العقل الرعوي للنور حمد: جدلية البداوة والتمدن في سرديات الحداثة
يقدم الكتاب تأملًا في بنية العقل السوداني كمرآة تعكس تناقضاته التاريخية والحضارية، حيث تتصارع قيم البداوة مع التمدن، وتتجاذب قوى الرعوية والحداثة في تشكيل الوجود الجمعي للأمة.
هذه الأطروحة ليست فقط تحليلًا نقديًا للعقل الجمعي، بل هي أيضًا عزف فلسفي ينسجم مع حساسية النور حمد كفنان تشكيلي، حيث تتداخل الألوان الرمزية للفن التشكيلي مع تشكيلات الفكر، وتخلق مشهدًا بصريًا لا يكتفي بالسطح، بل يغوص في أعماق فلسفة الجمال، ليعيد صياغة العلاقة بين الزمان والمكان في السودان.
يتناول الكتاب العقل الرعوي لا كمجرد منظومة اقتصادية أو أنماط حياة بدوية، بل كبنية معرفية وقيمية متجذرة تهيمن على التفكير والسلوك الجماعي، وتمارس دورها كقيد ثقافي يعيق التحول نحو الحداثة.
هنا، يستلهم النور حمد رؤية فلسفية أشبه بما طرحه أنطونيو غرامشي في نظريته عن “الهيمنة الثقافية”، حيث يرى غرامشي أن القوى المهيمنة تعيد إنتاج أفكارها المهيمنة في النسيج الثقافي والاجتماعي، بحيث تصبح هذه الأفكار جزءًا من “المنطق العام” الذي يُعاش وكأنه طبيعي.
وتنعكس هذه الرؤية في تحليل النور حمد لخطاب الرعوية، الذي يُعاد إنتاجه عبر أدوات السياسة والدين والتعليم، مما يجعله نسقًا يخترق كافة تفاصيل الحياة السودانية.
ومع ذلك، يُظهر النور حمد تفردًا في تناوله لهذه الفكرة، حيث يضعها في سياق محلي دقيق يُبرز خصوصية الثقافة السودانية وعمق جذورها.
لقد رسم الكاتب لوحته الفكرية عبر استدعاء المفهوم الدائري للتاريخ، وهو مفهوم أثير لدى الفيلسوف جون غراي، حيث يرفض الخطية التقدمية في حركة الزمن، مؤكدًا أن التاريخ الإنساني غالبًا ما يعود ليعيد إنتاج أزماته وأمراضه بأشكال جديدة.
إن هذا التشخيص يتناغم مع التحليل الماركسي، الذي يرى أن التحولات الكبرى لا تتحقق إلا بتغيير البنية التحتية، مما يجعل من العقل الرعوي تجليًا واضحًا للجمود الاقتصادي والاجتماعي الذي حال دون تحقيق قطيعة حقيقية مع الماضي.
لكن النور حمد، وإن أضاء على هذا الجانب، يتجاوزه إلى مستوى أعمق من النقد، حيث يرى أن الرعوية تتسرب كفعل ثقافي وأخلاقي حتى داخل مظاهر الحداثة المزيّفة، وهو ما يسميه بـ”حداثة المظهر”، التي تبدو كقشرة واهية تحجب تحتها هشاشة أسس الدولة الحديثة.
في كتابه، يعرّي النور حمد تلك القيم الرعوية التي تعادي التمدن، وتستبطن التبسيط والانغلاق، مستشهدًا بمظاهرها في التاريخ السوداني.
فهو يشير إلى التحولات التي عاشها السودان منذ دخول الخديوية وحتى الاستقلال، حيث كانت كل محاولة للتحديث تصطدم بجدار من القيم التقليدية التي تُعيد إنتاج التخلف بأشكال جديدة.
إن هذا التشخيص يكشف عن علاقة معقدة بين القيم الرعوية والنظم السياسية، وهي علاقة قريبة مما طرحه عبدالله بولا في كتابه “شجرة نسب القول”، الذي يدرس فيه أنماط السلطة الثقافية وكيف تُعيد إنتاج هيمنتها داخل بنى الخطاب الثقافي والاجتماعي.
ويمتد هذا التحليل ليلتقي بما تناوله خالد الكد في كتابه “الأفندية ومفاهيم القومية في السودان”، حيث يشير إلى أن النخب السياسية لم تستطع تحرير المجتمع من القيود الثقافية التقليدية، بل أعادت إنتاجها بشكل حداثي زائف يخدم استمرار سلطتها.
إذا تأملنا هذا الطرح في ضوء ما كتبه ماركس وإنغلز عن العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية، نجد أن النور حمد يذهب إلى ما هو أبعد، حيث يؤكد أن الرعوية ليست فقط نتاجًا للعلاقات الاقتصادية، بل هي حالة ذهنية ونفسية تُعاد صياغتها باستمرار.
هنا، تتقاطع أطروحته مع أعمال سيغموند فرويد، الذي يرى أن الهويات الثقافية تحمل دائمًا بُعدًا لا واعيًا، حيث تُهيمن الموروثات الجماعية على سلوك الأفراد والمجتمعات.
لكن النور حمد لا يكتفي بالتشخيص النقدي. فهو يستدعي البعد الجمالي والموسيقي، ليعيد صياغة العلاقة بين القيم الثقافية والوعي الإنساني.
في هذا السياق، يمكن أن نرى كيف أن خبرته كفنان تشكيلي له علاقة وثيقة بالموسيقى تفيض على النص، لتمنحه شعرية مدهشة.
حين يتحدث عن “العقل الرعوي”، فإنه لا يرسم صورة جامدة، بل يقدم سيمفونية فكرية تعيد ترتيب النغمات الثقافية، لتكشف عن تنافرها الظاهر وانسجامها الخفي.
لقد استطاع الكاتب أن يعري الرعوية كمنظومة قيمية تناقض روح الدولة الحديثة، حيث تتغذى على النزعات القبلية والعصبية، وتعيد إنتاج نفسها عبر تمجيد القوة والغلبة، على حساب القانون والنظام.
كتاب “العقل الرعوي” هنا يكشف عن كيف تُطوع الثقافة لتصبح أداة مهيمنة تخدم الأنظمة السياسية عبر إدامة الجهل والتخلف، مستخدمة أساليب متنوعة تتراوح بين الخشونة الظاهرة والنعومة المقنّعة.
وهي الفكرة التي تستدعي ارتباطات بما قاله إدوارد سعيد في “الثقافة والإمبريالية” عن الأنظمة التي تُعيد إنتاج خطابها من خلال الثقافة.
ولكن في النهاية، يبقى السؤال الذي يراوغنا: كيف نُعيد ترتيب أنغامنا الثقافية في سيمفونية جديدة تتجاوز نشاز الرعوية؟
أطروحة النور حمد ليست فقط دعوة للنظر في مرآة الذات، بل هي صرخة فلسفية تحثنا على تفكيك قيود العقل الجمعي وتحرير الفرد من أغلال الماضي.
إنها رؤية تدعو إلى إعادة تعريف الحداثة ليس كقطيعة مع الجذور، بل كحوار خلاق يتناغم فيه الإرث الثقافي مع ضرورات الحاضر.
إن التحول المنشود لن يتحقق دون دور فعال للأجيال الجديدة، التي تحمل في داخلها بذور التغيير، وتملك القدرة على تجاوز ثنائية الرعوية والتمدن.
إنها دعوة لإعادة بناء الوعي الجمعي، حيث تصبح الحداثة مشروعًا جامعًا يتجاوز القيود الثقافية والسياسية، ويفتح الطريق نحو مستقبل تتلاقى فيه الأصالة مع الابتكار، في رقصة أبدية بين النور والظل.
المصدر: صحيفة الراكوبة