الانتصار في المواجهات هو.. الانتصار على “الوعي السائد”
أمد/ وقفات على المفارق وللمفارقة مع الذكرى ال77 لقرار التقسيم!
الوقفة الأولى… مع وما أشبه اليوم بالأمس!
الأمر الطبيعي أن ينشغل الكلّ اليوم؛ عرب وإسرائيليّون، في السؤال: هل من منتصر في هذه الحرب أو في هذه الجبهة منها؛ اللبنانيّة؟
وقفت مع هذه الوقفات ومثلها خلال حرب تموز 2006 (لبنان الثانية) وتحديدًا في اليوم ال29 لتلك الحرب، وأمّا وقد وضعت معارك الشمال من حرب “القيامة العدوان على لبنان طوفان الأقصى” أوزارها (!) عدت لأقف فيها فلم أجد في فضائها الكثير ممّا غيّرته الايّام… فما أشبه اليوم بالأمس!
الوقفة الثانية… مع الانتصار.
بغضّ النظر عمّا يدّعي كلّ طرف عن الانتصار وتعليلاته، فالانتصار في المواجهات عسكرية ثقافية أو حضارية كانت، هو الانتصار على “الوعي السائد” الذي عادة ما يولد من اعتقاد يسود عند المجتمعات المختلفة والمتواجهة منها. الوعي السائد أنّ صراعا على أوجه الحياة المختلفة يدور بين الشمال الغني وإسرائيل جزء منه، والجنوب الفقير والعرب والمسلمون في طليعته، بعد أن خلت الساحة للغرب من الصراع مع الشرق بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. هذا الصراع والذي يحاول البعض أن يخفّف من حدّته أو حتّى أن ينكره قائما كان ومازال ومن يعتقد أنّ الحرب الأخيرة ليست جزءا من هذا الصراع فواهمٌ.
الوقفة الثالثة… والفضائيّات.
إنّ تكاليف الساعات الفضائية التي تمطرنا بها محطّات التلفزة، وخصوصا العربيّة، تعليقا على الحرب وتحليلا لها، ربّما تزيد بكثير عن تكاليف الصواريخ والقذائف التي أطلقها حزب الله وإسرائيل معا، وهي مثلها تماما تصيب أحيانا وتخطئ أخرى، ومثلما تمزّق هذه أجساد أبرياء أحيانا تمزق تلك عقول أبرياء أحيانا. خصوصا عندما يحسب مُطلقها من المعلّقين أنّ قوله آيات منزلة من عند الله وكلّ ما يقوله الآخرون هو الكفر بعينه. دعونا نتّفق أنّ آراءنا، فيما لا نعرفه بإحدى حواسنا، تبقى اجتهادات، ومهما آمّنا بعبقريّتها لا يجعل ذلك منها محور أحداث الدنيا، صحّة هذه الاجتهادات من عدمها هو للأيّام، لذلك دعونا نعطي الرأي الآخر، حتى لو لم يعجبنا، مكانا دون أن ننسب لصاحبه انحرافا عن سواء السبيل.
الوقفة الرابعة… مع ما يُقال وما لا يُقال.
لا يستطيع المرء أن يقول أو يكتب أو ينشر كلّ ما يجول بخاطره، خصوصا إذا كان ذلك خارجا عن الإجماع، وعينيّا “الشعبوي” منه في بعضه أو في كلّه، خوفا من اتّهامه بالانحراف الآنف. (أنا على المستوى الشخصي امتنعت أو رفضت الكثير من التوجّهات الإعلاميّة)، ففي سياقنا ما يجول بالخاطر عن اختلاف الرؤية في أهداف طرفي القتال يحمّلك ما لا تستطيع حمله، علما أن الهدف الحقيقي لا يقال أبدا والأقرب إلى الحقيقة هو ليس ما يقال إنّما في مكان ما وراء ما يقال يستنبطه الكاتب أو القائل الواقعيان من الأقرب إلى المعقول لا إلى العاطفة أو الرأي المسبق المتماثل مع الموقف أو الحدث، فبين التماثل والتأييد مسافة شاسعة. الأهداف الحقيقية لهذه الحرب وما سبقها وما تخلّلها هي أعمق كثيرا مما يقال، ولنطلق العنان لأفكارنا؛ فكلّ ما عدا ذلك ثانوي وصراع على رأي عام مفقود في الكثير من الأحيان، خصوصا حيث تغيب الديموقراطية.
الوقفة الخامسة… مع الكسْب.
بغض النظر عن هذه المقدّمة، ما يشغل بال الكلّ اليوم؛ ساسة ومفكّرين وأناس عاديّين ونحن منهم، كيف ستنتهي هذه الحرب؟ وبكلمات أخرى: من الذي سيكسب منها؟ وماذا سيكسب، والكسب دائما نسبي؟!
الرابح في الحرب بين الفرقاء المختّل بينهم توازن القوّة، وفي سياقنا إسرائيل وحزب الله، هو للأقوى حين يَسحق الأضعف، وهو للأضعف حين لا يُسحق. وإضافة؛ الرابح في هذه الحرب ليس الذي يقتل أكثر ويدمّر أكثر ويحتّل أكثر، الرابح هو الذي يستطيع أن يدّعي لاحقا ويثبت ادعاءه بالوقائع أنّ صموده غيّر شيئا في “الوعي السائد” في معسكره وفي معسكر عدوّه.
الوقفة السادسة… مع الوعي السائد.
ومن التعميم إلى التخصيص، الوعي السائد لدى المجتمع الإسرائيلي وبكلّ مركّباته ومنذ ما يزيد على قرن منذ بدء الصراع العربي اليهودي، أنّ العرب والمسلمين لم يسلّموا ولن يسلّموا بوجود إسرائيل، والطريقة الوحيدة التي يفهمون هي لغة القوة ولذلك على إسرائيل أن تبقى قوية ساحقة ماحقة كسبيل وحيد لجعلهم يقبلون بوجودها أو على الأقل ليسلّموا بوجودها، ومن نافل القول أنْ يقال إنّ الولايات المتحدة والغرب كلّه سندها في ذلك. ومن تبعات هذا الوعي السائد لديها هو الاعتداء الدائم على حقوق جيرانها حتّى المنقوصة منها إن كان ذلك في فلسطين ال67 أو هضبة الجولان أو مزارع شبعة.
أمّا الوعي السائد لدى طرف المعادلة الآخر هو فعلا ليس قبول الوجود إنّما التسليم بالوجود إلى أن “يفرجها الله”، وأيّ كلام آخر هو “دبلوماسية” الأضعف غير الماسك بزمام الأمور من مفكّرين وساسة ومن الناس العاديين بكل مركّباتهم، أو “دبلوماسية” المصالح للماسك بزمام الأمور الحكّام ومن لفّ لفّهم.
في المرحلة البينية هذه ينتج عن هذا الوعي السائد العام وعي آخر أقل مرتبة خاص. جاء إقدام حزب الله على إسناد غزّة وما يمثّله مثل هذا العمل، ليقوّض أسسا تحت هذا الوعي الخاص الذي ساد لدى الطرفين وخصوصا تحت أسس الوعي السائد لدى إسرائيل والذي اعتقدت وتعتقد أنّها رسّخته بقوّتها التي لا تقهر مسلّطة على رقاب الطرف الآخر الذي بات لا يجرؤ أن يرفع حتّى نظره فيها وإلّا بها تجد من تجرّأ وبغضّ النظر عن سوء التقدير الذي رافق هذا “التجرُّء”. على ضوء ما تبع هذا الاسناد من مواقف وبالذات عربية ممانعة أو ممالئة، والأمران سيّان، اعتبرت إسرائيل أنّ الأمر لا يتعدّى المشكلة العرضية وبإظهارها بعض من عضلاتها ستعود المياه إلى مجاريها لكن “العتمة لم تجئ على قدر يد الحرامي”.
الوقفة السابعة… الوعي السائد والرهان.
رغم ذلك يظلّ الانتصار في هذه الحرب رهينة الوعي الذي سيسود بعدها، إذا غيّرت هذه الحرب الوعي السائد لدى الجانب الإسرائيلي أنّ القوّة المعتمدة على أنّ الجانب الآخر لا يفهم إلّا إيّاها وسيلة، إذا غيّرت هذا الوعي بوعي مفاده أن ليست هذه الطريق لاستمرار وجودها، فهذا انتصار مدوّ لنهج المقاومة لدى الطرف الأضعف في ميزان القوى، لن تسلّم به إسرائيل بهذه السهولة، لكن يكفي أن يسود لديها وعي ولو باطني ينتج عنه الاعتراف بحقوق العرب المبلوعة على يديها ولو بعد حين. وإذا غيرت هذه الحرب الوعي السائد لدى الطرف الآخر بالتسليم بالتفريط بالحقوق تحت مطرقة القوّة فهذا تتمة للانتصار. أما إذا بقي الوعي السائد لدى الطرفين على حاله ستكون حينها الأرواح التي زهقت راحت سدى.
أنا وبصفتي طرف غير محايد في رأيه وموقفه أميل إلى الاعتقاد أن هذه الحرب إن لم تغيّر الوعي السائد لكنّها هزت أسسه ولن يصمد في الجولات القادمة. وإن غدا لناظره قريب.