اخبار

الفلسطينيون والثورة السورية (2 من 4)..

امتدت الانتفاضات التي بدأت في تونس وانتقلت بعدها إلى مصر ثم ليبيا إلى سورية في آذار 2011.

وقد بدأت باحتجاجات سلمية قام بها أطفال في مدينة درعا السورية على حدود الأردن، في محاولة منهم لمحاكاة ما يشاهدونه على شاشات التلفزيون.
وقام نظام الأسد باعتقال الأطفال وتعذيبهم وقتل أحدهم (حمزة الخطيب). وعندما طالب أهاليهم بالإفراج عنهم، رفض المسؤولون في درعا إطلاق سراحهم، ولهذا السبب استمرت الاحتجاجات وامتدت إلى مدن أخرى بما فيها مدينتا حماة وحمص.
وفي غضون ثلاثة أشهر، تحولت الاحتجاجات السلمية إلى احتجاجات مسلحة بفضل معاملة النظام الوحشية للمتظاهرين والتدخل الخارجي من دول كان لها مصلحة بإسقاط نظام الأسد، ليس بسبب فساده واستبداده، وإنما لتحالفه مع إيران، وتُوِجَ هذا التحول بعملية عسكرية للمعارضة السورية في جسر الشغور في محافظة إدلب في حزيران 2011، أدت لمقتل 120 جندياً سورياً.
يجادل البعض بأن وحشية النظام وحدها كانت السبب في حمل السوريين للسلاح ضد نظام الأسد، ونحن نقول إن هذا صحيح، لكن التدخل الخارجي كان أيضاً عاملاً مهماً.
السوريون لديهم سوابق في المواجهات المسلحة مع نظام الأسد مثلما حدث في مطلع ثمانينيات القرن الماضي في محافظة حماة، لكن حتى وقتها لم تكن هذه المواجهات معزولة عن التدخل الخارجي.
يحق للباحثين التساؤل عن السبب في تحول الاحتجاجات السلمية إلى مسلحة في سورية في الوقت الذي لم تتحول فيه احتجاجات سلمية في بلد عربي آخر قام بقتل المئات وربما الآلاف من المحتجين في بضع ساعات.
إن المقارنة تؤدي إلى الدفع بدور العامل الخارجي في تحويل احتجاجات سلمية إلى عمل عسكري منظم، لكن هذا بالطبع لا يبرئ نظام الأسد، فلقد كان النظام دموياً في تعامله مع المحتجين.
ومع التدخل الخارجي، سارعت إيران وحزب الله إلى دعم نظام الأسد. فقد خشيت من أن تغير النظام سيؤدي إلى وجود نظام آخر لا يخدم مصالحها الإقليمية، بينما خشي حزب الله من أن يَقطع أي نظام جديد خطوط إمداده العسكري من إيران، ولقد برروا ذلك بضرورة حماية العتبات المُقدسة لمقام السيدة زينب، في وقت كانت فيه أيضاً المعارضة تستخدم لغة طائفية مقيته.
مثل محاربة «الروافض» و»النواصب» والنظام «النصيري». وعلى عكس ما يقال إن حزب الله تدخل في سورية قبل بداية تلقي المعارضة المسلحة المساعدات العسكرية من الخارج، فإن بداية تدخله كانت في العام 2012 وهو نفس الوقت الذي بدأت فيه المعارضة المسلحة بتلقي الدعم الخارجي بشكل واضح من تركيا وغيرها.
وعندما وسع حزب الله من تدخله في سورية العام 2013 كان ذلك متزامناً مع إنشاء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لمركز العمليات العسكرية في الأردن والمعروفة باسم (موك)، ومع إنشاء غرفة أخرى مماثلة في تركيا تُعرف باسم (موم) اختصارا لـ «Military Operation Mechanism».
ولقد قدمت الغرفتان الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية والتدريب للمعارضة السورية وأنشأتا ودعمتا «الجيش السوري الحر»، الذي تشكل بداية من الجنود السوريين المنشقين عن النظام.
وكأن هذا لم يكن كافياً للشعب السوري، فقد أرسل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الذي تأسس العام 2006، أبو محمد الجولاني (زعيم المعارضة الذي دخلت قواته دمشق يوم 8 كانون الأول وأصبح يُعرف بعدها باسمه الحقيقي أحمد الشرع) إلى سورية في آب 2011 بهدف إيجاد موطئ قدم للتنظيم والمساعدة في إسقاط نظام الأسد.
وقد أسس الجولاني «جبهة النصرة» في أواخر العام 2011 والتي سرعان ما اكتسبت شهرة بسبب نجاحاتها العسكرية وتكتيكاتها الوحشية (مثل استخدام التفجيرات الانتحارية).
وعندما أعلن «البغدادي» قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في حزيران 2014، رفض الجولاني دمج «جبهة النصرة» في «داعش» معلناً ولاءه للقاعدة وزعيمها في حينه أيمن الظواهري الذي طلب من «البغدادي» التراجع باتجاه العراق وترك سورية للجولاني وهو ما أكسب الأخير تأييد الجماعات الجهادية في سورية التي تحمل فكر القاعدة.
وبظهور «داعش» و»النصرة» واكتسابهما زخماً كبيراً في سورية، تراجع صوت المعارضة «المُعتدلة» وخف حضورها وتأثيرها في المشهد السوري، ولم يُبقها على قيد الحياة إلا الجهات الخارجية الداعمة لها مثل تركيا والولايات المتحدة وبعض الدول العربية.
خلال ذلك كله لم يكن للفلسطينيين دور في المشهد السوري باستثناء خروج قيادة حركة «حماس» منها إلى قطر العام 2012. كان الصراع حينها في سورية قد تمت صياغته بلغة طائفية: صراع مع «الرافضة» و»النظام النصيري» بلغة المعارضة السورية، ومع «التكفيريين» بلغة النظام.
وجدت حركة «حماس» نفسها في سورية بين المطرقة والسندان: النظام الذي يريدها أن تُعلن موقفاً مؤيداً له للدفع بتهمة الطائفية بعيداً عنه، والمعارضة وحلفائها في الإقليم الذين يريدون منها مغادرة سورية وإعلان تأييديها لهم لتكريس وتثبيت تأطيرهم للصراع باللغة الطائفية.
كان من الصعب عليهم القيام بذلك عندما تكون جماعة سنية مثل «حماس» التي تركز على محاربة إسرائيل متحالفة مع النظام «العلوي».
قرأت «حماس» التغيرات التي كانت تحدث في الإقليم في ذلك الوقت، ورأت بأن نجاح الإخوان المسلمين في مصر، وتونس، وسقوط ليبيا في أيدي الإسلاميين هو مؤشر على قرب سقوط نظام الأسد إن لم يَكن بأيدي أبناء شعبه فبأيدٍ خارجية كما حدث في ليبيا، واستنتجت أن العالم العربي يعيش لحظة «إخوانية» ستمتد أيضاً للأردن بعد سورية.
وبناء على ذلك قررت «حماس» أن تغادر سورية وأن تنحاز إلى معارضي نظام الأسد.
غادرت «حماس» إلى دولة قطر في العام 2012 بعد تنسيق الأخيرة الكامل مع الولايات المتحدة والحصول على موافقتها، وهو ما كشف عنه المتحدث باسم الخارجية القطرية قبل أسابيع عندما تعرضت دولة قطر نفسها لضغوط أميركية لإخراج قادة «حماس» منها بهدف إجبارهم على توقيع اتفاق وقف إطلاق نار لا يلبي مصالح الشعب الفلسطيني.
شاركت «حماس» بعد خروجها من سورية في مهرجان التأييد للمعارضة السورية في القاهرة العام 2012، ورفع رئيس مكتبها السياسي آنذاك خالد مشعل علم المعارضة السورية معلناً بذلك انحياز «حماس» لها وقطيعته مع نظام الأسد، الذي بدوره اتهم «حماس» بأنها قامت بدعم المعارضة السورية عسكرياً في مخيم اليرموك الفلسطيني وهي اتهامات ربما تكون صحيحة وربما تكون كاذبة، حيث لم تؤكد «حماس» قيامها بذلك.
وبمجرد أن تخلت «حماس» عن نظام الأسد، تخلت إيران و»حزب الله» عن «حماس».
لكن حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية بقيت في سورية وحظيت بدعم كامل من إيران و»حزب الله» ونظام الأسد.
هل كان على «حماس» أن تبقى في سورية، آخذين بعين الاعتبار كل ما نعرفه الآن عن الأحداث التي وقعت في الإقليم بما فيه سقوط نظام الأسد؟
برأيي كان عليها أن تبقى، فالفلسطينيون لا يوجد لديهم ترف التنقل بين الحبال العربية وهم يجب أن يوجدوا في البلاد التي تُقدم لهم الدعم، ويجب أن يحاولوا الحصول عليه من الدول التي لا تقدمه لهم، دون أن يتدخلوا في شؤونها، فالعلاقة التي تحكم شعباً عربياً ما مع السلطة التي تحكمه هي مسألة خاصة بهم يجب ألا تكون الحركة الوطنية الفلسطينية طرفاً بها لعدم قدرتها على التأثير فيها من جهة، ولتأثير ذلك المباشر عليها من جهة أخرى. كحركة تحرر، نعم، ننحاز فكرياً لكل من يريد الخلاص من القهر والاستبداد، لكن تأثيرنا في ذلك هامشي وتدخلنا سينعكس علينا سلباً.
لقد تبنت منظمة التحرير الفلسطينية هذا النهج تاريخياً وإن حادت عنه أحياناً في الممارسة العملية.
أضعف انتقال «حماس» للطرف الآخر من قوتها، فالرياح لم تجرِ بما تشتهي السفن.
خرج الإخوان المسلمون بالقوة من السلطة في مصر العام 2013، وغاصت ليبيا في وحل الحرب الأهلية، والصراع على الحكم في تونس تعمق.
كانت الثورة المضادة قد بدأت ضد التيار الإسلامي، فلا أحد إقليمياً باستثناء دولة قطر يريد لهم أن يحكموا، والدول الغربية لا تتعاطف معهم، وإسرائيل تخشاهم، وهم حاولوا أن يمسكوا العصا من الوسط بممارسة القليل من كل شيء: القليل من الانحياز للثورة، القليل من الانحياز للغرب، القليل من محاولات التفاهم مع شركاء الثورة، القليل من التغيرات البنيوية في البلدان التي وصلوا إلى الحكم فيها، وبذلك أضاعوا أنفسهم وأضاعوا إنجازات ثورات شعوبهم.
كانت الثورات العربية اجتماعية ذات بعد سياسي ولم تكن سياسية ذات بعد اجتماعي. بمعنى كان الأساس في هذه الثورات وتحديداً في مصر وتونس في الأساس نتاج حالة شديدة من الفقر والظلم الاجتماعي والحرية السياسية كانت مُلحقاً للمطالب الاجتماعية وليست جوهرها. وبالتالي لم يَكن ممكناً احتفاظ الثورة بالسلطة إن لم تقم بتغيرات سريعة في إعادة توزيع الثروة بما يُبرز انحيازها للفئات الاجتماعية التي أوصلتها للحكم. لكن الإخوان المسلمين لم يفعلوا ذلك، واختاروا مغازلة الغرب وعدم التفاهم مع الشركاء، ومهادنة مؤسسات الأنظمة البائدة، وكانت المحصلة خروجهم من الحكم.
وفي سورية كان وضع «الثورة» أسوأ بكثير. في أيلول 2014، أعلنت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والدول العربية التحالف الدولي لهزيمة «داعش» وانخرطوا في حملة جوية ضدها، بينما على الأرض دعموا قوات سورية الديمقراطية (قسد)، القوات الكردية، لمحاربة «داعش»، لكنهم لم يدعموا إسقاط نظام الأسد، لأن البديل بالنسبة لهم لم يكن أفضل.
وبحلول أواخر العام 2015، عندما تدخلت روسيا عسكرياً لدعم نظام الأسد، كان هناك المئات من الفصائل العسكرية التي تقاتل في سورية، وكان المقاتلون الذين شكلوا المعارضة وخاصة داخل «جبهة النصرة» و»داعش» ينتمون إلى 80 دولة.
ومع تحول تنظيمي «داعش» و»جبهة النصرة» إلى التنظيمين المعارضين الرئيسَين لنظام الأسد، لم يكن للدول الغربية مصلحة في إسقاط نظام الأسد. ولذلك اختاروا دعم المعارضة بالمستوى الذي يبقيها قادرة على إلحاق الدمار بنظام الأسد ولكن ضعيفة بما يكفي لعدم إسقاطه.
بعبارة أخرى، لقد اختاروا أن يُدمر الطرفان أحدهما الآخر، أو لنقل تدمير سورية وشعبها. ستكتشف «حماس» خلال ذلك خطأ خروجها من سورية وستحاول العودة إليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *