مدينة “درعة القديمة”.. قصة حضارة تقاوم النسيان بعمق الجنوب الشرقي
كنداء خافت من زمن غابر، تطل مدينة درعة القديمة باعتبارها رمزا حضاريا وواحدة من أقدم المدن المغربية، بين الروايات الشفوية والتاريخية، لتطلع المنطقة التي صارت مغربا منسيا على مجد تليد يكاد ينسى باندثار أطلالها، أطلال تصارع النسيان في منطقة قاحلة، لتبقي على أثر يذكر سكانها بماضيها.
تقع مدينة درعة القديمة في قلب إقليم زاكورة جنوب المغرب، وهي إحدى الحواضر التاريخية التي امتزجت في ذاكرتها الجماعية الأساطير بالروايات التاريخية.
تُعد المدينة واحدة من أقدم المدن المغربية، حيث ورد ذكرها في المصادر الإسلامية المبكرة مثل كتابات المؤرخ الأندلسي البكري.
في القرن الخامس الهجري (450هـ)، وصف البكري درعة بأنها مدينة مأهولة ومزدهرة، تحفها أسوار آيلة للسقوط وتزينها أسواق ومتاحر رابحة، ومنازل مشيدة على ربوة حمراء.
درعة بين الروايات والكتابات
وفقًا لما جاء في كتاب المسالك والممالك، أشار البكري إلى أن درعة كانت قاعدة حضرية مهمة، يديرها في ذلك الوقت علي بن أحمد بن إدريس. وأوضح أنها تحتوي على جامع كبير وأسواق نشطة، وهو وصف يعكس أهمية المدينة التجارية والدينية.
أما موقعها الجغرافي، فقد وصفها بأنها تقع على مرتفع يشرف على وادٍ لم يُذكر اسمه، ما يُضفي على وصفها شيئًا من الغموض.
أثار موقع مدينة درعة القديمة جدلاً واسعًا بين الباحثين والمؤرخين، حيث تباينت الآراء حول مكانها. ذهب بعض الباحثين إلى أن المدينة قد تكون في منطقة تمتيك، استنادًا إلى دلالات لغوية وتاريخية.
فقد أشار صاحب كتاب طليعة الدعة إلى أن “تين امتيك” باللهجة الأمازيغية تعني “ناحية أمتيك”، ووجد آثاراً تشير إلى أساسات سور قديم في هذه المنطقة.
إلا أن الكاتب والباحث في تاريخ درعة، أحمد الصديقي عارض هذا الرأي، معتبرًا أن الآثار الموجودة شرق قصر تمتيك لا ترقى إلى مستوى وصف البكري لمدينة مزدهرة كدرعة.
وأشار إلى أن تلك الآثار يُطلق عليها السكان المحليون “ديور المجاهدين”، وهي آثار لحصون صغيرة لا تعكس حجم وأهمية المدينة كما وصفها البكري.
جدل الموقع
ثمة آراء أخرى تشير إلى أن مدينة درعة قد تكون في منطقة تيدري، بين المحاميد والكتاوة. غير أن الصديقي، في حديثه لجريدة “العمق”، يرفض هذا الافتراض أيضًا، موضحًا أن المنطقة تفتقر إلى الأدلة التاريخية أو المعمارية التي تدعم كونها موقع درعة القديمة. وأشار إلى وجود بعض المقابر الجماعية والحصون الصغيرة، لكنها لا تفي بمعايير المدينة كما وصفها الجغرافيون والمؤرخون.
وفق ما جاء في موسوعة المعلمة، ذُكر اسم درعة في مؤلفات مؤرخي العصور الوسطى الإسلامية، إلا أن اتفاقهم على وصفها لم يمتد ليشمل موقعها.
ويضيف أحمد الصديقي، بعد رحلات بحثية طويلة امتدت من عام 2014 وحتى آخر زيارة له في أكتوبر 2023، أن المنطقة الممتدة من قصر بني خلوف غربًا إلى تازروت شرقًا، ومن قصر أكني وزاوية سيدي علي شمالاً إلى نهر درعة جنوبًا، تحتوي على أطلال مدينة قديمة تطابق أوصاف درعة التي أوردها البكري.
يشير الصديقي إلى وجود أطلال جامع كبير في تلك المنطقة، إلى جانب آثار أسواق وأزقة وأسوار شاهقة، ما يجعل هذه المنطقة الأكثر توافقًا مع الروايات التاريخية. ووثق الباحث رحلاته وأبحاثه بصور وأشرطة تبرز الأطلال الباقية، داعيًا الباحثين والمهتمين إلى دراسة هذه الشواهد.
رمز حضاري
تظل مدينة درعة القديمة رمزًا تاريخيًا يثير فضول الباحثين، فهي ليست مجرد أطلال، بل شاهد على حياة اقتصادية وثقافية ودينية كانت تضج بها المنطقة منذ ما يزيد عن عشرة قرون.
وبينما تستمر الجهود البحثية لاستكشاف موقعها الحقيقي، تبقى الروايات التاريخية والآثار الباقية مصدر إلهام للكشف عن أسرار هذه المدينة التي شكلت جزءًا من ذاكرة المغرب الغنية.
إن التنقيب في تاريخ مدينة درعة لا يقتصر على إعادة اكتشاف مكانها، بل يمتد لفهم السياق الحضاري الذي أفرزها، مما يسهم في إحياء تراث منطقة لطالما كانت نقطة التقاء بين الثقافات والحضارات.
المصدر: العمق المغربي