السودان وفيتو الحرب الروسي السودانية , اخبار السودان
السودان وفيتو الحرب الروسي
ناصر السيد النور
ما جرى في تصويت مجلس الأمن الدولي يوم الاثنين الثامن عشر من الشهر الجاري الأسبوع الماضي بشأن مشروع القرار الذي تقدمت المملكة المتحدة وسيراليون لوقف الحرب والسماح بدخول المساعدات الإنسانية الذي أبطله تصويت روسيا بحق باستخدام حق النقض “الفيتو” شكل صدمة على الصعيد الدولي الدبلوماسي. ويعد من السوابق أن تشهد أروقة المجلس استخداماً لحق النقض (الفيتو) في شأن يخص السودان. فما الذي جعل روسيا إحدى الدول دائمة العضوية أن تستخدم حق النقض في قضية تتعلق بالأمن والسلم الدوليين وهي من صميم دور مجلس الأمن كما في مواثيق الغرض من إنشائه؟ ذلك الموقف الذي صوتت فيه الصين التي لديها عمقا اقتصاديا في السودان والقارة الأفريقية يفوق روسيا ولو أن كلا البلدين لا تعنيهما قضايا الشعوب بحسب معايير الديمقراطيات الغربية.
إن آلية تصويت حق النقض “الفيتو” التي تحتكرها الدول الخمس دائمة العضوية ضد مشروعات القرارات بشأن دول تتقاطع فيه مصالحها الاستراتيجية أو الايدولوجية؛ وتعد الولايات المتحدة من أكثر الدول استخداماً له خاصة فيما يتعلق بالممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية كما حدث مؤخراً في وجه مشروع وقف إطلاق النار للمرة الرابع منذ اندلاع المواجهات بين إسرائيل وحماس في السابع أكتوبر/تشرين من العام الماضي. وهذه الأداة المحتكرة من قبل منظومة الدول المهيمنة على النظام العالمي يعكس الظروف الدولية في فترة الحرب الباردة التي انتهت ولم تنته آلياتها في المنظمة الدولية. فحق الفيتو المستخدم من جانب الأعضاء الدائمين يضمن لهم بأن المجلس لن يعمل بشكل يتعارض ومصالحهم الوطنية، والأمر الآخر في اعتماده على المانحين الأساسين وهو ما يعني عملياً الولايات المتحدة وأوروبا واليابان في الأموال والقوات والمساعدات الفنية مما يجعل من قراراته محسوبة لا تحفظ السلم الدولي الذي يجب فرضه على ما ترى نظريات اصلاح بنيته الهيكلية.
هذا الاعتراض الروسي على مشروع القرار أربك مسار الأزمة السودانية بطبيعتها الإنسانية الفادحة على صعيد المعالجات الدولية، وسيزيد من معاناة ضحاياها أي يكن التفسير الذي دفع به مندوب روسيا. فالحكومة السودانية لا يمكن أن تكون وهي طرفاً في صراع دامٍ أن تترك لحالها لمعالجة الموقف المتأزم على أكثر من صعيد وخاصة الجانب الإنساني منها. ولو أن الأمر تعلق بالسيادة الوطنية التي لم تعد تبرر انتهاكات الحكومات بحق شعوبها وفقاً للقانون الدولي الإنساني. ثم ماذا بعد أن فشل مشروع القرار الخاص بوقف إطلاق النار وحماية المدنية وما اشتمل عليه من آليات تشمل أطرافاً عدة ويضمن ما توصل إليه طرفا الصراع في مفاوضات جدة المنبر الوحيد الذي اكتسب شرعية دولية وحظي بقبول كل الأطراف؟ وهل تكون مسارات حلول الازمة السودانية على المستوى التداول الدبلوماسي الدولي قد تراجعت مما يعني عمليا استمرار الوضع في الداخل على ما هو عليه وربما قوى من موقف الحكومة بقيادة الفريق البرهان سعيا للحل العسكري وهو ما حملته تصريحات عقب نتيجة التصويت على القرار وإلا رجوع للتفاوض ولا وقف لإطلاق النار.
ومن جانب الدعم السريع الذي كان مشروع القرار يدين استمرار اعتداءات قواتها في الفاشر ويطالبها بالوقف الفوري لجميع هجماتها ضد المدنيين في دارفور وولايتي الجزيرة وسنار وأماكن أخرى كما نص مشروع القرار.، ولكن كما يبدو ان الاعتراض الروسي على مشروع القرار الذي وصمته بالملغوم قد جنب الطرفين ادانات صريحة. وذهبت قوات الدعم السريع إلى الدفع بتصريحات مثيرة من إقامة حكومة موازية في المناطق التي تسيطر عليها كما جاء على لسان رئيس وفد مفاوضاتها العميد عمر حمدان وهو ما يفهم منه فرض واقع يعصب التعامل معه حتى عسكريا قياسا على نتائج الحرب المستمرة منذ عام ونصف فقد سيطرت قوات الدعم على مساحات واسعة تمتد من اقصى الغرب إلى الوسط بما فيها عاصمة البلاد الخرطوم. وليس من المؤكد أن ينفذ أي من الطرفين خططه في ظل التداعي الذي تشهده البلاد على أكثر من صعيد عسكري وإنساني.
ويعكس هذا الموقف الروسي كما ذهب كثيرون الحالة الروسية وطبيعية السياسة الخارجية التي تنتهجها روسيا في موازاة الموقف الدولي الغربي من حربها ضد أوكرانيا التي تورطت فيها منذ أكثر من عامين. وما واجهته من عقوبات وحصار دولي وصدور مذكرة اعتقال بحق زعيمها فلاديمير بوتين جراء ذلك. ومع تطور المواجهات بين الغرب وروسيا مؤخراً في اعقاب التعزيزات الغربية لأوكرانيا قد تجعل روسيا تضرب في كل الاتجاهات لمناوئة النفوذ الأوربي الأميركي بداء من موائد الدبلوماسية في حق الفيتو العامل الوحيد الذي تبقى لها في الساحة الدولية الشرعية إلى تغيير عقيدتها النووية مما يزيد من احتمالات المواجهة النووية على الصعيد الدولي.
إن تصويت روسيا ضد مشروع القرار لم يكن حفاظا على سيادة السودان في ظل أزمته الإنسانية وعدم التدخل في شؤونه كما تبرر التصريحات الروسية. فالبلد النووي لديه طموحاته الاستراتيجية التي تتعدى حدوده، وقد يسمح هذا الموقف لروسيا في المقابل بالحصول على قاعدة عسكرية بحرية على ساحل البحر الأحمر خاصة وأن الحكومة السودانية كما جاء في تصريح وزير خارجيتها لا تمانع في منحها هذا الامتياز الاستراتيجي وحقق بالتالي حلمها التقليدي في الوصول إلى البحار الدافئة. وقد قرب الصراع في سوريا مؤخرا روسيا من المنطقة وشواطئها واصحبت بالتالي لاعباً رئيسياً في المجال الحيوي للمنطقة بما يخدم تواجدها الاستراتيجي وفق تصوراتها وهي الدولة التي ورثت قوة الاتحاد السوفيتي العسكرية والنووية إلا أنها لا زالت تحتفظ بعقيدتها التوسعية ولعب دور مفقود في مواجهة حلف الناتو الغربي والإبقاء على علاقاتها التاريخية مع ما تبقى من منظومة دول العالم العربي بنسختها الاشتراكية التاريخية.
وانعكاسات فشل مشروع القرار في الداخل السوداني فمن الطبيعي أن تكون تداعياته تصب في مصلحة الحكومة القائمة بما فسرته من أن الموقف الروسي جنبها فحوى ادانات مشروع القرار بما يعني تدخل قوات أممية تبقى على الموقف القائمة بل ذهب أخرون إلى أن مشروع القرار كان يسعى إلى تقسيم السودان إلى دويلات. ومهما تكن وجاهة التبريرات التي تسوقها الأطراف السياسية وخاصة تلك المحسوبة على الحكومة السودانية في تحالفاتها الجديدة مع مليشيات وجماعة عسكرية دعماً لموقفها في الحرب، فإن حجم الكارثة الإنسانية لا يعني أن المجتمع الدولي قد تغاضى كلية عن الحل في إطار آلية دولية. ويعاني طرفا الصراع من محدودية علاقات على المستوى الدولي ومنظماته الأممية إلا حدود الداعمين لهما على المستوى الإقليمي بما يضمن تدفق الدعم اللوجستي لمواصلة الحرب دون أن يتمكن المجتمع الدولي من فرض نافذ لقرارات تواجه الأزمة في أبعادها الإقليمية.
إن تطور الأزمة السودانية بنتائجها المأساوية المستمرة على خلفية فشل مشروع القرار وما نتج عنها من مواقف متصلبة عبرت عنها تصريحات طرفا الصراع قد يعقد من خياراتها في الحلول. ولكن الثمن المنتظر للموقف الروسي ستكون له تعقيداته بما يعني تمددا للأزمة نحو صراع محاور دولية وإقليمية ويكون السودان من الناحية الجيوبوليتيكية قد أصبح جزء من صراع مناورات الاستراتيجيات. وبدلا من أن تكون الأزمة السودانية بأوضاعها المزرية ذات ضرورة قصوى للحل الدولي أصبحت أزمة صراع دولي وإقليمي له أبعاده القارية بما يضع السودان وأزماته أمام أوضاع غير مسبوقة يصعب التنبؤ بمآلاتها في ظل أوضاع عالمية تحتد وتيرة المواجهة بين أطرافها.
المصدر: صحيفة التغيير