اخبار السودان

كسرتها.. صلّحها! .. حزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي السوداني (2)

محمد عبد الخالق بكري

نبهنى صديق أنني لم أذكر حزب الأمة والاتحاديين بالأسم في مقدمتي عن الدعوة لتكوين النواة الصلبة لترتيبات مؤسسية جديدة واكتفيت بذكر المؤتمر الشعبي والشيوعيين والقوميين العرب والليبراليين. رددت عليه بأني أعتبر الحزبين التليدين، الأمة والاتحادي، ليبراليين. وقد سميتهما بهذا الاسم لانهم اول من مارس ديمقراطية (Westminster System) في البلاد .

اضف الى ذلك انني دعوت لضم أقسام من المؤتمر الوطني لهذه النواة فمن باب اولى إن دعوتي تشمل الجميع بما في ذلك الأحزاب الجديدة التي ظهرت منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. المهم لدي هو الترتيبات المؤسسية الجديدة التي سيتم التوصل إليها. لنبدأ بالصعب كيف يمكن أن يجتمع حزب المؤتمر الشعبي جناح د. على الحاج (قسم من الاسلاميين) والحزب الشيوعي في تحالف او على الأقل اعلان ميثاق. في نظري يجمع بين الحزبين الكثير الإيجابي.

رغم أنهما ينتميان الى مدرستين لم يلتقيا من قبل في اي تحالف الا بصورة خاطفة فرضتها عليهما ظروف انتفاضة أكتوبر 1964 وسرعان ما أنهار التحالف بينهما وتحولت العلاقة الى عداء لدود ومرير وصل الى حد محاولة محق الوجود. ظلت تلك المدرستان في السياسة السودانية على حرب فكرية طوال العقود الماضية. ولكن هنالك أمل في الالتقاء أخيرا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من وطن، إذا انتبهنا للخطر الماحق الذي بينته شهادات كتابنا في الحلقة الماضية. ولكن قبل أن أطرح هذا الأمل، أود أن اؤكد على مقولتين: اولا، يجب التفرقة بين المؤسسات والمنظمات. المؤسسة هي قواعد اللعبة وقوانينها، بينما المنظمات هي اللاعبين في إطار هذه القواعد والقوانين (بما في ذلك الأحزاب).

لكن في نفس الوقت المنظمات هي التي تبدأ بل تدفع الى التغيير المؤسسي، اي تحاول وقد تنجح في تغيير قواعد وقوانين اللعبة لتأتي بمؤسسة جديدة ذات قواعد وقوانين تختلف عن المنظمة الآفلة. تفعل الأحزاب ذلك من خلال استثمار لتجاربها، بما ذلك الفشل والنجاح، ومعرفتها و قدراتها ونفوذها الأخلاقي. ثانيا، في التعاون المؤسسي هناك مفهوم في غاية الأهمية وهو ما يطلق عليه تلاميذ دراسة المؤسسة ب (Credible Commitment) وتعني، مع خوفي من خيانة الترجمة، (الإلتزام الجدير بالثقة). ولهذا الإلتزام مقاييس للوثوق منه. الإلتزام يكون جدير بالثقة في حالتين: (Motivationally Credible) اي جدير بالثقة لان الدافع او الحافز ذاتي للتحرك والتصرف بطريقة ما دون غيرها. وقد يكون الإلتزام الجدير بالثقة (Imperative) بمعنى إجباري، إلزامي، قهري، لا يمكن تجنبه. وفي بعض المؤسسات يجتمع المعيارين للإلتزام الجدير بالثقة في مؤسسة واحدة.

يمكن أن يجتمع المعيارين، كما ذكرت في حلقة سابقة حول استحالة تفكير جنرال أمريكي بالقيام بانقلاب عسكري في الولايات المتحدة الامريكية أو المملكة المتحدة. والآن لنعود الى مناقشة حالة حزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي السوداني كلبنة اتصورها في بناء وحدة حقيقية وجديرة بالثقة بين القوى المدنية تلك الوحدة التي ينادي بها الجميع و كخطوة نحو إبدأ حسن النية في التعاون المؤسسي. الحزبان قطعة من نسيج المؤسسة القديمة ويبدو انهما قد تعافيا من داء عضال أصاب المؤسسة وهو السباق الطقوسي نحو السلطة عن طريق الإنقلاب (إن لم نفعلها سيفعلها غيرنا!).

توصل الحزبان عن طريق الخطأ والصواب والخبرة التاريخية إلى (دعهم يفعلونها.. يأكلون الحصرم والحلفاء يضرسون!). يجب أن نتذكر هنا تعريف المؤسسة الطقوسية حينما نطبقه على المؤسسة السودانية الراهنة في ملمح بارز من ملامحها: هي سباق طقوسي نحو التفرقة في السلطة والمكانة، وبالتالي الثروة غض النظر بما ستفعله بهذه الثروة، وهذا السباق أداته الانقلاب العسكري.

يترتب عليه محاولة المنتصر انقلابيا أن يجعل من مجتمع بالغ التعقيد والتنوع مجتمعا بالغ التسطح والاستواء ويزج به في رؤية بالغة التبسيط والأحادية، ومن هنا تأتي مشاكل الحريات والمواطنة والهويات الثقافية. ثم بعد ذلك كله ينشطر الانقلابيون المنتصرون الى مراكز في هيكل السلطة ليبدأ سباق جديد يتم فيه ابعاد الحلفاء السابقين بل قتلهم احيانا .. وهكذا. [يجب التنبيه هنا إن هذا فقط الملمح المركزي في المؤسسة السودانية فيما يتعلق بالسباق الطقوسي نحو السلطة والمكانة، فهناك ملامح أخرى لتحقيق نفس النتيجة]. السؤال الآن: لماذا ارشح تلك المدرستين، حزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي، لإجتراح هذا المستحيل كلبنة او مدماك في توحيد القوى المدنية؟ إجابتي كالآتي: 1 التجربة الثرة للتيارين وتقلبهما في منعطفات السياسية السودانية منذ اتفاقية الحكم الذاتي حيث كان الاستاذ عبد الخالق محجوب والدكتور حسن عبد الله الترابي من أنجب تلاميذ المؤسسة السودانية الطقوسية والأسرع في السباق نحو السلطة. وقد أنجزا ما انجزا وخربا ما خربا، لخير او لشر. ورث الدكتور على الحاج وحزبه والاستاذ محمد مختار الخطيب وحزبه عبء الماضي الكسير ويقع اليوم عليهما قبل غيرهم عبء أخلاقي لإصلاح ما كُسر. 2 القناعة الصادقة والجديرة بالثقة التي عبرت عنها تلك المدرستان، الحزب الشيوعي السودان وحزب المؤتمر الشعبي، في رفض الإنقلاب العسكري جملة وتفصيلا. موقف الحزب الشيوعي ينعكس في حله لتنظيمه العسكري في الجيش وإعلاناته المتكررة في رفض التكتيك الانقلابي. ثم تحوله من مواقع الدعوة للديمقراطية الجديدة في مؤتمره الرابع عام 1967 الى مواقع الديمقراطية الليبرالية بعد انتفاضة ابريل 1985 دون الرجوع الى مؤتمر. بل أكد ذلك فيما بعد في مؤتمريه الخامس والسادس مع التشديد على رفض الإنقلاب العسكري. أما عن موقف حزب المؤتمر الشعبي فهو موثّق حسب علمي منذ 2001، وللإختصار أدعو القارئ الكريم لمراجعة حوار نشر مؤخرا مع د. علي الحاج محمد عبّر فيه عن رفض حزبه للحلول العسكرية بما في ذلك الانقلابات العسكرية. وطرح في نفس اللقاء آراء عن استعمال القوة كسبيل للحكم او التغير. بل تحدث د. علي الحاج عن سبب الانقسام الأخير في حزبه حيث وصف المجموعة المنقسمة بانها “تدعو للإنقلابات، اي انهم اصبحوا سلطويين وهذا شيء مؤسف.” (9 مارس 2024، موقع SBC). 3 الوقوف الصلب غير المتردد ضد انقلاب 25 أكتوبر 2021 منذ يومه الأول كتعبير عن هذا الرفض. بالنسبة للمؤتمر الشعبي تعكسها تصريحات الاستاذ كمال عمر، حين شغل منصب الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي ضد انقلاب 25 أكتوبر ونفي توحدهم مع المؤتمر الوطني (14 أبريل 2022، الراكوبة). أما عن موقف الحزب الشيوعي انظر فقط الى (بيان سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، 2 نوفمبر 2021، المصدر: الأهالي). 4 حزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي لهما مواقف واضحة في المناداة ببسط الحريات في أحلك الظروف ووقف قتل المدنيين في حالة التظاهر والخروج الى الشارع. حين صدر قرار الحكومة، بعد قتل العديد من الشهداء، بمنع التظاهر في وسط الخرطوم في يناير 2022، كرست صحيفة الميدان الناطقة باسم الحزب الشيوعي كُتابها وصفحاتها لاستنكار وإدانة القرار.

أما المؤتمر الشعبي فقد رفض قرار حظر التظاهر في وسط الخرطوم، وقال كمال عمر، الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي آنذاك، بعد أن عبر عن رفض حزبه للقرار أن :”الحكومة [الحالية] سلكت طريق البشير.” (31 يناير 2022، سودانايل). 5 في نهاية الأمر اتفق المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي في الوقوف ضد اتفاق جوبا. رحب حزب المؤتمر الشعبي باتفاق جوبا في باديء الأمر لحقن الدماء مع تحفظات أبداها حول الإتفاق، ولكن في ديسمبر 2020 صحح حزب المؤتمر الشعبي موقفه وانتقد سلام جوبا على لسان كمال عمر، الأمين السياسي للحزب أنذاك، مبينا أن كل غرض المكون العسكري من سلام جوبا هو تكوين حاضنة سياسية بدلا عن الحرية والتغيير. وأن الحركات الكبرى لا تزال تحمل السلاح وقال الأستاذ كمال عمر هذا سلام جزئي لم يحمل سلام او حرية. قبل شهرين من ذلك أصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي في أكتوبر 2020 بيان قال فيه إن اتفاقية سلام جوبا بصورتها الراهنة لن تحقق السلام المنشود وتعتبر مهدد حقيقي لوحدة ومستقبل السودان.انتبه الحزبان قبل العديد من الأحزاب والتحالفات الى أن إتفاقية سلام جوبا مسرحية طقوسية لن تضع حدا لقضية الحرب والسلام في السودان.

بل كانت التحضير لتحالف في صالح النظام القديم. اتفق الحزبان على ذلك ربما بحكم الخبرة وتراكم الرؤى لديهم فيما يتعلق بالحرب والسلام في السودان. 6 الزهد في المشاركة في أي محاصصة بل رفضها جملة وتفصيلا. موقف الحزب الشيوعي معروف بعد خروجه بل دعوته لاسقاط الحكومة الانتقالية في ديسمبر 2021. لننظر الى موقف حزب المؤتمر الشعبي من ذلك: في الحقيقة أعلن المؤتمر الشعبي في 26 أبريل 2019 على لسان الأمين السياسي آنذاك، د. ادريس سليمان، ان حزبه لن يشارك في الحكومة الانتقالية، بل يرى ضرورة عدم مشاركة الأحزاب في حكومة انتقالية. فيما بعد، أعلن كمال عمر القيادي بحزب المؤتمر الشعبي عدم مشاركة حزبه في الحكومة الانتقالية المرتقبة، وقال ل(الجريدة) إن قرار عدم مشاركة حزبه في كل المناصب السيادية والوزارية في الحكومة القادمة موقف اتخذه الشعبي في فترة سابقة.” (اخبار السودان 13 يناير 2023) 7 موقوف المؤتمر الشعبي الصلب ضد الحرب الآن رغم الانقسام الذي عانى منه في إنسلاخ مجموعة وانقسامها وتعبيرها عن دعم الحرب. وقد تركت هذه المجموعة لتذهب الى حال سبيلها لأن الحزب رفض الحرب والانقلاب كما عبر د. على الحاج في اللقاء المذكور أعلاه . (9 مارس 2024، موقع SBC). أما عن موقف الحزب الشيوعي ضد الحرب فإن صحيفة الميدان الناطقة باسمه تؤكد ذلك الوقوف الصارم ضد الحرب، رغم الآراء الجائرة التي تحاول زج وطمس اسمه في الوقوف ضد الحرب (ارجع اعداد الميدان بعد أبريل 2023 الى اليوم). هناك الكثير مما يدعو للحوار بين هذين الحزبين من أجل إيقاف الحرب. فإن نفوذهما كبير وضارب في طينة هذا الوطن ومجرد فتح الحوار بينهما، لحدة التناقض التاريخي بينهما، سيكون مصدر إلهام لتيارات ومدارس سياسية اخرى تمثل هذا او ذاك القسم من ابناء شعبنا.

بل فوق ذلك لي أمل سمح ايضا، بنفس المنطلق، في الإخوة البعثيين والقوميين العرب على اختلاف تياراتهم. فللآخرين مرارة في الحلق والروح من تجاربهم القطرية والقومية كما عجمت التجربة السودانية عودهم فيما يتعلق بمجتمعات بالغة التعقيد. أستميح عذرا القاريء الكريم في الاسترسال قليلا في وصف ما حدث للحزب الشيوعي السوداني وحزب المؤتمر الشعبي فيما يتعلق بالموقف من الانقلاب العسكري.

في ظني أن موقفهما يمكن فهمه على نحو ما بناء على النظرية الرياضية المعرف ب (Game theory) (نظرية الالعاب او اللعبة او المباراة)، وهي نظرية في الرياضيات التطبيقية تتلخص في توفير أدوات تحليل لمواقف يكون على الاطراف المنخرطين في الموقف او قل المأزق، اللاعبين، يكون عليهم اتخاذ مواقف في ظل استراتيجيات ومصالح متضاربة للوصول الى افضل الحلول المرغوبة. نجد أن شرط النجاح الأساسي لللاعبين في النهاية يتمثل في الوصول الى درجة من التعاون للخروج من المأزق. المأزق هنا في حالتنا هو انعدام التعاون المؤسسي. والادأة للخروج هي الخبرة باللعبة والتوصل عن طريق الصواب والخطأ والإخفاق والخسارة إلى أنه لا مناص من التعاون المؤسسي للخروج من هذا المأزق لفائدة الجميع وقبل ذلك للفائدة الذاتية لللاعب نفسه. في نهاية الأمر، المؤسسات الجديدة لا تبزغ الا تحت مظلة نفوذ اخلاقي كاسح ينبع من أطراف عدة. هذه الاطراف قد تكون مختلفة لكن لها جذور ضاربة في طينة السودان. ورغم أن لحزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي نفوذ اخلاقي واسع على أقسام كبيرة من المجتمعات السودانية، إلا أن توحد الحزبين في إعلان ميثاق ضد الحرب والانقلاب العسكري والتوافق على ترتيبات مؤسسية جديدة ليس كافيا ولن يوصلنا الى حد ما اسميته بالأغلبية الغالبة في المقالات الخمس السابقة. ولكن اللقاء بينهما قد يكون مدماك ضروري لبناء نواة صلبة ينطلق عن طريقها تحالف أكثر إتساعا يجتذب تيارات اخرى قد تكون الأغلبية الغالبة في وحدة القوى المدنية.

كما إنني لا أغفل ملامح أخرى للطقوسية لا تزال تعشش في ممارسة حزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي. وقد أفردت حلقة كاملة عن الحزب الشيوعي وملامح الطقوسية في ممارسته الحالية (تخليص السودان من براثن حرب لا تُبقي ولا تذر.. القضاء على المؤسسة السودانية الطقوسية واجتراح ترتيبات مؤسسية جديدة أو الانهيار(3)، مداميك، 7 نوفمبر 2024) ولكن ماذا عن تقدم؟ تقدم حبابها عشرة! ولها مقعد وثير في أي ترتيبات مؤسسية جديدة، بل هي على استعداد لا مراء فيه للإنخراط في ترتيبات مؤسسية حقوقية جديدة. لكن على تقدم أن تأخذ مأخذ الجد الانتقادات الموجهة اليها، وهنا لا أقصد إنتقادات اعدائها والتي معروف مصدرها، بل انتقادات أصدقائها وحلفائها. وفوق ذلك على تقدم التخلص من السلوك والممارسة الطقوسية، وهذا هو موضوع الحلقة القادمة والأخيرة من هذه الكتاب

مداميك

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *