اخبار السودان

عثمان بشري الكائن الخلوي المتجلي

ياسر زمراوي

 

مر شعر الحداثة في السودان , بانطلاقته نحو الشعر الخالي من الغنايئة الفادحة , علي حساب الفكرة ؛ واصبح اكثر التصاقا بالفكر والوعي ؛ وتوضيح حيوات ومعاشات الناس , داخل صدمتهم وازمتهم بانقلاب الانقاذ في اوائل التسعينيات . اصبح بذلك الشعر المتوق للحرية وللوعي سلاحا وفكرا وكتابة , وانتشرت بذلك قصائد ونصوص كثيرة كان مصيرها الشفاهة , اذ لم تجد تلك النصوص نصيبها من النشر داخل التعتيم والحجر علي النشر الحر , وكانت مجلة الدراسات السودانية لوحدها متنفسا للكتاب وللقراء معا , ومجلة الدراسات السودانية التي كانت تصدر من القاهرة في تسعينيات القرن الماضي , وكانت تصدر بتوقف في بعض الاحايين كانت قد نشرت لكثير من الشعراء في تلك المرحلة الذين سطروا رغم الشفاهة نضالات كبيرة في التغني بحرية وفكر ووعي الشعب السوداني في تلك المراحل التي شهدت التقتيل والتعذيب والحجر علي الفكر والراي , وغير ذلك من السياسات المماثلة من نهب وسلب قوت الشعب وطعامه .

 

من الشعراء في تلك المرحلة يبرز الشاعر (عثمان بشري) , شاعرا مقاتلا , وان كان قد سمي نفسه بالكائن الخلوي . فهو قد كان كذلك , فقد تجول في ربوع السودان مناديا بشعره , الذي يجمع بين غنائية محببه وكلمات داخلة في عمق الاسي والشعور بالمرحلة وضرورياتها , ولعثمان نصوص خالدة , منها ماتغني به عن محبوبته التي سماها ب (ساما) وظل يناشدها قربا ونجوي فيقول في مخاطبتها ,

 

فى الاشتياق الفتى

نبتدئ صيحة لا على كيفنا عاجزة

لا اسميك

لا اسميك

اذ كلينا غافل عن صروف الحنايا

رافل فى الاشتياق الفتى

هذه محنة الاكتشاف

 

ظل عثمان مراهنا علي التفعيلة والغنائية في الوقت الذي سار فيه الكثير نحو النثر والجرس الموسيقي الداخلي في الكلمات , وموسيقي المعني التي تجمع عبر الصور وتخلق تفاعلا وجدانيا , مماثلا لمافعلته التفعيلة في منتصف القرن الماضي , وعثمان في شعره يناجي حبيبته عبر التفعيلة , خالقا صورة واضحة عكسا لما كانت تخاطب به الجهات السياسية جماهيرها في تلك الايام , فهو يتحدث عن العجز وعدم القدرة الملازمين للفداحة , وتظل مفردة الفداحة ملازمة لشعربشري , فهو يصوربذلك التسمية الكاملة للوضع ؛ من عوز وفقر وخطب جلل في التقتيل والحروب التي ادخل فيها النظام السابق شعب السودان بلاهوادة ,

 

لا يعجز عثمان بشري حبيبته ولا يخاطبها بنرجسية الشعراء الذين يشتهون حبيباتهم كما يريدون , فقط يخاطبها بالوضع والامر الكائن لوضع تصورات للحب وللحياة في داخل وضع تسعيني مهلك شهده السودان ,

 

لا تجئ كما اشتهى

لا تكونى مثل اذ ما اريد

ان اغنية الباب تحبو على

رمش اغنية الاصدقاء

وهرطقة الوعى

لا تجيئين فيها

هكذا اقذفيها

باتجاه الخراب العقيم

واقذفينى باتجاهى لانسف جاهى

بناصية الامتحان العظيم

 

الحبيبة عند عثمان بشري تصور كامل للحياة , ومعني داخل الصورة الحياتية كلها , حيث الفقراء والمحبين والاعداء والاصدقاء القدماء والجدد تبدو الحبيبة بذلك معني للانطلاق وطريقة لتوضيح وتجلية الامور للذات اولا , وللذات الصديقة للشاعر , حيث شعراء الحداثة في اوجاع محبتهم وفي تخييلات معاشهم يصطحبون الذات المحاورة التي يخاطبونها بالفكر وبالراي , وعثمان بشري دالف في حبه لحبيبته لاقصي حد , لا ينتظر تبادلا وتبديلا لكئوس الغرام, فقط يعلن عرض لحاله في حالة العشق في الازمة التي يعيشها راهن الحياة والبلاد .

 

كل هذا العشق،

لك.

كل هذا الجحود،

منك.

ولن أشفى

من غبائي الأصيل

ومن رهق الإنتظار

وإن سحلتني المحطات

وعبر فوق جثتي

غبار التعساء

 

بذلك تاتي التفعيلة الغنائية كاحسن مقابل توظيفي في الشعر لتوضيح الحالة الشعورية للشاعر , فالغرام يقف في صف , والنقمة الحياتية تقف في صف اخر , والعشق يقف في صف , ويكون الارتهان للمعيشي واقف في صف اخر , وبين هذا وذلك , تاتي المقابلات والطباقات , فتنجلي القصيدة علي كثير من المقابلات الشعورية , وتنعكس فيها محسنات البلاغة , ليوظفها داخل النص الشاعر بحيث لاتصبح كاوان الشعر العربي في زمانه الذي كان مثقلا بالبديع , فيجعله في نص غناءا متعاليا , عايدا من صقوف الغبار , لصفوف المعركة الاولي , حيث الرهان علي الحب والمعركة .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *