اخبار السودان

بين الأسد وقسم أبقراط

(1)

من ينظر إلى سورية التي حكمها رجلٌ ورث الحكم وراثة لا مسوّغ شرعياً أو قانونياً لها، سيرى مشهداً ودّع فيه شعب عاش القهر أكثر من ثلاثة عقود أو تزيد، وافتتح عهداً جديداً في الشهر الأخير من عام 2024. لقد شنَّ نظام البعث العربي بعد تولي ذلك الوريث حكم البلاد بقبضة حديدية حرباً شعواء ضد أبناء شعبه، بل قل أبناء جلدته، تكاد تشبه حربَ إبادة جماعية. عندما هبّت نسائم الربيع العربي على سورية وبعد السقوط المدوّي لبعض زعماء عرب في شمال أفريقيا، اقترب الشعب السوري من هبَّة كادت أن تسقط النظام، غير أن بشّار الأسد كان طاغية جبّاراً، لا شخصاً كان يمتهن يوماً مهنة الطب. ليعجب المرء، عربياً كان أم أجنبياً، أن يرى دولة تقف على تاريخ وإرثٍ راسخ في وجدان كل عربي تتداعى عظمتها تحت مباضع جزّار لا يرحم.

بشّار الأسد حاكم وطبيب، والطبيب في أيّ مجتمع إنساني راشد، يداوي ولا يقتل، إلا إن كان يرى، وباعتقاد زائف، أن قتل معارضي حكمه من أشكال القتل الرحيم الذي شاع في حضارات غير حضارةٍ كان من مؤسـّسي علم الطب فيها تاريخياً، علماء مثل الشيخ الرئيس ابن سينا وابن الهيثم ويعقوب الكندي وأضرابهم.

لو فعل حاكمٌ مثل فعل بشّار الحاكم الطبيب بشعبه، قـتلاً وتشريداً وتحطيماً بمقدرات بلاده، وهو طبيب، فإنه لن يكون قطعاً ذلك الطبيب المداوي، بل هو قاتل ســفاح، ويشهد عليه سجن صيدنايا لا يقلّ شـراسـة عن هولاكو التتاري وأشباهه في التاريخ القديم.

(2)

للمرء أن يتساءل: ترى هل درَى الرّجل أن أفعاله تخـدم مصالح تخصّ الشعب السوري، وتعزّز مكانة سورية في قلب أمتها العربية، أم هي لخدمة مصالح تخصّه أو تخصّ أطرافاً معلنة يعـرفها الناس؟ من تابع ورأى إلى أيّ جهة فـرّ واختبأ، يدرك أيّ أجندة اعتمدها الرجل الذي حكم سورية 24 عاماً في لعبة التنافس الدولي. إنّهُ محض بيدق تتحكّم فيه إرادة أقوى من إرادته السياسية يملكها كبارٌ في ذلك الملعب. لم يكن الرجل سوى ناطور مطلوب منه أن يُبقي الملائكة نائمين ليستأنف الكبار نهب ما يريدون. دعني أستعير لك من بيت شعري للمتنبي يصدق على تلك الحالة، فقد نامت نواطير بساتين المجتمع الدولي عن ثعالبها فقدـ بشمن وما تفنى العناقيد لكن الناطور لم يكتفِ بالحراسة بل حثّ جلاوزته لرمي معارضي نظامه في سجن صيـدنايا. بعد أن كمَّم الأسـد أفواه من عارضوا دوره بيدقاً في لعبة التنافس الدّولي، صارت سـورية كلها حبيسة ذلك السـجن.. تضامناً مع مقاطعة المجتمع الدولي لأفعال حليفهم المشـينة ضدّ شــعبه، انزوى في موسـكو حُماة نظــام الناطور خجـلاً، لكنهم ظلوا على حالـهـم يحمونه لتبقى سـورية تحت قبضتهم باباً مفتوحاً تطلّ عـبره على المناطق الدافئة في تخوم الشرق الأوسط.

(3)

ترى هل سمع أحدٌ بدورٍ قويِّ لموسكو حين انبرى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، في فترة رئاسـته الأولى، متبنّياً حماية إسرائيل؟ الإجابة هنا بالنفي. أما في حقبة الرئيس الحالي بايدن، فقد انشغلت موسكو بحربها المعلنة ضد أوكرانيا لحوالي العامين.

بات النظام السّـوري الذي يتزعّمه بشّار الأسد، مُنهكاً بسبب جولات المعارضة السجالية معه

بات النظام السّـوري الذي يتزعّمه بشّار الأسد، مُنهكاً بسبب جولات المعارضة السجالية معه، فيما لموسكو حساباتٌ تخصّها وهي ترى أن قـيامة حليفها، كادت أن تقوم جرّاء استفحال معارضة نظامه المشتدة داخليا وخارجياً. رهان موسكو ونفوذها ووجودها العسكريّ في سورية بدا مُكلفاً، ولم تعد له أولوية في حساباتها، فيما حربها مستعرة ضد أوكرانيا. في لعبة التنافس الدولي، تدرك موسكو مرامي مساندة كلٍّ من الغرب الأوروبي والولايات المتحدة لأوكرانيا في حربها ضد روسـيا. المواجهات لم تعد باردة كما في حقبة أواسط القرن العشرين، ولا ساخنة بين كبار المجتمع الـدولي، بل صارت الصورة أقرب لمواجهات لحروبٍ بأسلحة جيلٍ جديدٍ تدار وقائعها بالوكالة. تلك تعقيدات تركت تأثيرها على مجمل العلاقات السورية الروسية، ولربما كانت هي التي عجّلتْ برحيل نظام الأسد ورمتْ به إلى مزابل التاريخ.

(4)

للمرء أن يتساءل إن كان الطبيب الذي حنث بقسـم أبقراط، وحمل عـبء إدارة حكم سورية عقب موت والده، وخلال كل هذه المدة الطويلة، قـد حقق نجاحات تبرّر بقائه طويلاً في حكم البلاد، أم أن سياسات البطش الأمني طوال حقـبة حكمه هي التي قادت المعارضة السورية بمختلف راياتها إلى إسقاط نظامه؟

لم يتوقع الأسد أن تسقطه قوى من المعارضة كانت تتوجّس منها الولايات المتحدة والكثير من الأطراف الأوروبية وأيضا أطرافٌ عربية ذات وزن

قد تكون الإجابة بنعم، ولكن بتحفظٍ على السؤالين. لعلّ الأرجح أنّ نظام الطبيب الفاشل، صار عبئاً على أشقائه العرب يوم قرّروا طرد نظامه من جامعة الدول العربية سنوات، ثم أعادوه على مضض، لكن نظامه صار أيضاً عبئاً ثقيلاً على دولتين تحالفتا معه، هما روسيا بعلمانيتها وإيران بإسـلاميتها، إذ نفضتْ الدولتان كلاهما أيديهما فخسر “الطبيب الرئيس” كروت بقائه، بعد أن تنمّرت المعارضة السّـورية فجأة وبإسـناد خفيّ ممّن حوله ومـن المجتمع الدولي، فهوى النظام وفـرَّ الرَّجل إلى موسكو.

(5)

ذهب الأسد إلى الاختفاء، وهو لا شك تتملكه الحسرة، فلم يتوقع أن تسقطه قوى من المعارضة كانت تتوجّس منها الولايات المتحدة والكثير من الأطراف الأوروبية وأيضا أطرافٌ عربية ذات وزن. هي حسرة مشوبة بخذلان.

سورية التي كانت أول من جرب إسـقاط الحكومات بالانقلابات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط في أربعينيات القرن الماضي، ينجح شعبها في إسقاط حكومة جاءت بانقلاب عسكري قبل أكثر من 50 عاماً. الرجل الذي أسقطه شعبه لن يجد نظاماً يترأسه، بل ولا مشفى يمارس فيه مهنة الطب فقد حنث بقسم أبقراط، وأهدر أهم بنود ذلك القسم بإهداره دم الإنسان ودم شعبه وقتل النفس بغير حق. أما المستفيد الأول من قهر الأسد الشعب السوري فهو الكيان الصهيوني الذي ترك له الأسد بلداً منهكاً لن يكلفه جهداً إضافياً ليفعل مثلما فعل في غزّة أو لبنان.

نقلاً عن العربي الجديد

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *