السوسيولوجي المرجان يبرز اختلاف “حومة المغرب” عن حارات المشرق
تهتم دراسة جديدة بمفهوم “الحومة” شبه المندثر في ظل التطور العمراني والمدِيني المستمر، وتدهور المدينة التقليدية؛ رغم أن المدينة المغربية شكلت بعمقها التاريخي والجغرافي “تعبيرا حقيقيا عن التطور الحضري القائم على أساس رؤية عمرانية متقدمة، تسعى إلى الملاءمة بين الوظائف الاقتصادية والسياسية والسكنية والثقافية لهذه المدينة؛ كما حمل نظامها المجال عملية الإدماج السوسيو اقتصادي على قاعدة القرابة والجماعة، موزعا الساكنة حسب الأصل، والزبونية، والقطاع الاقتصادي، بدلا من الطبقة الاقتصادية”.
لكن، وفق دراسة الأستاذ الباحث في علم الاجتماع الحضري محمد المرجان، في مقال علمي بمجلة “ساينس ستيب جورنال”، “مع بداية السيطرة الاستعمارية، الفرنسية والإسبانية، وحتى في ما بعدها، ستعرف المدينة التقليدية اختلالا أفقدها جزءا كبير من مساحاتها ومن أدوارها ووظائفها، وارتبطت صورتها بساكنة فقيرة ومعدمة، وسكن مهجور، وبناءات مشوهة إلى حد كبير؛ كما تدهورت خدماتها الاجتماعية ومرافقها العمومية، سواء في (الحومات) أو في القطاعات المركزية الأخرى”.
هذا ما يفسر، حسب المصدر ذاته، “الاهتمام بتاريخ هذه المدينة، ورصد أهم التطورات التي عرفتها على مستوى بعض وحداتها الفرعية، وبالأخص الكيان الحضري المعروف بـ(الحومة)، على قدر كبير من الأهمية؛ فلطالما تغنى به الكثير من الشعراء، والأدباء، والسينمائيين، وحتى المؤرّخين… وعبر الكثير منهم عن لوعة الحنين لهذا المجال الذي انغرس في ذاكرتهم، وساهم في بلورة جزء من هويتهم، وشكّل موطنا حقيقيا لانتمائهم”.
ويعرّف “لسان العرب” لابن منظور، الحومة بكتابة: “الحوم الخمر المعتقة التي تحوم في الرأس، والحوم هو القطيع الضخم من الإبل. والحومة من البحر والماء والرحل وغيرها، والحومة من القتال أشد موضع فيه. وقد درج العرب على إشراكها بالحمى، وهي العشيرة، وما قبلها التي تستوجب الذود والدفاع عنها”.
وتتابع الدراسة: “على هذا الأساس يرتبط المعنى الاصطلاحي للحومة بالتجمع وبالعصبية المعبرة عن الوحدة وتقاسم المشاعر والمواقف. ومما لا شك فيه أن المفهوم السكني للحومة شكّل إطارا أساسيا داخل المدينة الإسلامية، خاصة بعد انتظام هذه الأخيرة كمحطة تجارية في غاب الأحيان، في أنماط من التنظيم العمراني والسكاني، وأنماط من تنظيم العمل وعلاقات التبادل”.
ويفرّق البحث بين الحومة المغربية و”الحارة” المشرقية، لكون الأولى ولو كانت “إطارا سكنيا يشمل عددا من المؤسسات والهياكل الأهلية التي تؤدي مجموعة هامة من الخدمات الاجتماعية، فإنها رغم ذلك لا يمكنها أن تستقل من الناحية الإدارية، ولا يمكنها تعيين الشيخ أو المقدم، اللذَين عادة ما يتوليان تدبير هذه الخدمات الاجتماعية داخل الحومة، نظرا لكون الوظائف القانونية والاقتصادية تبقى غالبا بيد السلطة المركزية”.
ومن الاختلافات أيضا أن “العصبيات المولِّدة للصراعات بين الحومات لا تقوم على أساس طائفي أو عرقي أو ديني” بل هي “عداوات تستمد عناصرها من حرمة الحدود الجغرافية للحومة، التي تنفرد بها عن غيرها، والتي لا يمكن تجاوزها إلا في حالات التضامن والتعبئة”، وفق الدراسة: التي زادت: “من بين ما يميز الحومات وجود مسالك تربطها ببعضها، وتقاطعات للعديد من الأزقة تبرز في الغالب طابعها الجمعي. لكن الالتواءات والمنعرجات والأزقة الضيقة جدا أو بدون منفذ، والمميزة لهذه الوحدات، تضفي عليها غموضا لا يستشعره إلا الغرباء أو الأجانب. هذا التخطيط يجعلها في الواقع قادرة على امتلاك سلطة الإدماج وسلطة الإقصاء”.
وتذكر الدراسة أن التطور الديموغرافي للحومات بعد الاستقلال لم يكن نتيجة للهجرة القروية نحو المدن فحسب، بل أيضا نتيجة للثقافة الاجتماعية القائمة على التضامن والتكافل الاجتماعي بين مختلف الطبقات الاجتماعية، خاصة في المناسبات التي تقتضي إظهار قدر معين من التعاطف، كالولادة والموت والمرض.
ومن بين خصائص “الحومة” بأزقتها الضيقة والقصيرة كونها “لا تسمح بحرية واستقلالية الأنشطة الممارسة، وبالتالي تبقى كل الحركات تحت مراقبة الجيران، والمعارف، وأهل الحومة عامة؛ كما أن صلاحية التربية تعود لمختلف الفاعلين المتوفرين على الصفة، حتى ولو تم الاعتراف باقتصارها على الوالدين فحسب”. وهذا “الحصار الذي تفرضه الجماعة على الأنشطة السلوكية لمن هم دون سنها، يعبر، في النهاية، عن حرصها على تكييف السلوكات مع المعايير والقيم والعادات المتبناة من طرف الجماعة، وبالتالي يسهل انقيادها وتعاملها مع مكونات هذه المنظومة القيمية التقليدية”، بحسب البحث ذاته، مردفا: “ولو أن هذه مراقبةٌ تلقائية وطوعية، وليست ذات طابع مؤسسي أو تعاقدي، إلا أن ثقلها وضغطها يسهلان عملية نقل القيم بسلاسة بين الأجيال، خاصة أن عملية الخروج عن سياق المراقبة الوالدية أو بالنسبة للأشخاص الكبار تبدو محفوفة بالكثير من الحكايات المخيفة”.
ثم تسترسل الدراسة: “يبدو الكلام عن الحومة في المدينة الحديثة من باب الحكايات المروية عن التاريخ القديم والبعيد جدا عن الواقع الحضري الجديد. وحتى في حالة إقرارنا بوجود بعض الحومات داخل هذه المدن فإن الأخيرة تبدو في الغالب منفصلة عن ماضيها. إنها حومات بدون جذور، تمارس كل وسائل القطع مع التاريخ والذاكرة، وأول مفارقاتها تتعلق بنظام التراتبات الاجتماعية، الذي أصبح يقوم على معايير مادية، بين السكن الراقي، والسكن المتوسط، والسكن الوضيع، ومعايير مهنية، مثل سكن الموظفين، وسكن العمال، والإثنية، مثل حومة دكالة، وحومة الشياظمة، وحومة طنجاوة، بدلا من قيامه على إعادة التضامنات الثقافية، والرمزية، والسكنية”.
ولا تنكر الدراسة استمرار بعض مجالات التنشئة داخل الأحياء الجديدة، “خاصة اكتساب المهارات واللعب”، ولو استبدل مفهوم الحومة بمفهوم العمارة أو الإقامة أو المجموعات السكنية، وتورد في خاتمتها أنها “لا تسعى إلى إثبات أفضلية المجال التقليدي وإيجابيته في تحقيق التنشئة الاجتماعية التامة لأفراده، ولا للتأكيد على هجانة واختلال التشكيلات المدينية الجديدة، بل فقط للإشارة إلى مدى أهمية (النموذج الثقافي) الذي ينبغي أن تبنى المدينة على أساسه؛ هذا النموذج الذي سمح في الماضي بإنجاز عمران يستمد أسسه وقواعده من المبادئ النابعة أصلا من المجتمع، لم يعد اليوم في مواجهة المد الفرداني قادرا على تحقيق ذلك؛ بالتالي تقديرا لخطورة هذا الانفصال فإن التلازم بين الجانب المورفولوجي والجانب الاجتماعي هو المدخل المهم من أجل ترسيخ السلوكات المدِينية القادرة على استيعاب المد الحضاري الحداثي بدون ألم ولا تناقض أو نرجسية. وبالتالي تبني القيم والمبادئ المشجعة على التعايش بين المكونات المختلفة داخل المجتمع الحضري، بما يحقق التضامن والتبادل، والجوار الحقيقي المانع لكل (الحروب الأهلية) المتربصة”.
المصدر: هسبريس