهرا أو أشهر على الأكثر! بيد أن الذي حدث أنها صمدت لآخرة دقيقة ويدها على الزناد حتى استسلم الصهاينة المجرمون، وصادقوا على الصفقة وهم يبكون!، وصدق فيهم قول الملثم الرمز أبي عبيدة: “نبشر (الناتن ياهو) وأركان حربه وقيادة جيشه بأنهم سيجثون على الركب في نهاية المعركة”، وصدق وبرّ، وسحقا للخائنين من الحكام والمخذّلين من المنافقين والمطبعين، وفي مقدمتهم المشايخ المتصهينين، وبعد ذلك أليست غزّة هي الأسطورة؟!. وصدق الله عز شأنه ينصر من يشاء: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}.

لقد كان المدد الاقتصادي والعسكري يصل إلى عصابات الصهاينة من أغلب دول العالم حتى من الدول العربية، وخزائن الذخيرة الأمريكية أفرغت تقريبا مددا وسندا لعصابات الصهاينة، ومع ذلك اشتكوا وبكوا من قلة السلاح والذخيرة، ولكن جند القسام وصحبهم الأبرار كانوا محاصرين من مصر والعالم، وليس لهم أي مدد، ومع ذلك بقوا يقنصون مجرمي الصهاينة ويدمرون دباباتهم وآلياتهم لآخر يوم، فمن أين كانت يأتيهم السلاح والذخيرة؟!، أليست غزّة هي الأسطورة؟!، وصدق الله جل في علاه: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم}.

لقد اصطلت غزّة بنار الحصار وخناقه سنوات طوال، مع قلة ذات اليد، وعداء القريب والبعيد، وخذلان القريب قبل البعيد، ومع ذلك صنّعت سلاحها، وصنّعت طائراتها المسيرة، وطوّرت صواريخها، في الوقت الذي تشتري الدول العربية الإسلامية الغنية (الحرة المستقلة) كل شيء حتى الإبرة من الصين!، أليست غزّة هي الأسطورة؟!.

لقد صمد أهلنا المدنيون في غزّة في وجه الإبادة الجماعية وآلة القتل الأمريكوصهيونية صمودا أذهل العالمين، في صبر ويقين، ورضى بقضاء رب العالمين، في الوقت الذي كان الملايين من قطعان الصهاينة والمستوطنين يتدافعون إلى الملاجئ المحصنة لسقوط صاروخ واحد أو اثنين، ويفزع منهم المئات والآلاف، ويدخل المستشفى بسبب الصدمة العشرات منهم!!، أليست غزّة هي الأسطورة؟!. وصدق الله جل جلاله: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}.

إن غزّة كما يعلم الجميع صغيرة المساحة ضيّقَتُها، وقد دمّرها الجيش الأمريكوصهيوني تدميرا كليا، وصبّ عليها ما يوازي عشر مرات قنبلة هيروشيما أو أكثر، ومخابرات العالم كلها كانت في خدمة جيش الإبادة الإجرامية، بإمكاناتها الضخمة وبتكنولوجيتها الفائقة وبأقمارها الصناعية، ومع كل هذا لم يصلوا إلى أماكن وجود الأسرى الصهاينة، ولم يصلوا إلى أي مركز قيادة للمقاومة بالأنفاق!!، هل لهذا تفسير واقعي؟، كلا!، إن انتصار المقاومة في احتفاظها بالأسرى طول هذه المدة في ذلكم الحيّز الجغرافي المحدود جدا، مقابل إمكانات العدو الوحشي المتطورة جدا، لهو بذاته أسطورة فريدة خالدة!، أفليست غزّة هي الأسطورة حقا؟!، وصدق عز شأنه: {قال الذين يظنون أنهم مُلاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}. وسلام على شهداء غزّة في الخالدين، سلام على أهل غزّة في الصامدين، سلام على مقاومي غزّة في المجاهدين: {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار}.

*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *