صناعة اليونان « الثقيلة ».. من غرق مئات المهاجرين في ليلة واحدة إلى « فخ كالاماتا » (تحقيق استقصائي) اليوم 24
منذ عام 2020، ذاع صيت اليونان فيما يُعرف بممارسة عمليات الـ Pushback أو دفع مراكب الهجرة خارج حدودها؛ وهو ما يُفسر محاولة المهاجرين على قارب المتوكل، الابتعاد عن الحدود اليونانية ودخول المياه الإيطالية. تقول منظمة Alarm Phone في عدة تقارير وثّقتها ما بين 24 فبراير 2020 حتى يناير 2024، إن آلاف المهاجرين تعرضوا لإطلاق النار والضرب، بالإضافة إلى تعمد عدم إنقاذهم في البحر من قبل السلطات اليونانية: « يعلم المهاجرون تماماً أن الاحتكاك مع خفر السواحل اليوناني أو الشرطة اليونانية أو حرس الحدود اليوناني يعني العنف والألم، وبسبب عمليات الصد الممنهجة (الإعادة القسرية خارج حدود اليونان)، تحاول مراكب الهجرة تجنب اليونان، وتقطع مسافات أطول بكثير وتخاطر بحياتها في البحر ».
عبر خريطة تفاعلية، وثّقت Alarm Phone حالات « لا حصر لها »، وفق وصفها، من دفع حرس الحدود اليوناني للمهاجرين والمراكب قسراً إلى خارج حدوده؛ ما تسبّب في وفاة كثير من المهاجرين. وتضيف Alarm Phone: « لكننا وثّقنا أيضاً حالات انقلبت فيها مراكب (مهاجرين)، محملة بحمولة زائدة لأنها سلكت طرقاً أطول، في محاولة لتجنب القوات اليونانية (…) إن رغبة اليونان في منع وصول البشر إلى أراضيها هي أقوى من الحاجة إلى إنقاذ مئات الأرواح ».
تتفق بيانات Alarm Phone المتعددة حول السياسة اليونانية في صد المهاجرين، مع إحصائيات رسمية صادرة عن الاتحاد الأوروبي، ومنظمات أوروبية تعمل على رصد الانتهاكات ضد اللاجئين إلى أوروبا عبر اليونان. فقد وثّقت Forensic Architecture، وهي مؤسسة بحثية بجامعة لندن، ألفين و10 حوادث عنف، وإعادة قسرية للاجئين (Driftbacks) قامت بها قوات حرس الحدود والشرطة اليونانية، ما بين 2020 و2023، أدت إلى طرد 55 ألفاً و445 راغب لجوء، بجانب توثيق إلقاء خفر السواحل اليوناني 32 راغب لجوء مباشرة في البحر، ووفاة 24 آخرين وتسجيل 17 حالة اختفاء.
وفي 11 يناير 2024، وثّقت منظمة (Aegean Boat Report (ABR اختباء 46 مهاجراً، من بينهم 21 طفلاً، بإحدى الغابات بعدما رسا قاربهم في جزيرة ليسبوس؛ وذلك خشية إعادتهم قسرياً إلى الحدود البحرية التركية من جانب السلطات اليونانية.
نتيجة لهذه السياسة، أحالت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ثماني قضايا من إجمالي 47 قضية رُفعت ضد اليونان، في الفترة ما بين يناير ودجنبر 2021، للانتهاك « الممنهج لحقوق الإنسان على حدودها ». وفي 7 يوليوز 2022 و16 يناير 2024، أدانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان اليونان لانتهاك الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن المعاملة المهينة للاجئين، وانتهاك حقوق ناجين وفرض إجراءات قضائية تعسفية ضدهم، وإطلاق خفر السواحل اليوناني « النار المميت » على أحد اللاجئين.
وعلى الرغم من هذه الإدانة، فإن السلطات اليونانية استمرت في نهج الدفع بالمهاجرين قسراً إلى خارج حدودها؛ وفقاً للخريطة التفاعلية لـ FA. وفي هذا السياق، قالت المفوضية الأوروبية للاجئين والمنفيين ECRE، وهي تحالف يضم 127 منظمة غير حكومية في 40 دولة أوروبية، إن عمليات الإعادة القسرية للاجئين مستمرة خلال عام 2024، عبر إجبار المهاجرين على الخروج من المياه اليونانية.
هذا السجل السابق في صد مراكب الهجرة قبل الاقتراب من البر اليوناني، يُشير إلى المصير المنتظر لـ « مركب المتوكل »، الذي ظل يصارع الغرق منذ صباح الـ 13 من يونيو 2023، حتى فجر اليوم التالي بالقرب من سفينة PPLS 920، التابعة لخفر السواحل اليوناني.
في الثانية صباحاً بتوقيت اليونان، قال بيان رسمي صادر عن حرس الحدود اليوناني، إن سفينة خفر السواحل رأت مركب المتوكل « ينحرف بدرجة كبيرة يميناً، ثم يساراً، ثم يميناً مرة أخرى، ما أدى إلى انقلابه. وبعد مرور نحو 10 إلى 15 دقيقة؛ غرق المركب بالكامل وسقط عدد من ركابه في البحر ». لكنّ هذا البيان الرسمي، الصادر عن السلطات اليونانية، يُخالف جميع شهادات الناجين الذين أدلوا بها لنا وللنيابة اليونانية، مؤكدين أن سفينة خفر السواحل، قامت بربط مركبهم بحبل وجره بقوة ما أدى إلى انقلابه.
انتشال جثث ضحايا المركب المصدر أرشيف Eurokinissi
لم ينجُ من الغرق سوى 104 مهاجرين فقط، من بينهم محمد عماد وأحمد عادل، وتمّ انتشال 82 جثة وفُقد أثر ما يزيد على 750 شخصاً في بطن البحر. يصف لنا محمد عماد اللحظات الأخيرة لمركب المتوكل، وتتفق شهادته مع شهادة ناجين آخرين من جنسيات مختلفة، أدلوا بها إلى النيابة اليونانية ولوسائل إعلامية مختلفة: « في اللحظات الأخيرة أيقظني صديقي إسلام ليخبرني بأن مركب خفر السواحل قام بربط المركب لسحبه، لكن بعد دقائق قليلة؛ تمّ سحب المركب بقوة من جانب سفينة خفر السواحل، ما أدى إلى غرق المركب… تمكنتُ من السباحة لكنّ صديقي إسلام اختفى وسط الأمواج وغرق، صراخ الأطفال أثناء الغرق دفعني إلى العودة مجدداً إلى المركب، وقمت بسحب اثنين من الصغار، ووصلت بهم قرب مركب خفر السواحل ».
وفقاً لشهادات الناجين، انسحبت سفينة خفر السواحل PPlS920 بعيداً عن موقع الغرق، ثم بعد نحو نصف ساعة، وهي مدة وصفها الناجون بالطويلة، وجّهت سفينة خفر السواحل أضواءها على موقع حطام المركب. حاول الناجون السباحة إلى سفينة خفر السواحل، لكنّ المسافة كانت بعيدة. كانت PPlS920 مزودة بكاميرات تقول فرونتكس (الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل) إنها تعمل وتُسجل تلقائياً كل العمليات التي تقوم بها السفينة. لكن في اليوم التالي للحادثة، قال خفر السواحل اليوناني إن كاميرات المركب مُعطلة ولا تعمل.
في تقرير رسمي صادر عن فرونتكس، يكشف قيام السلطات اليونانية بالممارسات نفسها عبر سحب مراكب الهجرة بالقوة خارج المياه اليونانية. وفيما يتعلق بمركب المتوكل، قالت فرونتكس إنها عرضت المساعدة ثلاث مرات على خفر السواحل اليوناني للمشاركة في عمليات إنقاذ المركب، إلا أن اليونان لم تستجب. لذلك يعزو بعض الناجين الـ 104 في شهاداتهم أمام الشرطة والنيابة اليونانية، غرق المركب إلى محاولة خفر السواحل سحبه وقطره بقوة إلى المياه الإيطالية، وليس لإنقاذهم.
فخ كالاماتا
صباح يوم الحادث، أعلنت اليونان الحداد الوطني ثلاثة أيام على ضحايا المركب. وفي المساء اقتادت الشرطة اليونانية بمدينة كالاماتا تسعة من الناجين، جميعهم مصريون، إلى الاحتجاز بتهمة تشكيل تنظيم إجرامي لتهريب البشر إلى أوروبا، والتسبب في غرق المركب. كان محمد عماد وأحمد عادل من بين المتهمين.
تقول لنا والدة أحمد إنها علمت بخبر غرق المركب ووفاة عبد الله صديق أحمد، صباح ليلة الحادث؛ وفي المساء انتشرت صورة لأحمد ناجياً وملفوفاً ببطانية على مركب خفر السواحل. بينما لم يصل خبر نجاة محمد عماد إلى والدته إلا بعد القبض عليه. تقول لنا والدته غادة إنها شعرت بعد غرق المركب وكأن قلبها توقف لمدة يوم كامل، خاصة بعدما علمت من أسرة إسلام، صديق محمد، بأن ابنهم لم يكن من ضمن الناجين. وفي اليوم التالي، كانت تتابع مواقع التواصل الاجتماعي للبحث عن محمد، فوجدت صورة له أثناء اقتياده إلى الحجز من جانب الشرطة اليونانية.
رفضت الشرطة اليونانية طلباً قدمه محمد عماد بعدم ترجمة أقواله من العربية إلى اليونانية، والدفاع عن نفسه باللغة الإنجليزية التي يُجيدها كما يقول. يضيف لنا من داخل سجنه: « أنا أول ما دخلت الكامب، واحدة من ضباط الشرطة التي حقّقت معنا، اصطحبت شاباً سوريّاً وقالت له لنعقد صفقة، لم أره بعد ذلك… أنا أيضاً وقت التحقيق معي، قيل لي: حدِّد خمسة من أفراد الطاقم وعُد إلى الكامب (حيث الناجون)، قلت لهم إني لا أعرف أفراد الطاقم ».
يتوافق حديث محمد لنا مع شهادة أدلى بها ناجون وذووهم فيما بعد، بأن عناصر من الشرطة اليونانية « طلبوا منهم اتهام المصريين التسعة بإغراق القارب ».
بعدما قررت النيابة اليونانية في كالاماتا نقل المتهمين المصريين التسعة إلى سجن نافليو وأفلونا جنوب البلاد، على ذمة التحقيقات، تمكّنا من تسجيل ثلاث مقابلات مع محمد عماد عبر الهاتف من داخل محبسه. في المكالمة الأولى، لم يكن محمد قد أفاق بعد من صدمتي الغرق وفقدان صديقه إسلام، ومن صدمة اتهامه بالتهريب والتسبب في غرق المركب، قال لنا: « جميع المصريين المتهمين من محافظات مختلفة في مصر، وأنا عن نفسي لا أعلم أيّ أحد منهم إطلاقاً، وكل من كنت بجوارهم على المركب كانوا باكستانيين بجانب ثلاثة مصريين… أصدقائي غرقوا جميعاً للأسف، كيف نكون متهمين بأننا شبكة تهريب ونحن لا نعرف بعضاً أصلاً؟ الشرطة اليونانية صادرت هاتفي وترفض النيابة فحصه رغم أن عليه دليل براءتي؛ من صور للتحويلات المالية إلى المهربين، والرسائل بيني وبينهم، كيف أكون مهرباً وأدفع كل هذه الأموال للهجرة؟ أيضاً قمتُ بتصوير اللحظات التي سبقت غرق المركب، وقام كثير من المهاجرين بالتصوير أيضاً… هذه الهواتف مُصادرة الآن وعليها براءتي وإدانة خفر السواحل اليوناني ».
لم يُعلن خفر السواحل اليوناني في البداية عن مصادرته 21 هاتفاً من هواتف الناجين؛ حتى قرر ضباط خفر السواحل على السفينة PPlS920 بعد عشرين يوماً من الحادثة، في 7 يوليوز 2023، الإبلاغ عن « العثور » عليها « منسية في كيس بلاستيكي داخل السفينة التي قامت بعملية الإنقاذ »، فتم تسليمها إلى النيابة؛ لذلك طلب محامو المتهمين المصريين والناجين بإضافة هذه الهواتف إلى ملف القضية، إلا أن النيابة اليونانية رفضت الطلب.
لم تُغطِ قضية المصريين التسعة المتهمين بالتهريب على كارثة غرق المركب؛ إذ أعرب أعضاء بالبرلمان الأوروبي عن « مخاوف شديدة بشأن الادعاءات الخطيرة والمتواصلة الموجهة ضد السلطات اليونانية » بسبب ممارساتها ضد المهاجرين، والتورط في عمليات الإعادة القسرية من البحر. فيما قالت لنا المحامية يوانا بيجازي، من مشروع Human Right Legal باليونان، إن توجيه هذا الاتهام إلى المصريين التسعة يستهدف فقط إبعاد الأنظار عن السلطات اليونانية، التي أدت إخفاقاتها المتعمدة إلى مأساة مركب المتوكل.
كان الزج بالناجين المصريين التسعة في القضية يُشبه الفخ الذي أُعد لهم، من أجل إبعاد الأنظار عما جرى ليلة غرق مركب « المتوكل »، لتصبح تغطية الحادثة قاصرة فقط على المتهمين وشبكة التهريب، والابتعاد عن تفاصيل حادثة الغرق. تؤكد هذا التصور وثائق رسمية مصرية حصلنا عليها.
في يوليوز 2023، بعد أيام قليلة من الحادث، شكّلت وزارة الخارجية المصرية، لجنة من بعثتها الدبلوماسية في اليونان لبحث قضية المتهمين المصريين في السجن اليوناني. بعد انتهاء مهمة اللجنة، أرسلت وزارة الخارجية المصرية مذكرة إلى إدارة التعاون الدولي في النيابة العامة المصرية، تكشف جانباً مثيراً في القضية.
ووفقاً للوثيقة التي حصلنا عليها، فإن اللجنة التابعة للخارجية المصرية خلُصت إلى أنه « في محاولة من السلطات اليونانية لتشتيت الانتباه عن دورها في الحادث، وجهت التهمة للمواطنين المصريين، باستخدام مترجم لا يقوم بترجمة صحيحة لشهادات الناجين المصريين، وهو أمر معتاد مؤخراً في حوادث الهجرة غير الشرعية في اليونان(…) كما تتحفظ (السلطات اليونانية) حتى الآن عن فحص هواتف الناجين، التي تُفند الرواية التي تدعيها عن ملابسات الحادث ».
احتجاز الناجين المصريين التسعة، بعد ساعات قليلة من الحادث، واتهامهم من جانب النيابة اليونانية بالتهريب والتسبب في إغراق المركب، يُشير إلى نمط اعتادت عليه السلطات اليونانية منذ عام 2020، في التعامل مع مراكب الهجرة التي تصل حدودها؛ إذ يتمّ توجيه اتهام عشوائي لبعض المهاجرين على المراكب التي تصل حدود اليونان، بأنهم المهربون المسؤولون عن المركب وإبحاره.
ووفقاً لدراسة أعدتها منظمة borderlineeurope الألمانية، حتى نهاية فبراير 2023، أيّ قبل ثلاثة أشهر فقط من حادثة مركب المتوكل، بلغ عدد السجناء في السجون اليونانية، الذين صدرت بحقهم إدانات بتهريب البشر، ألفين و154 سجيناً، ما يجعلهم ثاني أكبر مجموعة من السجناء؛ إذ يبلغ عدد نزلاء السجون في اليونان عشرة آلاف و723 سجيناً؛ 20 في المئة منهم مهاجرون متهمون بتهريب البشر. وفي عام 2022، وصل هذا النمط ذروته، إذ أُلقي القبض على ألف و374 مهاجراً على الأقل بتهمة تهريب البشر.
تُشير المحامية اليونانية إيفي ذوسي، المستشارة القانونية لمنظمة HIAS لدعم اللاجئين، إلى أن نتائج الدراسة السابقة تتشابه في أجزاء كبيرة منها مع قضية المتهمين التسعة الناجين من حادثة مركب المتوكل؛ إذ إن المعلومات التي تُنشر من وقت لآخر حول قضايا مختلفة، تشير الى أن تلك القضايا جميعها تتبع نهجاً ونمطاً محدداً، يهدف إلى إلقاء اللوم على مهاجرين وصلوا مع أيّ مجموعة إلى الحدود اليونانية بغرض اللجوء.
في حادثة مركب المتوكل، ظل المصريون التسعة محتجزين في سجن نافبليو جنوب البلاد، رافضين الاعتراف بالجريمة، فيما تطابقت أقوالهم بأنهم كانوا مجرد مهاجرين دفعوا للمهربين فاتورة السفر، بعدها رفضت النيابة اليونانية طلب محاميهم بالإفراج الشرطي عنهم على ذمة القضية. وفي غشت 2023، زارت اللجنة المشكلة من وزارة الخارجية المصرية المتهمين في سجنهم لبحث القضية.
بعد الزيارة، رفعت اللجنة مذكرة إلى الخارجية المصرية: « أفاد المواطنون (المصريون المحتجزون) بأن عدداً من الضباط اليونانيين زاروهم في السجن، وادّعى هؤلاء الضباط بأنهم من الإنتربول، ثمّ استجوبوهم وهددوهم بالسجن مدى الحياة، في حال لم يقوموا بالاعتراف بالجريمة، قال هؤلاء الضباط إن لليونان علاقات ممتازة مع مصر، وإنهم قد يقوموا بالقبض على ذويهم في مصر والتنكيل بهم »، من أجل إجبارهم على الاعتراف على أنفسهم في اليونان بأنهم مهربون.
قبل تشكيل لجنة وزارة الخارجية المصرية ووصولها إلى اليونان، لبحث قضية المتهمين المصريين، كانت مصر التي تُشارك اليونان تحالفاً غير مسبوق منذ عام 2019 قد بدأت عمليات مطاردة لسماسرة الهجرة غير الشرعية، في أعقاب توتر شهدته محافظات مصرية، في اليوم التالي لغرق مركب المتوكل.
وبعد 11 يوماً من التحريات، أصدرت إدارة التعاون الدولي بالنيابة العامة المصرية إذناً في 25 حزيران/يونيو 2023 إلى إدارة مكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر بوزارة الداخلية، بضبط مَن اتهمهم الأهالي بمسؤوليتهم عن هجرة أبنائهم على مركب المتوكل.
وفقاً لما حصلنا عليه من وثائق، فقد استندت تحريات الداخلية المصرية إلى معلومات أدلى بها سماسرة يعملون في تهريب الشباب إلى الخارج، وإلى شهادات أهالي المهاجرين المصريين على المركب؛ الناجين والمفقودين، التي كشفت عن أسماء المهربين الذين دفعوا لهم الأموال من أجل تهريب أبنائهم. بحسب مذكرات الضبط والإحضار، الصادرة من قطاع مكافحة جرائم الأموال العامة والجريمة المنظمة بوزارة الداخلية المصرية، خلُصت التحريات والتحقيقات إلى اتهام 35 مصرياً وليبياً واحداً بالمسؤولية عن « مركب المتوكل »، يتزعمهم « م.س.ا » (35 سنة)، ليبى الجنسية وشهرته أبو سلطان، وهو الاسم نفسه الذي أشار إليه ناجون بمسؤوليته عن المركب. ضبطت الشرطة المصرية 23 منهم، في حين لم يتمّ القبض على بقية المتهمين (13 شخصاً).
يُلاحظ من تحقيقات النيابة المصرية، أنه أُلقي القبض على ثلاثة متهمين من البلدة نفسها، التي خرج منها المهاجرون، في الثالث من يوليوز 2023، وهم الذين تولوا مهمة قيادة المركب. وفقاً للتحقيقات، فقد كشف الفحص الفني لهاتف أحدهم « ح.م.ا »، أنه التقط صورة لقبطان مركب المتوكل، « م. ا. ع »، وبدأ بالبحث عنه على صفحات التواصل الاجتماعي في اليوم التالي لغرق المركب.
في 8 يوليوز 2023، أرسلت النيابة العامة المصرية إلى نظيرتها اليونانية ما توصلت إليه التحريات والتحقيقات المبدئية في قضية شبكة التهريب المسؤولة عن « مركب المتوكل »، وطلبت مصر من اليونان التعاون القضائي بإرسال ما توصلت إليه تحقيقات النيابة اليونانية مع الناجين والمتهمين المصريين، وذلك « من أجل الوصول إلى الحقيقة في تلك الجريمة »، وفقاً لنص المُذكرة المُرسلة إلى اليونان. لم تكن أسماء المصريين التسعة المحتجزين في اليونان ضمن قائمة المُهرِّبين، المسؤولين عن المركب، التي أرسلت مصر بياناتهم لليونان.
لم ترد اليونان على طلب مصر بالتعاون القضائي، وفي 30 غشت 2023، استدعت النيابة العامة المصرية مدير إدارة المعلومات الجنائية بقطاع مكافحة الاتجار بالبشر بوزارة الداخلية، لسؤاله عن التحريات والتحقيقات التي قامت بها الشرطة، فيما كان أحد أبرز الأسئلة التي وجهت إليه، عن طبيعة العلاقة بين الناجين المحتجزين في اليونان بتهمة المسؤولية عن مركب المتوكل، وبين مَن قامت الشرطة المصرية بضبطهم. رد الضابط المسؤول عن التحريات، أنه تمّ التوصل بعد التحقيق مع شبكة التهريب في مصر، إلى أن الناجين التسعة المحتجزين في اليونان « مجني عليهم وتنحصر العلاقة بينهم وبين الشبكة الإجرامية في مصر على استقطاب هؤلاء المجني عليهم، بعد إيهامهم بالحصول على فرص عمل في دولة أوروبية »، مضيفاً أن الناجين المحتجزين في اليونان دفعوا مثل غيرهم مبالغ تتراوح ما بين 140 إلى 160 ألف جنيه مصري.
أرسلت مصر استعجالاً آخر إلى اليونان، بضرورة التعاون القضائي في القضية المتهم فيها المصريون التسعة في اليونان، للاستفادة منها في التحقيقات المصرية، « والوصول إلى الجناة الحقيقيين » المسؤولين عن المركب. تضمن الاستعجال الأخير تحقيقات النيابة المصرية، التي أشارت إلى انتفاء العلاقة بين الناجين التسعة المحتجزين في اليونان، وشبكة التهريب المسؤولة عن المركب.
وفقاً لمذكرة صادرة عن النيابة العامة المصرية بتاريخ 20 شتنبر 2023، ردت السلطات اليونانية المختصة أخيراً على مصر، بتعذر التعاون القضائي « في الوقت الراهن »؛ وذلك على الرغم من الاهتمام الذي أبدته السلطات اليونانية في البداية بالحصول على التحقيقات المصرية في القضية.
عدم تعاون اليونان قضائياً مع مصر، في القضية المتهم فيها مواطنون مصريون على أراضيها، يُشير إلى مخالفتها اتفاقية التعاون القضائي بين مصر واليونان، المُوقعة في 22 دجنبر 1986، والتي استندت إليها النيابة المصرية عندما طلبت من اليونان الإسراع في إرسال كل ما يتعلق بالقضية إلى مصر.
الرد اليوناني
عبر الإيميل، أرسلنا إلى السلطات اليونانية المختصة طلباً للتعليق على أسباب عدم التعاون قضائياً مع مصر للكشف عن شبكة تهريب البشر على هذا المركب، وسؤالها أيضاً عما إذا كانت قد ردت على مصر مرة أخرى بالموافقة على التعاون القضائي أم لا، لكن لم نتلقَ رداً من السلطات اليونانية حتى تاريخ نشر التحقيق.
يُلاحظ من المذكرة القضائية التي أرسلتها مصر واستلمتها اليونان، أن السلطات اليونانية كانت على علم منذ يوليوز 2023 بأن الناجين المصريين المحتجزين لديها في سجن نافبليو ليست لهم صلة بشبكة التهريب المسؤولة عن مركب المتوكل. وعلى الرغم من ذلك، لم تُفرج النيابة اليونانية عن الناجين المصريين أو تُحقق فيما وصلها من مصر، لكنها أحالت المصريين التسعة في فبراير 2024 إلى المحاكمة الجنائية باتهامات تصل عقوبتها إلى السجن مدى الحياة.
تقول المحامية يوانا بيجازي من مشروع Human Right Legal باليونان، إن السلطات اليونانية لم تكن جادة في الكشف عن حقيقة ما حدث أثناء غرق مركب المتوكل، ولم تسعَ بالقبض على المصريين التسعة إلى إجراء تحقيق قضائي حقيقي، بل إلى حماية خفر السواحل اليوناني من أيّ مساءلة؛ وهو نهج يتفق مع « سياسات الصد » الأوروبية، عبر إعطاء الأولوية للسيطرة على الحدود على حساب الأرواح البشرية والعدالة، مضيفة أن مأساة مركب المتوكل هي نتيجة لسنوات من الردع والإفلات من العقاب.
وفقاً لدراسة أعدتها منظمة borderlineeurope الألمانية، تحت عنوان « الدولة القانونية في خطر.. التجريم المنهجي للمهاجرين إلى اليونان بقارب أو سيارة »، فإن جلسات محاكمة المهاجرين في قضايا التهريب والاتجار بالبشر في اليونان تتسم عادة بالسرعة في صدور الأحكام؛ فتستغرق في المتوسط 37 دقيقة فقط، وتقل هذه المدة إلى 17 دقيقة في المحاكمات التي تضم محامين معينين من قبل الدولة، في حين سجلت الدراسة ست دقائق فقط لأقصر محاكمة.
على الجانب الآخر في مصر، استمر التحقيق مع الشبكة المتهمة بالتهريب. وفي 17 أكتوبر 2023، أُحيلوا للمحاكمة التي انعقدت في وادي النطرون في 5 فبراير 2024، وصدرت ضد أعضاء الشبكة أحكام بالسجن المشدد من خمس سنوات إلى المؤبد، لارتكاب جريمة عابرة للحدود وتشكيل شبكة إجرامية، واستغلال أطفال لارتكاب الجريمة، فيما صدرت أحكام ببراءة تسعة متهمين. وفي 14 ماي 2024، انعقدت محكمة استئناف طنطا وأيدت الحكم السابق بالإدانة، لكنها حكمت بالسجن خمس سنوات على المتهمين الصادر بحقهم حكماً بالبراءة في الدرجة الأولى، فيما قضت ببراءة ثلاثة متهمين فقط في القضية.
بينما شكّل الحكم السابق قصاصاً مؤقتاً يُبرّد صدور أهالي المفقودين في « مركب المتوكل »، كانت أسرتا أحمد عادل ومحمد عماد في انتظار جلسة محاكمتهما مع رفاقهم السبعة في اليونان. عن المحاكمة التي انتظرها أهالي الناجين المحتجزين في اليونان، قالت لنا غادة والدة محمد عماد: « اليونان خدوا ولادنا كبش فداء، حاسة إن الحكومة اليونانية كلها ضد التسعة المصريين عشان يغطوا على اللي حصل يوم غرق المركب، عشان كده كان صعب عليهم في اليونان يفرجوا عن أولادنا، والفكرة دي كانت مخلياني من يوم القبض عليهم في رعب كل ليلة ».
استعداداً لمحاكمته، كان محمد عماد يحاول يومياً متابعة الأخبار اليونانية وهو في سجنه، وتعلم اللغة اليونانية لفهم ما يحدث حوله داخل السجن؛ خاصة بعد ما تمّ الاعتداء على رفاقه الناجين أكثر من مرة. يقول لنا من محبسه: » تمّ ضربنا أكثر من مرة… أحد رجال الشرطة أثناء التحقيق اعتدى على اثنين من زملائي المتهمين، تعرض أحمد عادل للضرب أثناء التحقيق، وضُرب مصطفى خليل بالقدم في صدره… تمّ ضربنا بدون أيّ سبب ».
إيهاب الراوي، مؤسس منظمة مجموعة الإنقاذ الموحد في برلين، قال لنا في هذا السياق إنهم وثّقوا العديد من الشهادات من مهاجرين عرب وصلوا اليونان عبر « مركب المتوكل »، ومراكب الهجرة الأخرى، التي تؤكد الاعتداء عليهم من جانب السلطات اليونانية، ومنهم مَن تمّ تعذيبه وصعقه بالكهرباء. وأشار إلى أن هدف السلطات اليونانية من هذه العمليات هو تخويف المهاجرين، الذين يفكرون في الهجرة إلى أوروبا عبر اليونان؛ وهي سياسة نجحت اليونان في فرضها وجعلت كثير من مراكب الهجرة تتجنب الاقتراب من المياه اليونانية.
على الرغم من ذلك، تُشير الاحصائيات إلى أنه مع استمرار نمط الإعادة القسرية من على الحدود اليونانية، فإن مراكب الهجرة إلى أوروبا عبر اليونان لا تزال في تزايد. حتى 17 نونبر 2024، وصل إلى اليونان عبر البحر نحو 49 ألف مهاجر راغب في اللجوء، بزيادة نحو 8 آلاف مهاجر مقارنة بعام 2023.
حول الاتهامات الموجهة لخفر السواحل اليوناني فيما يتعلق بالإعادة القسرية لمراكب الهجرة ودفعها خارج الحدود اليونانية، ردت وزارة النقل البحري اليوناني عبر البريد الإلكتروني على سؤالنا حول هذه الحوادث، قائلة إن خفر السواحل في سياق الرقابة الداخلية المستمرة على سلوك أفراده، قد أجرى (منذ عام 2020 وحتى 29 نونبر 2024) 21 تحقيقاً إدارياً داخلياً حول هذه الوقائع. لكنّ وزارة النقل البحري اليوناني لم تذكر لنا في ردها نتائج هذه التحقيقات.
حياة جديدة
قبل أربعة أيام من انعقاد محاكمة الناجين المصريين التسعة، في 17 ماي 2024، أعربت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، عن قلقها بشأن نزاهة قضية المتهمين المصريين. وأشارت على لسان جوديث سندرلاند، المدير المساعد لقسم أوروبا وآسيا الوسطى في المنظمة، إلى أن التحقيقات تستند إلى أدلة غير كاملة، ومشكوك فيها. وفي الـ 21 من الشهر نفسه، انعقدت محكمة كالاماتا الجنوبية باليونان، وقضت في جلستها الأولى ببراءة المصريين التسعة.
تقول لنا إيفي ذوسي، محامية المتهمين المصريين: « في الحقيقة أشعر بالسعادة بسبب براءة المصريين، لكنّ هذا لا يكفي ليُرضينا، سننتصر عندما تتحمل السلطات اليونانية مسؤوليتها عن الحادث، وتتمّ محاكمة خفر السواحل المسؤول عن غرق المركب… وحتى يحدث هذا، فإن غادة وعادل وهدى وعماد وكل أهالي المصريين التسعة لم يحصلوا على حقهم من اليونان، بعد 11 شهراً قضاها أبناؤهم في السجن من دون دليل ».
في هذا السياق، أعلن البرلمان اليوناني في أكتوبر 2024، فتح التحقيق في شكوى من مواطنين يونانيين ضد القائم بأعمال وزير النقل البحري (أثناء الحادث)، بتهمة الإخلال بالواجب والإهمال الذي أدى إلى غرق مركب المتوكل. كما قام 40 ناجياً من حادث غرق مركب المتوكل، بتقديم شكوى جنائية إلى محكمة بيرايوس البحرية ضد خفر السواحل اليوناني لتقاعسه عن إنقاذهم.
بعد قضاء 335 يوماً في السجن من دون أدلة، ينتظر أحمد عادل ومحمد عماد، الحصول على قرار اللجوء لبدء حياة جديدة في أثينا، في حين يعمل محمد عماد بين حين وآخر عاملاً باليومية في أشغال يدوية، وقد أعدّ محاميه مذكرة تتهم السلطات اليونانية بسجنه وزملائه الثمانية لمدة عام، رغم معرفتها بأنهم ليسوا ضمن شبكة التهريب المسؤولة عن المركب.
أنجز هذا التحقيق بدعم من أريج وينشر باللغة العربية بالشراكة مع المنصة مصر، وبالتعاون مع منصة Solomon اليونانية، وصحيفتي El Pais الإسبانية وTAZ الألمانية.
المصدر: اليوم 24