أجْراسَ الحُريّة!!!
دُنْيَا دَبَنْقَا
د. نور الدين بريمة
عندما تمّ التوقيع على إتفاقيّة السلام الشامل ، بين الحركة الشعبيّة وحكومة الأمر الواقع ، في العام ٢٠٠٥م ، كان إشتداد الأزمة في غربي السودان قد مرّ عليها عامين ، فظننا أن الإتفاقيّة ستلجم هذه الحرب ، خاصة بعد أن تم سن دستور ، وتوقيع إتفاقيّة مع حركة تحرير السودان جناح مني أركو مناوي ، بعد عام من الأولى إلا أن الإتفاقيّتين لم تعملا على جنبًا أو أرضًا سلاح ، بيْد أن الدستور حمل بين طيّاته كثيرًا من البنود ، المُعززّة للحقوق المدنيّة ، منها إحترام التنوع وحريّة التعبير والنشر ، فكان رعاة الفكر يخططون لإيجاد وسائل تجعل تلك القيم منسابة وسط الجميع ، وبعد ثلاثة أعوام من الإتفاقيّة أي في العام ٢٠٠٨م قرّر أصحاب الدّربة والدّراية، المؤمنين بإحترام حق الإنسان ، ضرورة وأهميّة الإستفادة من تلك الأجواء المُفعمة بروح الإنتماء للوطن.
ولوجوا مُعترك الصحافة بكل ضروبها وأنواعها ، في زمن خرصت فيه ألسن الكثيرين عن قول الحق ، وضعف فيه الواعظ والمتّعظ ، كما كثر زعاع المهرجلين الدائبين على التسلط والتسيّد ، ساقوا الناس (بالخلا) أي أنهم عمدوا على تغييب المعلومات ، تغييرها ، تحويرها أو تبديلها ، لكن الصامدون الصابرون على القيم والمبادئ ، لم يهنوا أو يستكينوا بل تساموا بالقيم ، فكانوا هم الأعلون لمّا غضوا الطرف ، عمّا يمكن أن يواجههم من بلاوي ومصائب ، عندما إعتركوا مجاهيل الصحافة ردًّا للعدوان ، حدًّا للظلم ومُدافعة عن المُهمّشين المحرومين من ضروريات الحياة ، ناهيك عن آمالهم وأحلامهم في بلوغ مرامي الحريّات ، وغيرها من الحقوق الغير مرعيّة أي المُنتهكة بمختلف وسائل الإستبداد ، فسوّر الطغاة وطن المناضل عبدالفضيل الماظ بالأزمات وأشعلوها بالحروب والصراعات الإثنيّة.
لذلك أسْرجت ثلةٌ من المُثقفين وقادة الرأي فضل ظهرها ساحت به ديار التنوع والتباين ، الزاخرة به أرض : أوشيك ، فاطنةو، عبد الكريم والعازّة ، فتبارت تتسابق في ميادينها الفسيحة ، سيّما صاحبة الجلالة ، عبر مختلف الطرق والوسائل المشروعة ، لذلك جاء ميلاد صحيفة (أجراس الحريّة) ، ابنَا شرعيًا للإتفاقيّة ، وذلك بغرض التعبير عن المظلومين ، المُهمشين ، ومنظمات المجتمع المدني ، لتكون نبراسًا ونورًا ساطعًا يضيئ ليل الحالكين ، وحديقة تمثل أنسًا يجول في أزهارها وورودها الناظرون يمتّعون بها أعينهم ، مثلما يستظل في أشجارها الهاربون من رمضاء القهر والتسلّط ، فكان لي قصب السبق ، أن أقطف ثمار الحريّة ، مراسلاً لها من مدينة نيالا البحير غرب الجبيل حاضرة ولاية جنوب دارفور.
ناقلاً ثمّ ناشرًا نبض المكلومين ، المكتويين بفتائل الأزمات والمُشكلات غير أنه قد نالني ما نالني من سهام الإعتقال ، القمع والتنكيل ، لكنها بالطبع تضحيات ، جعلتني أكثر قوّة ومنعة أو تماسكًا وتمسّكًا بالمبادئ ، لأن المُتحكّمين على مصائر الناس ، لا سيما على المُشتغلين في حقل الصحافة والإعلام حينها ظلّوا يتعاملون معهم ، بإعتبارهم أحد أدوات الفجور والسفور ، فينعتونهم من غير تابعيهم ببغاث الطير ، تارة ثم بشذاذ الآفاق والطابور الخامس ، ويتهمونهم كذلك بتعاونهم مع سماسرة البغي والكفر ، لتقويض النظام (الدستوري) زعمٌ ليس له سند ، لإجهاض دولتهم الإسلاميّة المُبرأة من كل عيب أي إنها دولة مُدّعاة ، أشاعوها في خيالهم إفكًا وبهتانًا ، بأنها دولة وارفة الأمن والسلام ، يحنّون إليها ما فتئوا يصمّون آذاننا بالعويل والصراخ ، عبر بوق الخداع والنفاق والتلفيق.
فبغاث الطير عندهم ، ناقلين للكفر ونافخين لكيره ، بل يعدّونهم هادين للناس كذلك بحسب ظنّهم إلى طريق الإلحاد والتفسّق وإفشاء الرذائل ، هكذا كانت تتعاطى أجهزتهم سيما القمعيّة مع صحيفة أجراس الحريّة وغيرها من الصحف التي صدحت ضد ديماجوجيّتهم ، لدرجة أن أفراد وضباط جهاز أمنهم (الوطني والشعبي) ، باتوا ينوبون عن رئاسات تحرير الصحف تركيزًا على أجراس الحريّة عندما يزورونها مساءًا كالمُومسات ، للإشراف والرقابة القبليّة والبعديّة ، يفصّلون لها جلباب التحرير والتنفيذ ، فيسمحون لها ما يودّون نشره ، ويمنعون منها ما لا يرغبون إندياحه بين القراء ، وإن فاض بهم الغضب ، يحرمونها من الإعلانات وموارد الإنتاج ، بل يوقفونها ويغلقونها تمامًا ، ويحررون لها شهادة وفاة ، بدواعي عدم قدرتها في سداد إلتزاماتها المالية.
هذا هو دأبهم في التلفيق والتزوير ، لأنهم : يقتلون ، يسرقون ، ينتهكون ، يوقفون ويغلقون ، دون أي مصوغ منطقي أو قانوني ، حيث لم تسلم من رقابتهم حتى إذاعاتهم وتلفزيوناتهم المؤدلجة ، الموبوءة بالعُنصريّة والجهويّة ، يتموضعون في لباس الأوليجاركيّة ، رغمًا عن ذلك فإن زبانية المؤتمر الوطني ، ظلوا يقرعون الأجراس سرًا ، حتى أن مقرّبين من قصرهم العنكبوتي ، ذكروا أن كبيرهم كان يداوم على تلاوتها آناء الليل ، وبعضًا من أطراف الصباح ، بينما يمنعون حيرانهم ومنسوبيهم التبّع من ملامستها والتقرّب إليها ، ناهيك عن خطب ودّها ومعانقتها لأنها بحسب ظنّهم العابط رجس من عمل الشيطان لا ينبغي التقرب إليه ، بل لا بد من إجتنابه والإبتعاد عنه ، هكذا كانوا يكيدون كيدهم لكنوز الإستنارة ، الثقافة ، الفكر والوعي ، غير أن كيد الله عظيمًا.
عمومًا عملت مراسلاً لأجراس الحريّة لتغطية معظم أجزاء دارفور ، والحرب وقتها في أوجها مشتدة في مختلف مناطقها ، وهنا تدركون تداعياتها على مجريات الصحافة ، في بلد أقل ما يوصف فيه الإنسان بالطابور الخامس ، بعد التصنيف القبلي والسياسي ويا ويلك إن لم تكن منتميًا لمجموعاتهم الداعمة لنظامهم!!! إنتقلت بعدها محررًا في قسم أجراس الهامش الذي يهتم بشؤون الولايات كان يتولى إدارته أخي العزيز قمر دلمان ، بعدها إنتقلت إلى أجراس السياسة ، تحت إدارة الأستاذة القديرة رشا عوض ، وبمعيتها ثلة من المحرّرين والمصوّرين ، الذين يغطون : الأخبار ، التحقيقات ، الثقافة والفنون ، الرياضة ، الطلاب والشباب ، وأجراس الكنائس ، وبعض الملفات الأخرى ، معهم كوكبة من كتاب الفكر والرأي ، يشاطرهم الفنّيون والإداريّون.
إنهم ظلوا يعملون بصدق وفي تمام التناغم والإنسجام ، بهدف إسعاد الرأي العام ، وتعريفه بالتنوع والتباين الذي يمتاز به المجتمع السوداني وتوعيته بها ، وبمآلات تعبّد القائمين على الأمر للسلطة، فضلاً عن تعرية ممارساتها، وإستهوائهم للظلم والفساد كان يقود سفينة التحرير ، رئيس هيئة التحرير ، صاحب الفكر الثاقب الحاج ورّاق ، أما رئيس التحرير العلامة د. مرتضى الغالي ، ونائبه أستاذنا القامة فايز الشيخ السليك، وغيرهم من رهبان الكلم الطيب ، يساعدهم رئيس مجلس الإدارة ، صلاح أحمد (الكجم) ونائبه دينق قوج أويل ، وآخرين قائمتهم طويلة بقدر هاماتهم ، جميعهم آمنوا برب المبادئ ، وازدادوه ديمقراطيّة وحريّة قطعوا من أجلها أزمانهم ، وساموا أرواحهم ، وفقدوا ما مفقودا!!! إلى أن جاء العام ٢٠١١م ، أي ميلاد إستقلال جنوب السودان الحبيب.
الذي إنفصل عن السودان، بإستفتاء فاقت نسبته (٩٠%) ، ممّا يؤكد رغبتهم في الإستقلاليّة بعد أن ظلّوا مُستعبدين سنين عددًا ، فتنفّست السلطة الدكتاتوريّة الصعداء ، كأنها أنزلت حملاً ثقيلاً من أكتافها ، فأقفلت نفّاج الحريّة ، لكي تستريح من صحيفة الأجراس وصُويحباتها الإنجليزيّة ، لمّا قرّروا إغلاقها نهائيًا ، بدواعي أن من قاموا بإنشائها قد صاروا أجانب ، وهي كلمة حق أرادوا بها باطلاً ، لأن غالبيّة من ساهموا في تأسيسها بجانب شركاتها، سودانيون وقليل منهم جنوبيّون ، أسقطوا عنهم جنسياتهم ، بيْد أنهم وطنيون غيّورون على سودانيتهم ، لكنّها حجج هرأ بها المستبدّون ، المُستبطنون لمنطق القوة .. لا قوة المنطق ، أطفؤوا بها شمعات النور ، التي ظلت تضيئ وتنير للناس الطريق ، تعزّز لهم الحق والعدل.
دكّت به حصون الإستبداد والفساد ، وبنتْ مزيدًا من جسور الوصل الديمقراطيّ والمدنيّ ، فكاد الوطن أن يعبر إلى آفاق الحريّة والسلام والعدالة ، إيمانًا منها بحق مَن هم في حضنها إلا أن الفئة الباغية صبأت عن نعمة الحق والقسطاس المستقيم ، فعملت على تمييز من سيطرت عليهم على أساس: الدّين ، اللون ، العرق والجهة، فقدت البلاد على إثرها تلك الصحف ، وبذلك فإنها فقدت قيمًا ، سماحة في الخلق ، وطيبًا في المعشر ، من قوم سمر الوجوه ضاحكين مستبشرين ، ما زال فضلهم متدفقًا منسابًا إلينا وطيبهم يزكّي أنوفنا بالروائح ، فخرًا بوطنهم الأم ، رحم الله منهم من رحل ، ومدّ الله آجال مَن بقي منهم على قيد الحياة، نسأله تعالى أن يمنّهم بفضله ، ويثبّتهم على القيم والمبادئ ، ويمتّعهم بالصحة والعافية ، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة