اخبار السودان

لمن يبيع ترامب أناجيله؟

لمن يبيع ترامب أناجيله؟

صدر الصورة، godblesstheusabible.com

التعليق على الصورة، ترامب في الإعلان الترويجي لطبعة “ليبارك الله أمريكا” من الكتاب المقدس
  • Author, سناء الخوري
  • Role, بي بي سي نيوز عربي بيروت

كيف تُقنع الناس بشراء كتاب يملكونه؟ وكيف تبيعه بستين، أو سبعين، أو ألف دولار حتى، رغم أنه متاح مجاناً؟ وحده دونالد ترامب يعرف الإجابة.

خلال حملته الانتخابية، وبدءاً من آذار/ مارس الماضي، روّج الرئيس الأمريكي المنتخب لطبعة من الكتاب المقدّس بعنوان “ليبارك الله أمريكا”، بسعر يصل إلى ستين دولاراً.

الخطوة أثارت موجة من السخرية في البرامج التلفزيونية وعلى مواقع التواصل، فيما عبّر قساوسة عن استيائهم من الخطوة، وذهب القس لوران ليفنغستون حدّ وصفها بـ”التجديف”، لأن “الإنجيل للمسيح وليس للولايات المتحدة” بحسب قوله.

رغم ذلك، يبدو أن الكتاب وجد جمهوره، إذ حقق أرباحاً وصلت إلى 300 ألف دولار، الصيف الماضي، تزامناً مع نجاة ترامب من محاولة اغتيال خلال إحدى جولاته الانتخابية، والحديث عن صعوبات مالية واجهته نتيجة تكاليف الدعاوى القضائية ضدّه.

فاز ترامب بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والاثنين، يحتفل بتنصيبه، معلناً عودته منتصراً لولاية ثانية إلى البيت الأبيض. وللمناسبة، قرّر إصدار طبعة جديدة من كتاب “ليبارك الله أمريكا”، بسعر 70 دولاراً، ستكون متوافرة للراغبين على الموقع الرسمي حتى مساء الأحد فقط.

“نبوءة كتابية”

لطالما أثار موقف ترامب من الدين تساؤلات حول مدى اعتماده على دعم الإنجيليين الأمريكيين، خاصةً مع اعتقاد شريحة كبيرة منهم بأن وصوله إلى السلطة يُمثّل تحقيقًا “لنبوءة كتابية”. ورغم ذلك، فهو لا يُعرف بالتدين، إذ عجز في مقابلة أُجريت معه عام 2015 عن ذكر أي آية يحفظها من الإنجيل.

هل تغيّر ترامب خلال السنوات الماضية وأصبح يحفظ بعض الآيات؟ لا نعلم ذلك، ولكن ما نعرفه هو أنه أكّد في إعلان ترويجي لطبعة الاحتفال بالتنصيب على أهمية أن “نجعل أمريكا تصلّي مجدداً”، مستلهمًا ذلك من شعاره الانتخابي الشهير “لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً”.

كتاب “ليبارك الله أمريكا”، الذي يُطلق عليه البعض “إنجيل ترامب” أو “الكتاب المقدّس الوحيد المدعوم رسمياً من الرئيس ترامب”، كما يصفه الموقع الرسمي المخصص له، متوفر بنسخة “مميزة” تحمل توقيع ترامب وتُعرض للبيع مقابل ألف دولار. كما توجد نسخة خاصة أخرى بعنوان “يوم تدخّل الرب”، وعلى غلافها تاريخ 13 تموز/يوليو 2024، الذي يرمز إلى نجاة ترامب من محاولة اغتيال.

من الإعلان الترويجي لنسخة الاحتفال بتنصيب ترامب

صدر الصورة، godblesstheusabible.com

التعليق على الصورة، يحمل غلاف الطبعة الخاصة بتنصيب ترامب تاريخ التنصيب واسم الرئيس الأمريكي

أغنية وهوية وطنية

تخطى يستحق الانتباه وواصل القراءة

يستحق الانتباه نهاية

صدر كتاب “ليبارك الله أمريكا” للمرّة الأولى عام 2021، بدعم من المغني الأمريكي لي غرينوود، بمناسبة مرور عشرين عاماً على استهداف مركز التجارة العالمي.

غرينوود هو صاحب أغنية وطنيّة أمريكية شهيرة صدرت عام 1984، بعنوان “ليبارك الله أمريكا”، تعاظمت شعبيتها بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، وباتت رمزاً وطنياً تبثّ خلال الأحداث الكبرى، وأداها غرينوود في جولات ترامب الانتخابية، ومن المتوقع أن يؤديها في احتفال التنصيب.

تعبّر كلمات الأغنية عن الفخر بالانتماء للولايات المتحدة، والتضحية من أجل الحرية، وقيم العائلة، وكلّها مفاهيم تتوافق مع شعارات ترفعها شريحة واسعة من مؤيدي ترامب الذين يجدون في شخصيته نقطة التقاء بين القيم الأمريكية التقليدية، ورؤيتهم للولايات الأمريكية كـ”أمة مسيحية” في جوهرها.

ويوضح إحصاء نشره “مركز بيو للأبحاث” توجهات ناخبي ترامب، ومواقفهم من بعض القضايا الأساسية، ففي حين أن 55 بالمئة منهم “يفضلون فصل الدين عن سياسات الحكومة”، فإنّ 92 بالمئة منهم يرفضون فكرة تغيير الجنس البيولوجي، و89 بالمئة منهم يدعمون حيازة السلاح، و75 بالمئة منهم لا يعتقدون أن إرث العبودية يؤثر على السود اليوم بشكل كبير.

هذه الأرقام تشير إلى أن الالتزام الديني يشكّل عنصراً مهماً لدى هؤلاء الناخبين، لكنه لا يتصدّر أولوياتهم مقارنة بعوامل قومية وثقافية واجتماعية. فهم يركّزون على تعزيز القيم المحافظة التي تتماشى مع رؤيتهم للولايات المتحدة كـ “أمة مسيحية بيضاء”. هذا الموقف يضعهم على أقصى يمين الطيف السياسي الأمريكي، خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا الخلافية الكبرى مثل الحقوق الإنجابية والمسائل الجندرية.

أسلوب حياة

عند التسويق للكتاب، عوّل الناشرون على نقطة التقاء بين الانتماء الأمريكي والنصّ الديني، إذ نجد في نهاية الكتاب مجموعة نصوص وطنية وقومية أمريكية، بدءاً من دستور الولايات المتحدة، وإعلان الاستقلال، وقسم الولاء، وكلمات أغنية غرينوود مكتوبة بخطّ يده. أما على الغلاف المصنوع من الجلد الصناعي البني، فنجد علم الولايات الأمريكية محفوراً.

في هذا السياق، تشير الأكاديمية والأستاذة المحاضرة في جامعة برمنغهام البريطانية، نعومي هاينز، إلى أن تسويق الكتاب المقدس بنسخة “ليبارك الله أمريكا” لا يستهدف بالضرورة المعتقدات الدينية فحسب، بل يعكس أسلوب حياة أمريكي، حيث أصبحت المقتنيات والسلع وسيلة لتحديد الهويات الفردية والجماعية. تقول هاينز: “الطريقة التي يعرّف بها الإنجيليون الأمريكيون عن أنفسهم لم تكن من خلال الانتماء الطائفي أو القناعات اللاهوتية أو حتى الروابط التاريخية، بل عبر الأشياء التي يستهلكونها.”

توضح هاينز لبي بي سي عربي: “لقد أتقن الناشرون فن بيع كتاب يمتلكه الناس أصلاً”. وتشير إلى أن أحد الأساليب التسويقية الناجحة هو إعادة تقديم الكتاب المقدّس كمنتج مُوجّه، موضحة: “هناك تاريخ طويل في إصدار نسخ مستهدفة من الكتاب المقدس، مثل طبعات مخصصة للنساء، أو للمراهقين، أو لمجموعات عرقية معينة.”

وترى هاينز أن هذا التداخل بين التجارة والدين ينسجم تماماً مع شخصية دونالد ترامب كرجل أعمال. وتقول: “إنجيل ترامب نموذج مثالي عن كيفية تسخير المنتجات الاستهلاكية لتعزيز الهويات الدينية والسياسية. إنه يجمع بين نصوص الكتاب المقدس ووثائق وطنية مثل الدستور وإعلان الاستقلال، مما يضفي عليه طابعاً فريداً يجذب المستهلكين”.

ترامب والمغني لي غرينوود الذي سيؤدي أغنيته

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، ترامب والمغني لي غرينوود الذي سيؤدي أغنيته “ليبارك الله أمريكا” في احتفال التنصيب

بائع الإنجيل

كان القس بنجامين مارش من كنيسة “فيرست ألاينس” في مدينة وينستون سالم بولاية كارولاينا الشمالية من رجال الدين الذين تحدثوا بشكل علني عن رفضهم لترويج الكتاب المقدس بنسخة تتضمن نصوصاً وطنية أمريكية أو ترتبط بالسياسة.

يقول في اتصال مع بي بي سي عربي إن هذا الإصدار “الذي يمزج بين الكتاب المقدس والدستور الأمريكي، يوحي بشكل غير مباشر بأن هذه الوثائق تمثل تحقيقاً لوعود يسوع بعودته. هذا يُعد تجديفاً لأن أمريكا ليست سوى أمة أخرى أو إمبراطورية عابرة في تاريخ البشرية، وليست بأي حال من الأحوال تجسيداً لوعود كتابية”.

ويوضح مارش: “في أمريكا، لعبت فكرة بائع الإنجيل دوراً مهماً للغاية. وهذا يعود إلى أكثر من قرن في الأدب الأمريكي”. ويقول إن قصة “الأشخاص الذين يجولون من باب إلى باب لبيع الأناجيل في الولايات المتحدة، خاصة في الجنوب الأمريكي، هي جزء من الثقافة الأمريكية.”

“يضيف مارش أن خطوة دونالد ترامب لتسويق نسخة من الإنجيل تحمل اسمه ليست بعيدة عن شخصيته، قائلاً: “بالنسبة لترامب، القيام بذلك ليس انحرافاً عن شخصيته كرجل أعمال وكبائع مستعد لوضع اسمه على أي منتج في محاولة لتحقيق الأرباح.”

يشرح القس مارش أن بعض الإنجيليين يرسمون مقارنات بين ترامب وشخصيات من الكتاب المقدس، مثل الملك قورش الكبير، وهو حاكم فارسي في العهد القديم اعتُبر أداة لتحقيق إرادة الله. يقول: “ينظرون إلى ترامب كأداة يستخدمها الله لتحقيق غاياته الإلهية، رغم عيوبه. المؤيدون له لا يركزون على شخصيته أو سلوكياته، بل يرون فيه وسيلة لتحقيق ما يعتبرونه خطة الله لأمريكا”.

ويضيف مارش أن هذه الخطة، بالنسبة للعديد من مؤيدي ترامب، تشمل مواجهة السياسات التقدمية، تحديداً فيما يتعلّق بالحقوق الإنجابية وحقوق مجتمع الميم عين.

يقول: “نرى اليوم محاولات لإعادة إدخال الكتاب المقدس والوصايا العشر إلى الفصول الدراسية في المدارس العامة، وأيضاً تمويل المدارس الدينية الخاصة بأموال عامة. هذه الجهود ليست جديدة، لكنها تمثل جزءاً من هذا التوجه القومي المسيحي الذي يريد أن يجعل المسيحية العنصر الأساسي في هوية أمريكا”.

ترامب

صدر الصورة، Getty Images

“أفكار متطرفة”

تقول الدكتورة هاينز إن أفكار القومية المسيحية ليست حكراً على الولايات المتحدة، بل تمتد إلى دول أخرى. “هناك حركات قومية مسيحية تكتسب نفوذاً متزايداً في أماكن مثل البرازيل وأوغندا وغانا وزامبيا، وكذلك في روسيا الأرثوذكسية وبولندا الكاثوليكية. تُظهر هذه الحركات اهتماماً مماثلاً بدمج الدين مع الهوية الوطنية وتعزيز القيم الثقافية والأخلاقية من منظور ديني”.

يشكل الإنجيليون المستقلون جزءاً أساسياً من القاعدة الدينية لدونالد ترامب، وهم جماعات دينية تعمل خارج الهياكل التقليدية للطوائف الكبرى، مما يمنحها استقلالية ومرونة في تحديد توجهاتها. توضح الدكتورة نعومي هاينز أن “الإنجيليين المستقلين ليسوا جزءاً من الطوائف التقليدية مثل الكنيسة الكاثوليكية أو الأنغليكانية، بل هم شبكات مرتبطة ببعضها البعض بشكل فضفاض، تعمل خارج الهياكل الهرمية الرسمية”.

وتشير إلى أن هذه الجماعات غالباً ما تتبنى نهجاً فردياً في ممارساتها الدينية، وتضيف: “هناك نوع من العقلية الاستهلاكية في كيفية تعامل هذه الجماعات مع التفسيرات الدينية وترجمات الكتاب المقدس. يختارون ما يناسب ميولهم الثقافية والاجتماعية، ما يجعلهم أكثر مرونة واستقلالية مقارنة بالطوائف التقليدية.”

يشير القس مارش أن الطابع المستقل يجعل تلك الجماعات أكثر تقبلاً للأفكار المثيرة للجدل. ويقول: “هناك كذبة أساسية تنتشر في العديد من الدوائر المسيحية، تفيد بأن القيام بعمل سياسي، خصوصاً في الأوساط اليمينية وأحياناً حتى في الأوساط اليسارية يحمل قيمة روحية حقيقية. يعتقدون أنهم ينفذون إرادة الله، وأن الله راضٍ عن أفعالهم”.

ويتابع: “الخطر في هذا النهج هو أنه يدفع الناس إلى الاستعداد للتضحية بأنفسهم، أو حتى ممارسة العنف ضد الآخرين لتحقيق ما يعتقدون أنه مشيئة الله في العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة”.

السياسة والأسواق والذكورة

تنبع جاذبية ترامب عند الإنجيليين مما هو أبعد من الدين، إذ تمتد إلى السرديات الثقافية والاقتصادية. تشير الدكتورة هاينز إلى كتاب “يسوع وجون واين” (Jesus and John Wayne)، الذي يجادل بأن الإنجيلية الأمريكية لطالما كانت متأثّرة بمُثل الذكورة الفجّة والقاسية. وجون واين (19071979) ممثّل أمريكي شهير عرف بأدوار البطولة في أفلام الغرب الأمريكي، ويعد رمزاً لقيم الذكورة التقليدية والهوية الوطنية الأمريكية.

“تقول هاينز: “الإنجيلية الأمريكية لطالما كانت ترتبط بفكرة الرجولة الصارمة، وشخصية ترامب كقائد قوي ومقاتل تتماشى تمامًا مع هذه السردية. إنه البطل الذي كانوا ينتظرونه”.

يمتد هذا التأثير إلى القوة الاقتصادية، إذ تشير هاينز إلى أن “السوق الإنجيلي” يشمل كل شيء، من الكتب ووسائل الإعلام إلى المدارس، مما يخلق نظاماً ذاتي الاستدامة يعزز الهويات الدينية والسياسية.

تضيف: “الصلة بين الدين والأسواق في الولايات المتحدة لا تتعلق بالإيمان الفردي فقط، بل تمتد إلى المشهد السياسي والاقتصادي بالكامل، وهو ما يفسر قدرة ترامب على تسويق منتجات تحمل طابعه الشخصي، مثل الكتاب المقدس الذي يحمل اسمه”.

من جانبه، يحيل مارش إلى خطر قد يمثله “إضفاء القداسة على مؤسسات بشرية”. ويقول: “رأينا في التاريخ الأمريكي كيف أن هذا الاعتقاد يمكن أن يؤدي إلى العنف، كما حدث في السادس من يناير (اقتحام مبنى الكابيتول بعد خسارة ترامب الانتخابات عام 2021).

ويقول: “عندما يجتمع الإيمان الديني مع القوة السياسية والاقتصادية، يصبح المزيج خطراً للغاية، خاصة عندما يشعر الناس أنهم لا يحصلون على ما يريدون، ويعتبرون أن العنف هو السبيل الوحيد لتحقيق أهدافهم”.

هذا التشابك بين الدين والسياسة يعكس، بحسب هاينز، أيديولوجيا القومية المسيحية، التي لا تتعلق فقط بقضايا الأسرة أو النوع الاجتماعي، بل تمتد إلى الاعتقاد بأن “الأمة نفسها مقدسة ومُسخرة لتحقيق إرادة الله”.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *