اخبار السودان

ديسمبر؛ خواطر ثورية السودانية , اخبار السودان

ديسمبر؛ خواطر ثورية

خالد فضل

(1)

ها هي أيام ديسمبر المفعمة بالذكريات تطلّ ساعاتها، في مثلها من العام 1955م كان الأهالي في أراضي السودان يترقبون لحظات ميلاد بلد لهم، معظم الناس لم يكونوا على وعي كامل بكيف سيكون، المهم بلد والسلام، تدفعهم العواطف، وتردد أصداء حركة تحرر وطني هنا وهناك، وأدبيات يسارية تدغدغ المشاعر عن السلم العالمي وحقوق الشعوب وتنبذ الاستعمار والإمبريالية وهيمنة رأس المال.

الناس في أراضي السودان لم يكونوا كثيرين، معظم المساحات الشاسعة خالية، تتمدد فيها القبائل بلا حساب، يكفي أنها ضمن ديارهم المزعومة. منطقة الجزيرة ما بين النيلين كانت الأكثر كثافة بمعيار الاستقرار ونشوء المستعمرات البشرية، ولم تك الجنسية السودانية قد اعتمدت بعد، قانون الجنسية أجيز في العام 1957م، وعندما كان العبادي يردد يكفي النيل أبونا والجنس سوداني، معدداً أسماء قبائل ما فايداني، كانت تلك أمنية أكثر منها واقع حياة.

(2)

ديسمبر 2024م لا برلمان يعقد جلسة، ولا مكانه مكان. أحفاد عبد الرحمن دبكة ومشاور جمعة سهل الأول قدّم مقترح تقرير المصير والثاني قام بتثنيته وحاز المقترح بالإجماع ربما تطالهم الآن لائحة الوجوه الغريبة، بعد أن صار البلد كله غريباً. وقد قرأت في تعليقات بعض المعلقين على صورة للسيد دبكة منشورة على موقع الراكوبة بتاريخ 4 أبريل 2014م، فوجدت (5) منها سلبية تتمنى لو أنّ الرجل لم يدعُ بتلك الدعوة، (3) إيجابية تمتدح دعوته، تعليق واحد ينفي إسناد المقترح إليه ويعزوه إلى الجبهة المعادية للاستعمار، وتعليق واحد عرّف به بصفته زعيم البني هلبا. رأيت في هذه التعليقات جائحة الشقاق والخلاف التي ظلّت تعصف بالسودانيين منذ الاستقلال وحتى ساعة نشر هذه السطور.

(3)

لم يتمكّن السودانيون حتى الآن من الوصول لمحطة جعل اختلاف الرأي يثري الحياة؛ بسبب أنّهم لم يتوصلوا بعد لصيغة تجعل التعايش السلمي بينهم ممكناً. لم يرتقوا إلى مصاف المواطن الفرد هو الغاية في الحياة بكل أنشطتها. عندما يصبح الأفراد أسوياء يكون مجموعهم رقما صحيحاً.

حدّثني أحد إخوتي ممن حظوا بحقوق المواطنة الأمريكية هو وأفراد أسرته منذ نهاية التسعينات في القرن الماضي، وقد رزق بابن تمّ تصنيف حالته (توحُد) وهذا التصنيف نفسه مرّ عبر سلسلة طويلة متعددة الاختبارات من خبراء واستشاريين ومختصين ليتخذ القرار النهائي بالتصنيف ودرجته، ولكل درجة من درجات التوحد احتياجاته الخاصة. المهم يعتبر التعليم العام حتى نهاية المرحلة الثانوية حقّا أساسيا من حقوق كل (فرد) في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو إلزامي ومجاني توفّره الحكومة ولا كتّر خيرا فالأموال الحكومية هي أموال الشعب الأمريكي وليست حيازة خاصة (بكارتيلات الفساد)!! ومسؤولية وزارة التربية والتعليم هي توفير الفرص العادلة والمتساوية لكل طفل أمريكي  دون تمييز لأي سبب. لذلك تولت الوزارة تعليم ابن أخي ذاك بما يلائم حالته تلك.

يقول والده: لقد تمّ تخصيص معلّمة ومساعد لها فيما يعرف بنظام (فرد لفرد)، وخصصت له سيارة ترحيل خاصة ترافقه مشرفة تستلمه من باب البيت وتسلّمه عنده. وفي حالة ارتباط الوالدين بعمل بحيث لا يمكن لأحدهما أن يكون موجوداً ساعة عودته من المدرسة تقوم إدارة الرعاية الاجتماعية بتعيين موظف/ة بأجر؛ يتولى استلامه والبقاء معه في المنزل لحين عودة أحد والديه. تكلفة هذا الطالب بجميع احتياجاته حوالي (64) ألف دولار أمريكي في العام الواحد. وهي تزيد عن تكلفة طالب جامعي طيلة سنوات دراسته. بعد انتهاء مرحلة تعليم ذلك المواطن؛ يتم استيعابه في عمل يناسب قدراته وما اكتسبه من مهارات، ويتم تحفيز المؤسسات والشركات التي تخدّم أفراداً من ذوي الحاجات الخاصة بمنحها أفضلية في المناقصات العامة. رئيس أورغواي نادر النظير خوزيه موخيكا (2010 2015م) قال: إنّ الشعب المتعلم لديه أفضل الخيارات في الحياة ومن الصعب أنْ يتعرّض لمكائد أو خداع الفاسدين!!!

(4)

في الواقع أنفق السودانيون سبعة عقود منذ يوم الاستقلال، ولم يصلوا بعد لمرحلة سقف بيتهم الكبير، يبدو أنّهم لم يتجاوزوا مرحلة الساس، وهم في حفره مختلفون، أيكون ساساً لتشييد طوابق وما يتطلبه من مقاسات ومعايير هندسية دقيقة أم يكون مجرى لرص الطوب وبناء جدران وسقف كيفما اتفق. لقد تمّ تشييد البيت وفق الطريقة الأخيرة لذلك ظلّت جدرانه تتصدع، ضربها الشق قبل أن ينتهي الأسطوات الأوائل من لملمة (عدة الشغل البدائية) وكان نقض العهود هو الشق الأكبر؛ فانهار الجدار (جهة الجنوب) ومن الصعيد تهب الرياح الرطبة التي تسبب المطر فيروي الأرض وترتع البهائم، ومن الصعيد يتدفق سائل الوقود الأعظم لتشغيل الماكينات، لكن الجدار انهار. ولم ينتبه أصحاب الدار لخلل الساس، شدّوا مشمع بلاستيك في محل الجدار المفقود، فحجبهم عن رؤية الأعاصير تتجمع من جديد، ولكنها ضربت عاصفة قوية مزلزلة؛ انهار الجدار الغربي، وتشلّع سور البلاستيك المهترئ، وصار بالبيت جداران فقط. وما يزال يسمونه بيتنا الكبير غصباً للحقائق، والريح تعصف. يتضاير كل قاطني البيت في ركنين الأعمى شايل المكسّر. ويتغالطون حول قول حميد النصيح (الجاتنا جاتنا من الأرض أم من تالا السما).

(5)

حميد قال الجاتنا جاتنا من الأرض ما من تالا السما، لقد برأ السماء. وبعضنا يكابر. حتى أنّ أحد الفاسدين يعتبر الكارثة وانهيار البيت المتصدع (هدية من الله) والله يرزق من يشاء بخمسة مليون دولار!! الأرض هي التي أنجبت الجنود، وضعت بين أياديهم السلاح، ثم لم تحوشهم. لأنّ البيت لم يؤسس على ركائز حق الفرد الإنسان كغاية، والدولة وسيلته فقط لتنظيم شؤون حقوقه. الثورة بدون غاية واضحة محددة ومكممة ومقاسة تعتبر درساً فاشلاً؛ التربويون يعرفون هذا عند تحضير الدرس.

(6)

هل توجد حاجة لجيوش؟ عشان شنو؟ حقوق الفرد السوي يحرسها القانون. والشرطة المدنية تكفي. وموخيكا من أمريكا اللاتينية يعلن في 2015م عن استعداد بلاده لاستقبال مائة يتيم سوري رفقة ذويهم البالغين وذلك بمنزله الصيفي. وهو الذي يحتفظ بـ10% فقط من راتبه الشهري وقدره 12.500 دولاراً أمريكياً، يتبرع بالباقي للجمعيات الخيرية وليس لديه حساب مصرفي وليس عليه ديون، وكذلك تفعل زوجته لوسيا توبولانسكي عضوة مجلس الشيوخ. ولم تتطاحن في بلده الجهات والقبائل والمليشيات والغبائن؛ فالتعليم يجعل الخيارات أكثر ويضمحل أذى الفاسدين الماكرين.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *