الزحف الثقافي للهامش على المركز
على خلاف المواضيع المقتولة بحثا، ينبعث موضوع المركز والهامش دوما، ويتجدد بتجدد السؤال والسياق، سياق حضاري مغبون بتاريخ استعماري أعمى و سياق وطني مغبون بمكر الجغرافيا. إضافة إلى مسافة التباعد والتقارب بين الأنا والآخر، مسافة قد تتسع إلى حد الهوة في بعض سرديات المثاقفة، أو تضيق حد التفاوض على مساحة بينية أو ما يسمى بالتناسج، ثم تغير مواقع التمركز أفقيا، نفكر هنا في ما شكله المشرق كمركز ثقافي بالنسبة للمغرب، بالنظر إلى جذور عقدة التفوق التي تعود إلى العصر الأندلسي حين تلقى المشارقة كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأندلسي سنة( 860، 940 م) ،وهو الكتاب الذي بخسه الصاحب ابن عباد الوزير والأديب، قائلا قولته الشهيرة ” بضاعتنا ردت إلينا”، في إشارة إلى إهمال مؤلف “العقد الفريد” تاريخ المغرب وإطنابه في الحديث عن أدب المشرق.
ويعتبر كتاب “النبوغ المغربي” أول كتاب منصف للأدب المغربي، على الرغم مما مهد إليه عبد الله كنون من إشارات في مقدمة الكتاب دالة على انه لا يرمي من خلاله إلى التفاضل، في إطار الرد على التقصير المشرقي في حق المغرب العربي، كما نشير في هذا الصدد إلى رد الكاتب الجزائري عبد المالك مرتاض في كتابه “الجدل بين المغرب والمشرق” على تقصير المشارقة في حق الثقافة المغربية. انظر( الجدل الثقافي بين المشرق والمغرب إبراهيم مشارة ، مجلة الكلمة العدد )182.
وقد استمر هذا التمركز إلى حدود السبعينيات من القرن الماضي، حيث كانت بيروت والقاهرة عاصمتي النشر بامتياز، حتى قيل حينها بأن بيروت تكتب والقاهرة تنشر والعراق يقرأ، في إلغاء تام للمغرب العربي، ويسري هذا على المسرح الذي جاءنا من البوابة الشرقية، ممارسا أبيسيته وسلطته البلاغية على المسرح المغربي، قبل أن يباشر هذا الاخير احتكاكه بالمسرح في معينه الغربي مع الطيب الصديقي ومن تلاه من مسرحيين.
مع حلول عقد الثمانينيات تبين أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر، بعد أن غير النبوغ المغربي في ظرف وجيز من هذه التراتبية فكرا وإبداعا، وهو ما أشار إليه الكاتب والمفكر اللبناني بول شاوول في كتابه الصادر 1979 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والمعنون ب”علامات من الثقافة المغربية”، مسلطا الضوء فيه على تحول بارز في هذه الثقافة بجميع روافدها الفكرية والتخييلية. في هذا الصدد لا يمكننا حصر الإصدارات الرصينة في حقول الفكر الفلسفي والسوسيولوجي والترجمة والنقد، وحجم التلقي والتنويه بهذه الإصدارات في المشرق، وكم العروض المسرحية الاحتفالية التي وافقت هوى المشارقة لغة وتأصيلا للتراث، حيث لم يقف هذا الهوى عند حدود التلقي، بل جاوز ذلك إلى تبني التجربة الاحتفالية من طرف مسرحيين كبار بالمشرق ، إضافة إلى عروض الطيب الصديقي و عروض”مسرح اليوم.”..
وفي السنوات الأخيرة نالت الفرق المسرحية المغربية عن جدارة جوائز الهيئة العربية للمسرح، نذكر منها تتويج عرض “خريف” لفرقة أنفاس بالجائزة الكبرى بالجزائر سنة 2017. وتتويج مسرحية “شاطارا” لفرقة تفسوين بالدورة التاسعة والعشرين لمهرجان القاهرة الدولي، وتنافس عرض “شابكة” لفرقة الأوركيد من بني ملال على خشبة المسرح القومي بالقاهرة ضمن ثمانية عروض على جائزة الشيخ سلطان القاسمي في الدورة الحادية عشرة لمهرجان المسرح العربي. وفوز مسرحية “تكنزة قصة تودة”لفرقة فوانيس من ورززات بجائزة الكبرى للشيخ سلطان بن محمد القاسمي في الدورة .14
ويقودنا هذا إلى توهج ملحوظ ـ على الصعيد الوطني ـ للهامش، نظرا لانتساب اغلب هذه الفرق المتوجة إلى ما يحسب على المغرب غير النافع الذي كرسه المستعمر، كما لا ننسى العمل المسرحي للفرقة المضيفة ( بضم الميم وتشديد الياء المكسورة)نون للمسرح والفنون، الفائزة مؤخرا بمسرحيتها“الزنقة 13”، ممثلة جهة بني ملال خنيفرة بالمهرجان الوطني لمسرح الشباب الذي احتضنته مدينة أكادير مؤخرا ما بين 6 إلى 10 نونبر الجاري 2024، ويسري هذا على جنس آخر متاخم للمسرح وهو الرواية، التي عرفت مؤخرا توهجا جليا للهامش ، ونعني بذلك فوز رواية “الفسيفسائي” للروائي الناصري من مريرت بأغلى جائزة عالمية “البوكر”. غير أن أكبر مقياس لهذه الدينامية، ليس هو التتويج بل التلقي، حيث يحاط المنتوج المسرحي والثقافي عامة في هذه الهوامش بحشد عريض متعطش ومواكب، على الرغم مما يحظى به ما يروج في الرباط والمدن المتاخمة من تبئير إعلامي وذيوع.
إذا كان ما ذكرنا يتعلق بدينامية ثقافية غيرت أفقيا من تبادل للأدوار، بين المشرق والمغرب( وهو تبادل متحرك، مرهون بدينامية الإنتاج وبكمه )، فإن العلاقة العمودية بين الشمال والجنوب لم تصل بعد إلى هذا التحول، أي تحول في المواقع، لاعتبارات متصلة بنفوذ الغرب المعرفي والتقني، والمسافة الضوئية التي تفصلنا عنه، وصعوبة ردم الهوة في الوقت الراهن بيننا وبينه، في المقابل يمكن الرهان على ما نراه من تغيير في نظرة التابع لذاته وللآخر، وتغيير نظرة الآخر لذاته وللتابع أيضا، ثم ما أفضى إليه ذلك من تواطؤ فكري بين نخب الشمال والجنوب على تقويض التمركز والتمركز المضاد.
نكاية في غبن طال أمده شكلت مرحلة ما بعد الكولونيالية انتعاش كتابات مضادة، أو ما سمي بالرد بالكتابة إبداعا وتنظيرا، ابتداء من متخيل روائي صاعد من مستعمرات أمريكا اللاتينية، حال رواية “مائة سنة من العزلة” لجارسيا ماركيز التي جعلت من قرية “ماكندو” الهامشية تتربع على منصة الادب العالمي، ثم رواية “الخميائي” لباولو كويلو ، للإشارة لم ينتبه النقد إلى هذا التصادي السحري والأسطوري بين هذا التخييل الروائي الصاعد من هذه المستعمرات و المسرح الإفريقي والآسيوي والجنوب أمريكي الذي فتن المسرحيين الأوربيين ، نذكر هنا متح هذا المسرح من أشكال فرجوية آسيوية لبناء تجارب إبداعية مغايرة للمسرح الأرسطي، وهو ما جعل المخرج داخل هذا النوع من المسرح يرتقي في نظر دوفينيو إلى درجة ساحرن (للإشارة يشكل هذا التصادي السحري بين المسرح والرواية جزءا من مشروعنا البحثي القادم).
على خلاف حضور هذه الهوامش في بناء التجارب المسرحية الغربية، عرف البحث والنقد المسرحيان تنظيرات عابرة نحو هذه الهوامش المحايثة. وهي بالمناسبة تنظيرات لم تصغ من فراغ أو هزتها الحمية والغيرة على مسرح الجنوب ،بقدر ما هي امتداد واع لمشروع فكري تبلور خارج المسرح، داخل حقل الأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا، مشروع مشترك بانتماء مغاير، يفرق أقطابه الانتساب لجغرافيتين مختلفتين ويوحدهم الانخراط في تقويض بؤر التمركز شمالا والتمركز المضاد جنوبا، حيث ابتدأت إرهاصات هذا المشروع منذ مرحلة الاستعمار التي عرفت البدايات الأولى القوية لصوت الهامش الرافض بقوة لأطروحة الآخر، مع فرانز فانون وادوارد سعيد، وعملهما على تغيير النظرة للذات وحمل الآخر على تغيير نظرته لأناه، حيث لا يكفي في نظر فرانز فانون تحرير الأرض من الاستعمار بل تحرير العقول، في افق تفكيك منظومة الاستعمار من خلال كتاب “معذبو الأرض”، أو ما تعرض له المستعمر من اغتراب مضاعف عند تبنيه قيم المستعمر، فالاغتراب في نظر فانون هو نتيجة لوجود شرط خارجي ينتقل فيه من سيد نفسه إلى لعبة طيعة في يد الآخر وشحنه بعلو الثقافة الغربية (ص 119 خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد الادبي أنور المرتجي).
لقد مهدت نقود فرانز فانون وادوارد سعيد وهومي بابا وغاياتري سبيفاك وغيرهم لظهور مقاربات موسعة لهذا الطرح الفكري في حقل المسرح، وهذا ما أثبته خالد امين في كتابه “المسرح والهويات الهاربة، رقص على حد السيف” بكون مشروعه هو محصلة تبادل مثمر بين الدراسات المسرحية وتخصصات أخرى مجاورة (ص 31)، بل ذهب إلى كون دراسة الفرجة هي الغاء الحدود بين التخصصات، إضافة إلى ما يكتشفه القارئ الناظر في مشروع خالد أمين من إلغاء للحدود البحثية بين الجغرافيات، في إشارة إلى استئناف خالد أمين وايركا فيشر ليشته تقويض امتدادات الفكر الكولونيالي مسرحيا، ثم تجاوز مربع التقويض والتفاوض على الما بين، إلى التناسج.
(مداخلة للدكتور محمد أبو العلا بالمركب الثقافي بالفقيه بن صالح ، بمناسبة المهرجان الدولي لفرقة نون والفنون معنونة ب: “الهامش والمركز من تغيير المواقع إلى تغيير الواقع” )
المصدر: العمق المغربي