دَعْ الخلق للخالق واشْتغِل بعيوب نفسِك!
يقول الحق سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، أي: قد فاز من طهّر نفسه من الرذيلة، واتبع ما أنزل الله على رسوله، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان ربه، وطاعة لأمره وامتثالا لشرعه.
محاسبة النفس طريق الصلاح، والاشتغال بتقويمها سبيل الفلاح، خاصة ونحن في زمن تكاثرت فيه المشكلات، وتكالبت المغريات والملهيات، والمحاسبة تتطلب عزيمة ومثابرة واجتهادا؛ لأنه من الغريب في طبائع النفوس أنها تتلذذ وتسترسل في الخوض فيما لا يفيد، وتقطيع الوقت فيما لا ينفع، بل ما أسرعها في تتبع العورات، والاشتغال بالعثرات، فمن اشتغل بما لا يفيد انصرف عما يفيد، ولو تأملنا لأدركنا أنه لا يهتم بالصغائر إلا الصغار، ولا يفتش عن المساوئ إلا البطالون.
ورد في السنة حديث عظيم مشهور يقول فيه عليه الصلاة والسلام: “من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يُعنيه”، فهذا الحديث أصل عظيم من أصول تهذيب النفس وتزكيتها، وقد عدّه بعض أهل العلم ثُلُث الإسلام، وقالوا: اجتمع فيه الورع كله، لأن من امتثله فهو من أهل القلوب السليمة والنفوس الزكية، نفوس تنطوي سرائرها على الصفاء، فأصحابها في راحة، والناس منهم في سلامة.
إن الرجل إذا حَسُن إسلامه تجلى ذلك في ابتعاده عما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، فضلا عما لا يعنيه من المحرَّمات والمشتبهات وفضول المباحات مما لا تتعلق به حاجاته، ومن أولى ما تجب ملاحظته ومراعاته في إدراك ما لا يعنيه شهوة الكلام، وفضول التصنت والاستماع، فكم من مجالسَ عُقدت، يخوض فيها أصحابها فيما لا يعنيهم، ويتكلمون فيما لا ينفعهم، ويستمعون إلى أمور طهر الله منها أيديهم وأرجلَهم، فأبوا إلا أن يلوكوها بألسنتهم، ويفتحوا لها آذانهم، وقد تكون موبقات الأسماع والألسن أعظم من موبقات الأيدي والأرجل، فممّا أوصى به صلّى الله عليه وسلّم مُعَاذًا رضي الله عنه: “وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم إلّا حصائد ألسنتهم”.
فمن الاشتغال بما لا يعني التوسع في السؤال عن أحوال الناس وأخبارهم، ودواخل أمورهم، والخاص بشؤونهم، من غير داع ولا حاجة، ويزداد الأمر سوءا حين يخوض الخائض في أعراض أهل الخير والصلاح، والكفاف والعفاف، ناهيك إذا كان من مقاصده التحريش الخفي، والغمز والهمز واللمز، واتهام النيات.
ومن الاشتغال بما لا يعني أيضا خوض المرء فيما لا يحسنه ولا يتقنه، مما ليس داخلا في تخصصه ولا هو من مطلوباته وشؤونه، فهذا المبتلى ما صرفه لذلك إلا نوازع الطيش، والرغبة في التعالي وانتقاص الآخرين والحط من قدرهم، ويزداد الأمر خطرا إذا قاد ذلك إلى الملاسنات، وبث الشائعات والأكاذيب المفتريات، والظنون والتكهنات: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ}، فلو سكت من لا يعرف لقَلّ الخلاف، والسكوت في موضعه سمة الرجال، ومن أشرف الخصال.
واعلم رعاك الله أن الاشتغال بما لا يعني يورث قلة التوفيق، وفساد الرأي، وقسوة القلب، ومحق البركة، وحرمان العلم، وقلة الورع، يقول سهل التستري رحمه الله: من تكلم فيما لا يعنيه حُرم الصدق، ويقول معروف الكرخي رحمه الله: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله تعالى. ورد في بعض الآثار أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم توفي، فقال آخر: أبشر بالجنة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: “أَوَلا تدري، فلعله تكلم بما لا يُعنيه، أو بخلّ بما لا يغنيه”.
واعلم أيها الفاضل أن المسؤوليات أكثر من أن يتسع لها عمرك القصير، فاترك ما لا يعنيك فذاك حفظ لدينك، وزكاء لنفسك، وسلامة لصدرك، فلا تضيع أنفاسك فيما لا يعنيك: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، اشتغل بعيوب نفسك، وابْك على خطيئتك، فإن الاشتغال بعيوب النفس وتجنب عيوب الناس يورث نورا في القلب، وراحة في البال، وصفاء في الضمير، يقول محمد بن كعب القُرَظي رحمه الله: إذا أراد الله بعبده خيرا جعل فيه ثلاث خصال: فقهًا في الدّين، وزُهدًا في الدّنيا، وبصرًا بعيوب نفسه.
إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي براقي