اخبار السودان

من نسيم “أبو صلاح” حتى جواب إيمان الشريف.. الرسائل والمرسال خلال مئة عام في الغناء السوداني

*عمر عبد العزيز

ظل ذكر الرسائل والمرسال موضوعا دارجا ومتكررا في الشعر والغناء السوداني منذ عقود طويلة، ولعل الأمر كذلك في أشعار المبدعين وغنائهم في كل أنحاء العالم، فالرسالة والمرسال هما وسيلة التواصل بين المحبين والعشاق، في أزمان كان يعز فيها اللقاء، بل في عالم اليوم كذلك عندما يستحيل اللقاء، مع تغير أنواع الرسائل من الخطابات الورقية والتيليغراف إلى الماسنجر والواتساب والإيمو وغيرها.

لكن تكرار هذا الموضوع مرات ومرات في الغناء السوداني لم يكن مملا، لأن الكثير من الشعراء السودانيين جددوا في تناوله وطرحه، بل في مخاطبة المرسال نفسه، بل وفي طبيعته، ولا يمكن لمقال واحد، بالطبع، أن يأتي على ذكر كل ما قيل في سيرة الرسائل والمرسال، لكن “ما لا يدرك كله، لا يترك جله”، كما يُقال.

أبدأ بشاعر طوَّع الكلمات قبل أكثر من مئة عام، لكن كلماته لا تزال حاضرة وباقية كأنها قيلت يوم أمس، شاعر الحقيبة الكبير “أبو صلاح”، الذي اتخذ من النسيم مرسالا له.

بالطبع فإن “أبو صلاح” لم يكن الشاعر الوحيد الذي جعل النسيم مرسالاً، لكنني ازعم أنه من أفضل من فعلوا ذلك، فهو لم يخاطب النسيم خطابا سريعا متعجلا، لكنه أفرد له مقطعا كاملا، استمع له وهو يقول

يا نُسَيِّم نومي قل وزاد عناد * استعد اصبح عليك الاستناد * اجتهد في السرعة زي قدح الزناد * تلقى سياف لحظو صاحي وطرفو ناد * احتفلبو ولفو بى توب الندى

أبو صلاح يخبر النسيم أولا بالحالة التي وصل لها من قلة النوم، ثم يطلب منه الاستعداد لمهمة عاجلة، ثم يوصيه بالاجتهاد في هذا الامر، وبعد ذلك يخبره بالحالة التي سيجد عليها المحبوب وكيفية التعامل معه.

كل هذا الحديث، قبل أن يخبره بالرسالة التي يرغب في إيصالها، فتخيل هذه المهمة التي القيت على عاتق النسيم!

هذا الكلام الجميل صاغه صلاح عبد السيد أبو صلاح، ولحنه عبقري الاغنية السودانية كرومة.

نترك أبو صلاح وكرومة في وجدهما، وننتقل إلى عملاقين آخرين هما الشاعر الكبير محمد علي أبو قطاطي والفنان والموسيقار الكبير محمد وردي، عليهم رحمة الله جميعا.

وإذا كان أبو صلاح ركز في حديثه لمرساله (النسيم) على الاستعداد للرحلة اكثر من محتوى الرسالة نفسها، فإن أبو قطاطي فصَّل رسالته بصورة واضحة، شارحا حاله بكلمات تبعث على الشفقة:

أمش قول ليهو يا المرسال عساهو يراعي ملهوفو
حبيبك بى وراك جارت عليهو وخانتو ظروفو
فقد صبرو، شرد نومو، لهيب الشوق حرق جوفو
شحوب لونو ونحول جسمو، براك احسن تعال شوفو

واذكر أنه في احدى السهرات التلفزيونية، التي جمعت وردي وأبو قطاطي، قرأ شاعرنا الكبير القصيدة كاملة، وعندما فرغ من هذا المقطع تحديدا قوبل بتصفيق حار ومتواصل من الحضور، ولم تخف مقدمة البرنامج، الزميلة العزيزة، نسرين سوركتي دهشتها حينها، ووصفت هذا الحديث بأنه “كلام عجيب”، وهو بالفعل كذلك.

لم يكتف أبو قطاطي بهذا “الكلام العجيب”، بل ذهب إلى ما هو “اعجب”، مبديا شكه في أن يكون مرساله قد أوصل رسائله:

خطاباتي البوديها تقول لا بتمشي لا حاجة
وديت ليهو زول مرسال والمرسال مشى وما جا
بقين أنا والنجوم بليل سوا نساهر ونتناجى
والناس الكانو سبب رموني وصبحو فراجة

ومن هذا “الكلام العجيب” الذي خلده الموسيقار الكبير محمد وردي إلى الأستاذ الكبير أحمد الجابري، الذي كان له موعدان مع الرسائل.

الموعد الأول كان مع الشاعر الكبير سيف الدين الدسوقي، الذي افتقد الرسائل التي كان موعودا بها في غربته:

مافي حتى رسالة واحدة بيها اتصبر شوية
والوعد بيناتنا إنك كل يوم تكتب إليَّ
هل بجوز والغربية حارة بالخطاب تبخل عليَّ
لما آخر مرة شفتك قبل ما اودع واغادر
كنت حاسس إني خايف إني متردد وحاير
داير اتصبر أمامك داير اضحك وماني قادر
بس دموعك لما فاضت ضيعت صبري الشوية
وصحت موعدنا الرسايل، وين رسايلك؟! وين كتاباتك إليَّ؟!

وإذا كان أبو صلاح وأبو قطاطي قد خاطبا المرسال، فقد توجه الدسوقي بحديثه إلى صاحب الرسائل نفسه، مذكرا إياه بالوعد الذي قطعه على نفسه قبل سفره، ثم ختم هذا المقطع بعتاب على شكل سؤال: وين رسايلك؟! وين كتاباتك إليَّ؟!

وإذا كان الشعراء السابقون قد اشتكوا من توقف الرسائل أو ندرتها أو تدلل المحبوب وانقطاع اخباره، فإن هناك من اشتكي من محتوى تلك الرسائل، فربما تكون الخطابات كثيرة ومتتالية، لكنها تحمل رسائل سلبية، وهو ما تغني به الجابري في موعده الثاني مع الرسائل من كلمات الشاعر الكبير الصادق الياس:

من طرف الحبيب جات اغرب رسايل
يحكي عتابو فيها قال ناسينو قايل
ياما قال حكاوي ما خطرت ببالي
قال في كلمة إني جفيت وسالي
لو في كل لحظة لو تعلم بحالي
ما ناسيك والله ذكراك شاغلة بالي
لو انساك انت أكون غدار وخنت
اسال عني غيري واحكم في مصيري
ياما تشوف دلايل.

لم يقف الشاعر مكتوف الأيدي أمام تلك الرسائل الغربية حسب وصفه، بل قدم مرافعة عن صدقه ووفائه، وبعد أن فرغ من مرافعته طلب من هذا الحبيب أن يسأل عنه غيره، حتى يعرف دلائل برائته.

أما الشاعر الكبير عبد الله الإمام فقد خلد اسمه في خارطة الغناء السوداني بقصيدته “اجمل خطاب”، التي غناها الأستاذ كمال ترباس، ويقول في مطلعها:

رسلت ليك اجمل خطاب لى الليلة ردك ما وصل
زعلانة ولا شنو الحصل؟

القصيدة تحدثت بالكامل، من أولها إلى آخرها، عن الخطاب، وسبب تأخر الرد، ولهفة انتظار الخطاب في الغربة، وقد حشد فيها الشاعر الكثير من المعاني البسيطة والرائعة في نفس الوقت، لكن قمة إبداع الشاعر، في اعتقادي، عندما وجه اتهامه لساعي البريد بسرقة الخطاب:

أنا عندي ظن ساعي البريد، شم العبير، عجبو الكلام، نايم عمل
شاف الحروف نديانة ريد خلاني احمل ليك زعل

وارجو أن تتوقف قليلا عزيزي القارىء عند قول الشاعر “نايم عمل”، فقد لخص ما اقدم عليه ساعي البريد، فهو لم يسرق، لكنه “عمل نايم” بالخطاب.

ومن الشاعر عبد الإمام الذي اتهم ساعي البريد بسرقة الخطاب إلى الشاعر الكبير عبد الوهاب هلاوي الذي طالب محبوبه أن يعيد إليه رسائله ويسترد منه خطاباته، في قصيدته الرائعة “قلبي ما بعرف يعادي” التي تغنى بها الفنان الكبير الراحل عبد العظيم حركة:

قلبي ما بعرف يعادي، أصلو ما بعرف يعادي
مهما يبدا القسوة قلبك تلقى بالحنية بادي

وعلى الرغم من هذه البداية المتسامحة، إلا أن الشاعر وصل إلى درجة من اليأس حتى قال:

انت رجع لي رسايلي والرسايل العندي شيلا
والصور لو درت برضو وكل ذكرى ريد جميلة

وعلى كل حال، فقد كان ذكر الخطابات في هذه الاغنية سريعا وعابرا، ولم تكن الرسائل ركنا أصيلا في قصيدة هلاوي، بل مجرد إشارة إلى قطع العلاقة ووصولها إلى نقطة “اللا عودة”، أو ربما مجرد التهديد بذلك.

وكذلك كان الحال في أغنية الفنانة إيمان الشريف المسماة “الكمونة”، حيث جاء ذكر “الجواب” في مطلع الاغنية الذي يتردد بين مقطع وآخر، من دون أن يكون هذا الجواب موضوعا أوحدا أو ركنا أساسيا في الاغنية.

الاغنية التي كتبها الشاعر احمد كوستي نشرت على موقع يوتيوب قبل نحو خمسة اشهر وحصدت اكثر من سبعة ملايين مشاهدة، ويقول مطلعها:

الكمونة خضرة الليمونة، رسل ليَّ، أنا جواب قول ليَّ

ومع “جواب” أيمان الشريف تنتهي هذه الرحلة في دنيا الرسائل والمرسال في الغناء السوداني.

مداميك

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *