تجليات الوحدة العضوية بين إسرائيل..والغرب

أمد/ رغم الارتباط الصهيوني العميق بالغرب فلا أحد من زعماء السياسة الإسرائيلية يفكّر بطريقة نيكسون مثلا في رحيل أمريكا عن فيتنام وانفتاحها على الصين،أو التفكير بطريقة ديغول في رحيل فرنسا عن الجزائر.فإسرائيل هذه التي يفكر فيها البعض لا وجود لها في العقلية الحزبية الإسرائيلية،إذ تصبح صهيون هي الحزب وحده ويصبح الشعب هو عدد الناخبين وحدهم.وهي مأساة سياسية من الدرجة الأولى لأنّ حصيلة الفكر الحزبي الإسرائيلي هي المزيد من الأزمات العابرة أو الغائرة (في الاقتصاد مثلا) وبقاء الأزمة الجوهرية (الكيان والوجود) بلا حل حقيقي،مما يهدّد باستمرار الحروب وكأنّ إسرائيل «دولة» لا عمل لها غير ميدان القتال على حساب الجماهير الجائعة إلى السلام لأنّه يعني ببساطة الأمن والرخاء.
إنناكعربوفي أحسن الأحوال لا تتجاوز مقاربتنا لجوهر الصراع حدود التصوير السياسي إلى حدود تقديم البدائل،إذ نكتفي بتجسيم «الحائط الصهيوني المسدود»والذي يحتاج إلى مبادرة في حجم الخروج الأمريكي من فيتنام والإقبال الأمريكي على الصين،أو في حجم الخروج الفرنسي من الجزائر.
فإسرائيل ذات الاقتصاد المفتعل الذي يعتمد أساسا على المساعدات الأجنبية تقيم أوثق العلاقات الاقتصادية مع دول إفريقية عديدة،بل هي تقيم أوثق العلاقات مع دول إسلامية كتركيا وأندونيسيا.
وإسرائيل التي يعتمد تسليحها على الولايات المتحدة لدرجة أن الجسر الجوّي عام 1973 هو الذي أنقذها من الهزيمة الكاملة هي نفسها التي تنتج الطائرات الحربية،ويقال القنبلة الذرية،وتتاجر في السلاح،وتبعث بخبرائها العسكريين لتدريب الأفارقة.
هذه العلاقات الوطيدة من شأنها تطويع الرأي العام الدولي للقبول بإسرائيل،لا كوجود فقط،بل كاستمرار توسعي.وهنا الخطورة.
إن الرأي العام في الغرب،وحتى في العالم الثالث،لا ينتبه إلى حقوق تاريخية.وحين تقع حرب مع العرب،فهو لا يبحث في أصل المشكلة بل إلى انعكاساتها على مصالحه الاقتصادية والأمنية.
لذلك لا يفهم مشكلة الفلسطينيين إلا على أساس كونها مسألة إنسانية لبضعة آلاف من اللاجئين.
من هنا،فإن ما يسمى بالرأي العام العالمي قد وقف منذ 1948 إلى جانب إقامة دولة يهودية في فلسطين،ثم ترجم تأييده لهذه الدولة بالدعم المادي والمعنوي المتصل لحمايتها وجودا وكيانا،وبالطبع كان هذا الموقف المستمر يعادي ضمنيا الطموحات العربية لاسترداد فلسطين أو قبول التقسيم إو إقامة دولة فلسطينية في غزة والضفة الغربية.
وإذن؟
يمثل سؤال الدعم الغربي لإسرائيل إذا،قضيةً حيويةً للنقاش،كون هذا الدعم شكّل عاملاً رئيساً في نشأة دولة الاحتلال وبقائها.وإلى اليوم.
لا تزال دولة الاحتلال ترتبط بشبكة علاقات استراتيجية بالغرب تمثل الفضاء الطبيعي الذي تحتاجه أي دولة للبقاء،ورغم وجود مساحات اختلاف بين حكومة الاحتلال والحكومات الغربية،مثل قضية الاستيطان وحل الدولتين وانتهاك القوانين الدولية،إلا أن الغرب لا يضحي بانحيازه الاستراتيجي لدولة الاحتلال بسبب هذه الاختلافات.
“السر”..من وراء الدعم الغربي لإسرائيل
هناك سبب تحظى به إسرائيل لم تحظ به الشعوب الأخرى التي نالها الأذى على أيدي الغربيين،وهو أن إسرائيل امتداد طبيعي للمشروع الاستعماري الغربي،فهي ولدت من رحم الاحتلال البريطاني لفلسطين،وقبل بريطانيا كان إنشاؤها حلماً في مخيلة القائد الفرنسي نابليون بونابرت.وإسرائيل هي الجسم الغريب الذي يشق الوطن العربي،ويبقي موطئ قدم للمنظومة الغربية في بلاد المشرق،ويثير القلاقل ويشغل العرب عن التوحد في مشروع أممي يقوي شوكتهم ويمكّنهم من منافسة الغرب والتفوق عليه.لذلك، فإن دعم الغرب لإسرائيل هو دعم الأب لابنه،وهذا ما يفسر تغاضي الغرب عن جرائم إسرائيل وعصيانها،فالوحدة العضوية تغفر الخلافات.
تتجلى الوحدة العضوية بين إسرائيل والغرب في تشابه المنظومة القيمية بينهما،في قضايا نظام الحكم السياسي والاقتصاد والليبرالية والحريات والمرأة والأسرة،وهو ما يخلق تجانساً شعورياً بين المواطن الغربي ونظيره الإسرائيلي في الوقت الذي يسود فيه نمط ثقافي مختلف في الشعوب العربية.
ولكن..
الغرب غربان،فهناك الغرب الرأسمالي الذي يهتم بمصالحه الاقتصادية ويمثل امتداداً للحقبة الاستعمارية التي استعبدت الشعوب ونهبت ثرواتها،هذا الغرب متصالح نفسياً مع المشروع الاحتلالي الاستيطاني لإسرائيل،ولن يضعف انحيازه لدولة الاحتلال في ظل الحالة العربية الراهنة،لكن إذا شهد الوطن العربي إصلاحاً سياسياً ونهضةً اقتصاديةً،وبدأت الشعوب العربية طريقها نحو الاستقلال والإنتاج،فستتكون علاقات جديدة تعزز المسافة الفاصلة بين مصالح هذا الغرب ومصالح دولة الاحتلال،زكون العرب صارت لديهم أوراق قوة يستطيعون استعمالها لكسب المواقف الغربية لصالحهم.
وهناك غرب المجتمع المدني الذي يهتم بالقيم والحريات وحقوق الإنسان،وتخرج منه مجموعات المناصرة للحقوق وتنشط فيه حركة المقاطعة الدولية..
هذا المجتمع المدني في الغرب إذا قوي أنتج سياسات منصفةً وعادلةً ومنحازةً إلى الحقوق المبدئية،وشكل عامل ضغط على المواقف الرسمية للانحياز إلى المبادئ وإدانة الأفعال اللا
أخلاقية.وقد رأينا مثال هذه المواقف في مؤتمر حزب العمال البريطاني،والمواقف القوية في الانحياز إلى حقوق الشعب الفلسطيني وإدانة الاحتلال الإسرائيلي
أردت القول إن حماية المشروع الصهيوني في إقامة دولة يهودية وضمان بقائها أمر لا يهم غرب أوروبا والولايات المتحدة وحدهما،بل هو شأن دولي يرى من وجهات نظر مختلفة أن هناك قومية يهودية تهددت بالدمار الشامل أكثر من مرّة،أقربها الحرب العالمية الثانية وأبرزها المحرقة الشهيرة التي أصبحت الاعتراف فيها معيارا لموالاة إسرائيل أو معاداتها،وأنّ الدولة العبرية وحدها هي الضمان الممكن للشعب اليهودي ضد الانقراض.
وهذا أساس ثابت في التفكير الغربي والأمريكي بوجه خاص لا سبيل لتجاهله أو تجاوزه في طريق البحث عن حل..
والحل،هو إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة في ظل سلام شامل ودائم في المنطقة كلها،وإلا فإن حربا جديدة مقبلة لا ريب،بل إن حروبا مقبلة لا ريب،فحين لا يكون هناك سلام حقيقي لا يعود لحالة اللاسلم واللاحرب إلا هامش ضيق سرعان ما ينفجر في ميدان القتال اللانهائي. ولكنالغربيعتقد مخلصا أن العرب والفلسطينيين خطوا خطوات عملية عديدة خلال السنوات الأخيرة لإقامة السلام الدائم،ومازاليعتقدأن بإمكانهم أن يقدموا المزيد لعملية السلام المتعثرة الآن..!
على سبيل الخاتمة :
إن مصلحتنا تقتضي تعزيز الخطاب الحقوقي بدل الخطاب الأيديولوجي،وهو الخطاب الذي يركز على جوانب العدالة وحقوق الإنسان،ويظهر الممارسات العنصرية والاحتلالية ذات الجوهر الإجرامي لدولة الاحتلال.فنحن لا نعادي إسرائيل لأنها تؤوي اليهود المضطهدين ولا بسبب مساهماتها الحضارية،إنما نعادي احتلالها واستيطانها،وممارساتها العنصرية الغاشمة التي تناقض منظومة القيم الأخلاقية.
إن البرهنة المستمرة على انتهاكات الاحتلال للقيم الإنسانية وعلى ممارسته التمييز العنصري،هو الذي يسمح بنمو التيارات المناصرة لحقوقنا الفلسطينية،ويضعف من وضوح صورة الدولة المتقدمة العصرية التي تسوقها دولة الاحتلال لنفسها،ويسمح بنمو حركة المقاطعة ونزع الشرعية ويقوي حجة الآمرين بالقسط من الناس.