اخبار السودان

“المتقاعد” بيل كلينتون… يتذكر الرئاسة وينسى مونيكا

في عمر مبكر لم يزد على الـ46 سنة، دخل ويليام بيل كلينتون البيت الأبيض، ليحتل رقم 42 في سلسلة رؤساء البلاد. كان ذلك في عام 1992، قبل أن يقدر له تالياً أن يبقى هناك لنحو ثمانية أعوام، ليغادر عام 2001 في عمر الـ55 سنة وهي سن مبكرة، ليجد نفسه يحمل لقب الرئيس السابق. في البيت الأبيض ستدور معارك عديدة داخلية وخارجية، وخلال تلك الأعوام سيتعرض للمحاكمة وربما العزل من منصبه، غير أن حرص الكونغرس على مقام الرئاسة ومكانته، ربما هو من أوجد صورة تلفزيونية لاعتذاره عن سلوك غير لائق.

نجح بيل كلينتون في تحقيق وفرة اقتصادية متميزة للأميركيين، وترك خزانة البلاد متخمة بالاحتياطات المالية، قبل أن يبددها خلفه جورج بوش الأب في حروب عبثية، ولهذا يتذكره الأميركيون بأنه من أفضل الرؤساء الذين حققت أميركا في عهدهم رواجاً مالياً، ولا ينسوا أنه دخل البيت الأبيض بشعار “إنه الاقتصاد يا غبي”.

ولعله من الطبيعي أن يصدر كلينتون غداة مغادرته البيت الأبيض مذكراته الشخصية، ليحكي فيها للعالم عن صولاته وجولاته، على صعيد السياسة وأشياء أخرى. غير أن المثير أن يصدر كلينتون وبعد قرابة ربع قرن من مغادرته الرئاسة كتاباً جديداً عن حياته خارج البيت الأبيض، إذ يمارس مواطنته مثل أي أميركي، هذا إن خلينا جانباً الامتيازات التي يوفرها له منصبه السابق من حماية ورعاية، ذلك أنه لا يزال مؤتمناً على كثير وخطر من أسرار الدولة الإمبراطورية الكبرى حول العالم.

ماذا عن هذا الكتاب الذي صدر في الـ19 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، وهو تاريخ يتسم بشيء من الذكاء، ذلك أنه انتظر حتى هدأت ولو موقتاً أزمات الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وفي فترة الكريسماس وأعياد رأس السنة، إذ يصلح مؤلفه هذا لأن يكون واحدة من الهدايا الفكرية المتبادلة بين الأميركيين؟

كلينتون… حياة خارج البيت الأبيض

هل هي صعبة الحياة خارج أسوار البيت الأبيض لا سيما بالنسبة إلى الرؤساء الذين ألفوا حياة الشهرة وتسليط الأضواء؟ يجيب علماء النفس، أن الأمر يعتمد على المرحلة التالية، وهل سيمضيها تارك بيت الرئاسة متحسراً على ما كان فيه، أم أنه في بلد ديمقراطي تظل المواطنة سابقة على أي منصب؟ بل هي المنصب الذي لا يمكن لأحد أن ينزعه منك، ومن هذا المنطلق يمكنك أن تفعل كثيراً جداً، خدمة لأهليك وذويك، لجيرانك وأصدقائك، لفعل الخير للمحتاجين والمتألمين، ومن غير أن تغفل في الوقت عينه أن تقدم خبراتك الشخصية ومؤلفاتك الذاتية التي يمكنها بدورها أن تدر عليك بضعة ملايين من الدولارات كل عام.

حين غادر كلينتون البيت الأبيض لم يكن في واقع الحال قد أكمل الـ55 سنة، إذ تبقت له سطور ليصلها، مليئاً بالطاقة والحماس، متوقد الذهن، وعلاقاته الخارجية جيدة بصورة كبيرة مع زعماء العالم كافة، لا سيما مع نظيره الروسي بوريس يلتسين، فيما الصين لم تكن قد طفت بقوة على سطح الأحداث.

بدا كلينتون راغباً في الاستفادة بصورة مفيدة من مهاراته وعلاقاته مع زعماء العالم وكل ما تعلمه في حياته السياسية… غير أن السؤال كان كيف؟ من المؤكد أن التكوين الفكري والعلمي، الثقافي والمجتمعي، المتمثل في دراسته بكالوريوس العلوم في جامعة جورج تاون الأميركية الشهيرة، ثم تخرجه بدرجة الدكتوراه في القانون في جامعة ييل المماثلة لها، مكناه من فهم ما المطلوب منه ليرتقي معارج الشهرة “كسامري صالح”، في مجتمع يحب بدرجة كبيرة فعل الخير ويعد الأمر بمثابة تكريم له.

بعد أيام قليلة من مغادرته البيت الأبيض جاءت الدعوة له لمساعدة ضحايا زلزال مدمر في الهند، وبدأ كلينتون العمل على الفور. وعلى مدى العقدين التاليين، خلق كلينتون إرثاً دائماً من الخدمة العامة والعمل الدعائي، من إندونيسيا إلى لويزيانا، ومن إيرلندا الشمالية إلى جنوب أفريقيا، وفي هذه العملية أعاد تصور العمل الخيري، وأعاد التعريف الذي قد يحدثه رئيس سابق على العالم.

ما الذي يقدمه لنا كلينتون في صفحات كتابه الجديد؟

يمكن القطع أننا أمام “كرونولوجيا” (علم حساب الزمن)، لأهم أحداث القرن الـ21، خصوصاً أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، والفترة التي سبقت غزو أفغانستان والعراق، ثم زلزال هايتي. ولأنه رجل اقتصاد بالدرجة الأولى، لذا فإنه يتوقف أمام أزمة الركود العظيم، أو الأزمة المالية التي ضربت البلاد في 2008 بكثير من التفاصيل، ومن هناك يمضي عبر مسيرة طويلة وصولاً إلى أحدث نوازل أميركا المتمثلة في تفشي فيروس كورونا وما أوقعه من خسائر فادحة هناك، ولا ينسى مشاغبة أوضاع الحروب الثقافية المستمرة في حاضرات أيامنا.

والثابت أنه إذا كان الكتاب يقدم لنا كلينتون كرئيس، إلا أنه لا يغفل أن يظهره كزوج يساند زوجته في ترشحها لمجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك، ثم وزيرة للخارجية في زمن باراك أوباما، ثم المعركة الرئاسية التي خاضتها عام 2016 على أمل الوصول إلى منصب الرئاسة، ومدى الإحباط الذي ساد أسرته بعد هزيمتها أمام الآتي من خارج المؤسسة السياسية الأميركية، دونالد جون ترمب، وهو بالضبط الإحساس نفسه الذي غمر آل بوش بعد أن مني جورج بوش الأب بهزيمة نكراء على يد السيناتور الأميركي بوب دول حاكم أركنساس في تصويت الحزب الجمهوري عام 1992.

المواطنة سبيل لتقاسم الإنسانية المشتركة

هل من نقطة جوهرية بعينها يتمحور حولها كتاب كلينتون؟ الشاهد أننا لا نغالي إن قلنا إن فكرة المواطنة هي التي تمتلك زمام عقله وقلبه، وعنده أن المواطنين في بلاده يتقاسمون إنسانية مشتركة للعيش في الحاضر، وللتجهز لدخول المستقبل، وهي رؤية تتجاوز فكر الطبقية أو الداروينية الاجتماعية.

يقول كلينتون عن دوره كمواطن بعد ترك منصب الرئاسة، “تساءلت بيني وبين نفسي عما سأفعله في صباح الـ22 من يناير (كانون الثاني) 2001، وبعد أن أكون تخففت من كل أحمال المسؤولية ما الذي سأفعله في بقية حياتي؟”.

في تأمله للعقود التي مرت منذ ترك منصبه يقول كلينتون البالغ من العمر اليوم 78 سنة مازحاً إنه في البداية “شعرت بالضياع كلما دخل غرفة لأن أحداً لم يعزف أغنية لمناسبة وصولي”، ولكن في الواقع، وبحسب تصريحاته لمجلة “بيبول”، فإن التغيير موضع ترحيب، لأنه سمح له بتحويل انتباهه نحو ما هو أكثر أهمية، أي العنصر البشري.

من هنا يعترف، “لقد قررت أن هذه هي الطريقة التي سأفكر بها طوال الوقت. ماذا يمكنني أن أفعل اليوم؟ كيف يمكنني دفع القانون إلى الأمام في شيء أهتم به؟”، هذا ما قاله عن المبدأ الذي أملى عليه حياته منذ ذلك الحين.

يتناول كتاب المواطن قصص الأشخاص الذين التقى معهم كلينتون على طول الطريق، من معلميه السابقين إلى الفنانين الهايتيين، إلى زملائه من الشخصيات العامة. ويرى أن الطبيعة البشرية تكرر نفسها عبر القرون والألفية، ومشيراً إلى “أننا نحصل فقط على ألعاب جديدة لامعة للقيام بما كنا مستعدين للقيام به قبل الموت”.

لا ينفك كلينتون في مؤلفه هذا يطرح عديداً من الأسئلة التي تواجه أصحاب المسؤوليات الكبيرة لدى مغادرتهم مقاعد المسؤولية، “هل تصبح حال الناس أفضل عندما يتوقفون عن العمل مقارنة بحالهم عندما يبدأون؟ هل يتمتع أطفالنا بمستقبل أكثر إشراقاً؟ هل نتقارب معهم بدلاً من الانهيار؟”.

إن صفحات هذا المؤلف هي تقريب للصورة إن جاز التعبير. صورة كلينتون المواطن حين يروي إلى حد كبير من خلال القصص، سيرة أشخاص آخرين غيروا حياته، عندما حاول مساعدتهم على تغيير حياتهم، عطفاً على أولئك الذين دعموه في مسيرته المهنية الطويلة، بما في ذلك الذين أحبهم وفقدهم، ولا يهمل الحديث عن الأخطاء التي ارتكبها في مسيرته هذه.

على أنه وإن كانت هناك محطات رئيسة مر بها كلينتون منذ أن ترك البيت الأبيض، إلا أن مسيرته مع الأعمال الخيرية هي التي ربما أعادت النظر إليه من جانب ملايين الأميركيين، لكن بنظرة تصحيحية مغايرة لصورة الرئيس المنفلت أخلاقياً في أعوام البيت الأبيض الثمانية… ماذا عن هذا؟

الأعمال الخيرية… طريق مواطنة رئيس

هل كانت الأعمال الخيرية هي الطريق الذي استنقذ بيل كلينتون من فترة ما بعد “خفوت الأضواء”، التي كان لها أن تتسبب في أذى نفسي بالغ له؟ “العمل الخيري هو الذي سمح لي بإحداث تغيير في العالم لمساعدة الآخرين”، هكذا يقر ويعترف، وفي مقابلة له مع وكالة “أسوشييتد برس”، يضيف كلينتون “لقد استمتعت كثيراً بهذه الخطوة، وأنا مسرور أيضاً لأن كثيراً من الناس إذا ما ذهبت وقدمت حجة منطقية لفعل شيء ما، سيوافقون على ذلك حتى ولو لم يكن ذلك في مصلحتهم المالية المباشرة”.

أدى هذا الأسلوب إلى إنشاء سوق لمصنعي الأدوية الجنسية لعلاجات فيروس نقص المناعة البشرية (الأيدز)، مما أدى إلى خفض أسعار الأدوية بما يكفي لجعلها متاحة للدول في مختلف أنحاء العالم. والواقع أن الأسعار المخفضة، التي يُتفاوض عليها الآن مع مصنعي الأدوية، من خلال ما أصبح يعرف بمبادرة كلينتون لتوفير الرعاية الصحية، تساعد في توفير علاجات فيروس نقص المناعة البشرية لنحو مليون طفل في مختلف أنحاء العالم، كما أنقذت أرواح عشرات الملايين من البشر.

إنها واحدة من عديد من النجاحات التي تمكنت مؤسسة بيل كلينتون وحملاتها العديدة، بما في ذلك مبادرة كلينتون العالمية التي تجمع القادة السياسيين ورجال الأعمال والخيرين في نيويورك كل عام خلال أسبوع الجمعية العامة للأمم المتحدة، من تحقيقها خلال العقدين الماضيين، والتي يكتب عنها كلينتون في كتابه “المواطن”.

عملت مؤسسة كلينتون الخيرية مع الحكومة الأسترالية لتحقيق عديد من الأهداف الصحية حول العالم، كما تحاول مبادرة كلينتون العالمية (سي جيه أي) التي بدأتها مؤسسته في عام 2005 معالجة مشكلات العالم مثل الصحة العامة العالمية وتخفيف حدة الفقر والصراع الديني والعرقي. وخلال العام نفسه أعلن كلينتون من خلال مؤسسته عن اتفاق مع الشركات المصنعة لوقف بيع المشروبات السكرية في المدارس.

وانضمت مؤسسة كلينتون إلى مجموعة قيادة المناخ في المدن الكبرى في عام 2006 لتحسين التعاون بين تلك المدن، كما التقى مع زعماء أجانب للترويج لهذه المبادرة. وتلقت المؤسسة عديداً من التبرعات من عديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك آسيا والشرق الأوسط.

وخلال عام 2008 أعلن مدير المؤسسة إندر سينغ عن صفقات لخفض أسعار أدوية مكافحة الملاريا 30 في المئة في الدول النامية، كما تحدث كلينتون لمصلحة اقتراح ولاية كاليفورنيا رقم 87 في شأن الطاقة البديلة، الذي صُوت عليه بالرفض.

يكتب كلينتون عبر صفحات المواطن يقول، “بمجرد أن بدأت أفكر في خوض الحياة السياسية، أدركت أنني لا أريد أن أُقاس من خلال ألقاب وظيفية، ولكن ماذا فعلت؟”. يجيب الرئيس الـ42 في تاريخ رؤساء أميركا بالقول “تعلمت لاحقاً أن أقيس كل من عملنا الخيري والسياسي من خلال إجابة صارمة وصادقة على سؤال (ما الخيارات في ذلك الوقت؟). لا يحظى الجميع بفرصة أن يكونوا مثل فرانكلين روزفلت، خلال فترة الكساد، كما لا يحظى الجميع بأن يكونوا مثل أبراهام لنكولن المنتخب عشية معركة فورت سمتر، لكن لكل شخص وقته وأشخاص يعيشون في ذلك الوقت لخدمة كل من لديهم قصصهم وآمالهم وأحلامهم ومخاوفهم. وهناك دائماً قوى لها أفكار مختلفة، وتسجل النتائج بطرق مختلفة، عليك أن تفكر في كل ذلك ولا تصبح مهووساً بكيفية أدائك في ذلك الوقت، ولكن ما إذا كنت تفعل ما تعتقد أنه يجب عليك القيام به”.

إضافة إلى ملايين الدولارات التي أسهمت مبادرة كلينتون العالمية في تنظيمها على مر السنين، فقد ساعدت في جمع 139 مليون دولار لصندوق بوش كلينتون لضحايا إعصار كاترينا وملايين أخرى لصندوق بوش كلينتون لضحايا تسونامي في هيوستن، ونداء أميركا الواحدة لضحايا الأعاصير في عام 2017.

ماذا يعني أن تكون قادراً على حشد هذا القدر من التمويل؟ هكذا وجهت وكالة “أسوشييتد برس” الأميركية التساؤل لكلينتون، وضمن الجواب صفحات كتابه، وجاء فيه “هذا يعني كثير بالنسبة إليَّ، وأحاول أن أحترمه من خلال أن أكون شفافاً 100 في المئة”. ويضيف، “على سبيل المثال، كنت أعلم في مرحلة ما من الجهود التي بذلناها في هايتي على مر السنين أنني سأتعرض للانتقاد، وربما حتى للتظاهرات ضدي، لذا احتفظنا بسجلات دقيقة وجعلناها مفتوحة. عندما يثق بك الناس في ما يتعلق بالأموال، لا يمكنك ضمان النجاح، ولكن يمكنك ضمان نزاهة العملية والطاقة الكامنة وراء الجهود، وأنا أعلم أنه في العالم الذي نعيش فيه، لا يمكنك أن تكون محمياً من الحملات المزيفة لأن كل شيء يدور حول السياسة بالنسبة إلى بعض الناس هذه الأيام ولكن لا يمكنك الاستسلام.

على أن القارئ يتساءل وله 1000 حق… ماذا عن بقية الصفحات الصعبة في مسيرة كلينتون الحياتية؟ وهل جاء على سيرتها في مؤلفه الأحدث هذا، أم أنه قدم ذاته للقراء الذين يعرفون حاضره وماضيه؟”.

كلينتون… هيلاري ومونيكا وإبستين

يعرف القاصي والداني أن قضية المتدربة في البيت الأبيض، مونيكا لوينسكي، كانت بقعة ما، شوهت ثوب رئاسة كلينتون بصورة أو بأخرى، وأدت إلى توتر علاقته الأسرية بخاصة مع زوجته هيلاري المتوترة من الأصل، حتى ولو كانت الأخيرة هذه بدورها تحمل تاريخاً غير ناصع مع أحد محامي البيت الأبيض الذي قتل نفسه منتحراً.

في صفحات المواطن يعترف كلينتون بأنه لم يعتذر بصورة مباشرة إلى لوينسكي في شأن علاقة البيت الأبيض… هل يعني ذلك أن تلك الفتاة قد راحت ضحيته لاحقاً؟ كتب كلينتون عن “إحباطه” عندما سئل عن علاقته مع المتدربة السابقة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، لكنه اعترف في الوقت نفسه بتقصيره في حقها.

والمعروف أن كلينتون تورط في واحدة من كبرى الفضائح السياسية في التاريخ عندما ظهر في عام 1998 مقراً بأنه كان في علاقة لا تليق مع لوينسكي التي كانت تبلغ من العمر آنذاك نحو 22 سنة، وعلى رغم أن مجلس النواب وقتها أقر عزله، فإن رفض مجلس الشيوخ أنقذه.

على أن الجزء الذي لم يتعرض له كلينتون في كتابه في شأن مونيكا هو الجانب الخفي من الأمر، وهل كانت المسألة مجرد انتقام من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقتها؟ القصة باختصار هي أن كلينتون كان قد حاول بالفعل الضغط على نتنياهو، لإتمام صفقة سلام مع ياسر عرفات، عرفت وقتها باسم “كامب ديفيد2″، لكن نتنياهو كان مصراً على رفضها، ولهذا هدد كلينتون بأنه إذا مارس ضغوطاً أميركية على إسرائيل فإنه سيشعل له واشنطن، وهو ما جرت به المقادير بالفعل، وأشعلها من خلال إطلاق فضيحة لوينسكي، تلك التي جعلت من إدارة كلينتون الثانية بطة عرجاء إلى أن غادر البيت الأبيض.

لا يبدو أن كلينتون توقف كثيراً أمام تبعات أزمة مونيكا في حياته ما بعد الرئاسة، ذلك أنه لم يذكر ما سمعه سكان البيت الأبيض من شجار ما لبث أن تحول إلى معركة بالأيدي، تركت بعض الأثر على وجه كلينتون شخصياً، من جراء أظافر هيلاري التي أنشبتها في وجهه تارة، أو من جراء الأطباق المتطايرة التي ألقتها في وجهه تارة أخرى.

في هذه الفترة حاول كلينتون أن يغير انتباه الأميركيين، فأمر بشن هجمات صاروخية عدة على بغداد، تلك التي كانت في تلك الفترة تعيش زمن “النفط من أجل الغذاء”، وبعدها خرج على التلفزة الأميركية وهو يغادر البيت الأبيض ممسكاً بيد ابنته تشيلسي وزوجته هيلاري في صورة لم تنطل على ملايين الأميركيين.

على صفحات الكتاب عينه تقرأ بعض ملامح من حياته الأسرية، إذ يمكن للقارئ أن يتعرف إلى تفاصيل حفل زفاف تشيلسي وحيدة كلينتون وهيلاري، ذاك الذي تكلف قرابة 3 ملايين دولار في عام 2010، الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة النطاق، إذ كان كلينتون عاطفياً للغاية لدرجة أنه يكتب قائلاً “كنت أخشى أن أفقد أعصابي قبل تسليمها لزوجها”.

هل كان لمذكرات المواطن كلينتون أن يتجاهل أبعاد علاقته مع المليونير المنتحر جيفري إبستين، صاحب الفضائح الجنسية الخطرة مع القاصرات؟ توقف الرئيس السابق مع المشهد بعبارات موجزة تثير الشك بأكثر مما تفشي الطمأنينة، فيقول إنه دعاني إلى السفر في الفترة ما بين 2002 و2003، على متن طائرته الخاصة لدعم عمل مؤسسة كلينتون الخيرية.

ويضيف، “أنه في مقابل اصطحابي أنا وموظفي وفريق الخدمة السرية الذي كان يرافقني دوماً طلب إبستين مني فقط أن أخصص ساعة أو ساعتين في كل رحلة لمناقشة السياسة والاقتصاد. كان هذا هو مدى محادثتنا”.

غير أن كلينتون يثق في أن هناك كثيراً من الدخان حول تلك العلاقة، بل ربما الآن وبعد فوز الخصم الكبير للديمقراطيين دونالد ترمب، فإن الأخير وعد بفك حجب قصة إبستين والمتورطين فيها، ومن كان على علاقة بصغار الفتيات هناك، وهل كان مجرماً بدرجة عالية. كل هذه قضايا تزعج كلينتون ولهذا يختتم رؤيته عن العلاقة مع إبستين بالقول، “لم يكن السفر على متن طائرة إبستين يستحق سنوات من الاستجواب بعد ذلك. أتمنى لو لم أقابله أبداً”.

قواعد السياسة الـ12 لكلينتون

يقدم كلينتون عبر كتابه الجديد خلاصة عمله الطويل في مضمار السياسة الأميركية، طالباً ومتطوعاً وخريجاً وموظفاً يرتقي سلم المناصب السياسية.

يتوانى كثيراً في تقديم شهادات عن بعض من أهم النقاط التي شكلت مسيرته الحياتية، لا سيما علاقته بتلك المؤسسة شبه السرية التي يقال إنها هي من اختارته لقيادة أميركا، ونعني بها منظمة “بلدربيرغ”، التي تتعهد صغار المرشحين وتجعل منهم كبار مسؤولي العالم لتنفيذ أجندات الحكومة العالمية، والعهدة هنا على كثير من الأصوات الغربية ليس آخرها ولا أقلها ما ورد في كتابات مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجينسكي ووزير الخارجية السابق هنري كيسنجر.

يقدم كلينتون في كتابه ما يسميه القواعد الـ12 للعمل السياسي، تلك التي ساعدته منذ أن كان حاكماً لولاية أركنساس، وعليها اعتمد في شرح وتدوير وتخفيف حدة المحادثات السياسية مع الآخرين… ماذا عن تلك القواعد؟ يمكن إجمالها من دون تفصيل ممل في:

** لا تخبر أحداً بالذهاب إلى الجحيم إلا إذا كنت قادراً على إجباره على ذلك.

** لا تشرب (خمراً) أبداً في الأماكن العامة.

** عندما تستمتع إلى عبارة “ليس شخصياً” فعليك أن تستعد.

** عندما يستطيع شخص ما أن يحول الحرارة من نفسه إليك، استعد للشواء.

** الجميع يؤيدون التغيير بصورة عامة، ولكنهم في كثير من الأحيان يعارضونه خصوصاً، الأمر يعتمد على من هو الثور الذي يتم نطحه.

** عندما يقول الناس “إنها ليست مشكلة مالية” فهم دائماً يتحدثون عن مشكلة شخص آخر.

** إذا رأيت سلحفاة على عمود سياج فهذا يعني أنها لم تصل إلى هناك بالصدفة.

** عندما تبدأ في قضاء وقت ممتع فمن المفترض أن تكون في مكان آخر غير مكانك الأصلي.

** أنت دائماً في أشد حالات الضعف عندما تشعر أنك غير معرض للخطر أو عندما تكون غاضباً ومتعباً.

** خذ النقد على محمل الجد، ولكن ليس بصورة شخصية.

** إذا كنت تريد أن تجلب مشاعرك إلى العمل فاعمل في مجال آخر.

** لا تيأس من الناس… إذا حفرت لفترة كافية فستجد دائماً شخصاً ما في مكان ما تحت الأرض.

يختتم كلينتون هذه القواعد بالقول، “لقد أجبرتني انتخابات عام 2016 على الذهاب إلى أحد المحال التجارية مع قاعدة جديدة (إذا كنت في الغرفة مع شخص يقول… ولكنك ستفوز على أي حال، فابتسم واشكره على وقته واخرج من الغرفة بأسرع ما يمكن، فقد يريدونك أن تفوز، لكنهم لا يريدون التحدث نيابة عنك خوفاً من الانتقاد أو العقاب. على أي حال هي الكلمة الدالة، عندما تسمعها استعد للتحرك)”.

ذات مرة قال الرئيس السادس في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة جون كوينس آدامز، “لا يوجد شيء أكثر إثارة للشفقة في الحياة من رئيس سابق”.

هل كان الرجل على حق؟

ربما في زمانه، وربما حتى وقت قريب كان غالبية رؤساء الولايات المتحدة يقضون النصف الثاني من عمرهم في لعبة الغولف أو الرسم مثل جورج دبليو بوش، ولكن بيل كلينتون، لم يتفق مع كلام كوينسي آدامز، ففي روايته التي تقع في نحو 400 صفحة عن سنواته ما بعد الرئاسة يبشر بفارق حقيقي في مستقبل رؤساء أميركا مالئة الدنيا وشاغلة الناس.

ولعل قليلين الذين سبقوا كلينتون في هذا المضمار، ومنهم على وجه التحديد جيمي كارتر، الذي لم ينشئ مكتبة هائلة فحسب، بل كرس جهوداً واسعة للسلام حول العالم، سواء من خلال الوساطات أو الكتب والمحاضرات. يحتاج كتاب كلينتون عن المواطنة إلى قراءة معمقة لكل صفحة في صفحاته، انطلاقاً من أنه لا يميط اللثام فقط عن سيرة كلينتون، بل لأنها تعطي القارئ فكرة جيدة عن مسارات ومساقات الحياة الأميركية في حداثتها، بدءاً من أزمنة وسائل التواصل الاجتماعي المحدثة، وصولاً إلى أدوات الذكاء الاصطناعي التي يمكن عبرها لرؤساء أميركا أن يلعبوا أدواراً على صعيد كوكب الأرض، وليس في الداخل الأميركي فحسب. أهلاً بكم في عالم المواطن كلينتون وما بعده.

إندبندنت عربية

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *