هيئة الإنصاف والمصالحة تجربة رائدة في مجال العدالة الانتقالية
خلد البرلمان المغربي يومي 6و7 دجنبر 2024، الذكرى 20 لتنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة، كمحطة تاريخية متميزة في العهد الجديد، تتعلق بمجال العدالة الانتقالية، أرست مصالحة وطنية مؤسساتية شاملة مكنت بلادنا من قراءة ذكية لصفحة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان للفترة الممتد من سنة 1956 إلى 1999، والتصالح معه، والعمل على طيه بشكل نهائي في إطار التوجه نحو مستقبل قائم على السلام والعدالة.
وقد ساهمت هذه التجربة من بناء نموذج مغربي في مجال العدالة الانتقالية أصبح يدرس، اليوم، في كبريات الجامعات ويعد مرجعا في المنتديات الحقوقية الدولية في موضوع العدالة الانتقالية، إذ أصبحت التجربة المغربية بخصوصيتها، حاضرة بدورها إلى جانب تجارب دولية مماثلة في هذا الشأن كجنوب إفريقيا والشيلي…
كان الدخول في تجربة المصالحة الشاملة من خلال إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة يظهر في البداية كنوع من المغامرة السياسية غير محسوبة العواقب.
لكن الإرادة السياسية القوية والشجاعة لجلالة الملك محمد السادس في توافق مع الطبقة السياسية والفاعلين الحقوقيين، ساهمت في تبديد كل المخاوف وبعث شعور بانجاز هذه المهمة التاريخية الكبيرة. وهو ما سيبرز بكل تأكيد في خطاب جلالته بمناسبة تتصيب هيئة الانصاف والمصالحة التي تم إطلاق ما تبقى من المعتقلين السياسيين، وفي طبيعة الوجوه الحقوقية التي عهد إليها الاشراف على هذه المبادرة، وكذلك في المقاربة المختارة لهذه التجربة، وكذا المنهجية المعتمدة في هذا الشأن.
قدم الخطاب الملكي فلسفة إشتغال هيئة الإنصاف والمصالحة بقيادة الحقوقي إدريس بنزكري بحثا عن الحقيقة الكاملة التي تبقى على العموم نسبية، لأن الحقيقة المطلقة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، كما أن هذه المهمة تعود إلى المؤرخ النزيه كما قال جلالته:
“وإذ نستحضر الخمسينية المنصرمة، فإننا لا نريد أن نجعل من أنفسنا حكماً على التاريخ. الذي هو مزيج من الإيجابيات والسلبيات. فالمؤرخون هم وحدهم المؤهلون، لتقييم مساره، بكل تجرد وموضوعية، بعيدا عن الاعتبارات السياسية الظرفية”.( انتهى كلام جلالته)
انطلقت هذه الهيئة من ما راكمته الهيئة المستقلة للتحكيم في سنوات التسعينات من القرن الماضي، من أعمال في موضوع التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بعد قرار العفو الشامل على كافة المعتقلين السياسيين سنة 1994.
لقد اعتمد مهندسو هذه التجربة التاريخية شعار التغيير في إطار الاستمرارية، والكشف عن الحقيقة، والوقوف عند مسؤوليات أجهزة الدولة أو غيرها في الانتهاكات والوقائع موضوع التحريات، وجمع الشهادات والإطلاع على الارشيف الرسمي، وتنظيم جلسات استماع علنية مع الضحايا… بمعنى الكشف عن الحقيقة بكل موضوعية والمساءلة المسؤولة والمحاسبة الرمزية وحفظ الذاكرة الجماعية وجبر الضرر وعدم تكرار الانتهاكات.
وفعلا، لقد عاش المغرب لحظة تاريخية إستثنائية في مسار طي صفحة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ونتذكر جيدا الشهادة المؤثرة للحقوقي أحمد حرزني التي نقلت على المباشر في الإعلام العمومي، وشكلت حينها حدثا لاعتبارات تتعلق بطبيعة هذه الشخصية الحقوقية واليسارية التي كانت خبرت سجون البلاد.
وسيتوج هذا المسار الحقوقي بامتياز، بخطاب تاريخي لجلالة الملك محمد السادس انطلق من
الماضي نحو الحاضر والمستقبل، إذ قال جلالته:
“وإني لواثق أن هذه المصالحة الصادقة التي أنجزناها، لا تعني نسيان الماضي، فالتاريخ لا ينسى. وإنما تعتبر بمثابة استجابة لقوله تعالى: “فاصفح الصفح الجميل”. وإنه لصفح جماعي، من شأنه أن يشكل دعامة للإصلاح المؤسسي. إصلاح عميق يجعل بلادنا تتحرر من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية. وبذلكم نعبد الطريق المستقبلي أمام الخمسينية الثانية للاستقلال، لتركيز الجهود على الورش الشاق والحاسم، للنهوض بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكافة مواطنينا، ولاسيما منهم الذين يعانون معضلات الفقر والأمية والبطالة والتهميش”(انتهى كلام جلالته).
هذا الخطاب بمضامينه العميقة ودلالاته الرمزية القوية، سيغلق مرحلة من تاريخ المغرب بسلبياتها وإبجابياتها، وسيدشن مرحلة جديد، عنوانها المصالحة والحقيقة والانصاف، مكنت البلاد من التخلص من ثقل سياسي كان يشوش على كل الخطوات الرامية إلى تحقيق مقومات وأسس دولة الحق والقانون والمؤسسات.
وجدت التوصيات الصادرة عن هيئة الانصاف والمصالحة طريقها نحو دستور فاتح يوليوز 2011، كدستور للحقوق والحريات والحكامة الجيدة، إذ تمت دسترة مقتضياتها لتعزيز وترسيخ الحقوق الأساسية، وتوطيد ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتوطيد دعائم مسلسل الإصلاحات المؤسساتية، في تناغم مع القانون الدولي الإنساني.
كما عهد للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، كمؤسسة وطنية مستقلة تشتغل طبقا لمبادئ باريس، بمتابعة تنفيذ توصيات هيئة الانصاف والمصالحة كخطوة هامة على درب تعزيز المكتسبات الحقوقية وضمان إستدامتها.
من المؤكد أن المغرب ربح رهان المصالحة المؤسساتية الشاملة في أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والمجالية رغم ما عرفته من صعوبات في حالات ظلت عالقة كقضية المهدي بن بركة وغيرها، وذلك من خلال ربطها بالتوجه نحو المستقبل ووضع أسس متينة تشكل جوهر كل تحول ديمقراطي.
المصدر: العمق المغربي