الوجه الآخر لقرارات «الجنائية الدولية»..
لا أظنّ أنّ هناك فائدةً تُرجى من “الحوار” مع الجماعات التي لا ترى في قرارات المحكمة الجنائية الدولية أيّ أهمية خاصة، وترى في هذه القرارات بعض الاعتبارات والهوامش “المعنوية” ليس إلّا. السبب في ذلك بسيط، ولا يحتاج إلى جهود خاصّة لتوضيح “عُقم” هذه العدمية السياسية والمعرفية، أيضاً.
لو كان الأمر يتعلّق فعلاً ببعض الاعتبارات والهوامش المعنوية لما قامت هذه الضجّة التي قامت بُعَيد صدور القرارات، ولما انبرت دولة الاحتلال، من “ساسها إلى راسها”، وهبّت هبّة رجُلٍ واحد، ولما انتفضت الولايات المتحدة الأميركية بإدارتيها، الراحلة والقادمة، ولما توالت ردود الأفعال الأوروبية في الاستجابة لمتطلّبات تنفيذ مذكّرتي الاعتقال، ولما تتابعت الجهات المعنية بدراسة المترتّبات القانونية على أوامر الاعتقال.
الوجه الذي بات معروفاً لقرارات “الجنائية الدولية” له أهمية لا تَخفى على أحد، وهذه الأهمية ما زالت في بداياتها الأولى، وسيتبيّن لاحقاً أنّها أكبر ضربة وُجّهت لدولة الاحتلال، وللمشروع الصهيوني برمّته منذ أن تمكّن هذا المشروع من تأسيس “دولته”، وعمل، وما زال يعمل على تعزيز دورها ومكانتها وموقعها في خارطة الإقليم كلّه، وفي خارطة العالم بأسره.
إليكم بعض الجوانب من الوجه الآخر:
صحيح أنّ دولتين فقط قد أعلنتا عدم التزامهما بقرارات الاعتقال حتى الآن، وهما، الأرجنتين وهنغاريا من بين ما مجموعه 124 دولة موقّعة على بروتوكول روما حول المحكمة، وصحيح أنّ دولاً وازنة معارضة لهذه القرارات من خارج الموقّعين على هذا البروتوكول، إلّا أنّ الصحيح، أيضاً، أنّ دولاً معيّنة، لم تعلن موقفها من هذه القرارات قد تقوم باعتقال بنيامين نتنياهو أو يوآف غالانت، أو كليهما دون أن يكون لديها مثل هذا الموقف المُسبَق.
الأمر بكلّ بساطة يمكن أن يحدث بأن ترفع مجموعة سياسية أو اجتماعية من المجتمع المدني في أيّ بلدٍ من هذا القبيل دعوى مستعجلة للاعتقال الفوري، ويمكن أن تنظر محكمة معيّنة من هذه الدولة بصورة مستعجلة وتصدر أمر الاعتقال، وتصبح الأجهزة التنفيذية ــ من الزاوية القانونية ــ ملزمةً بإنفاذ الأمر.
وهذه المجموعة قد يصل عددها إلى حوالى 50 دولة، وهذا الأمر يعني أنّ الدول غير الموقّعة على بروتوكول روما ليست دولاً “آمنة” للثنائي المطلوب للاعتقال، بل يمكن القول إنّها أقلّ “أمناً” ممّا تبدو عليه الأمور.
الأمر الثاني، هو أنّ المحكمة حسب نظام عملها ليست ملزمة بالإفصاح عن أوامر أخرى قد تكون قد صدرت، أو قد تصدر لاحقاً بحقّ أشخاص آخرين، سياسيين وعسكريين وأمنيين، من مستويات مختلفة، وذلك بالاستناد إلى المذكّرة التي أصدرتها وأرسلتها إلى كلّ الدول كافّة، ومن دون استثناء، توضّح فيها أنّ الدول غير الموقّعة هي ملزمة “أخلاقيّاً” بالتعاون مع المحكمة، ومُلزمة بمتابعة أوامر الاعتقال بحقّ “الثنائي”، وبحقّ آخرين ستقوم المحكمة بتزويد الدول كافّة بأسمائهم ومراتبهم، وطبيعة الجرائم الموجّهة لهم.
ومن هنا فإنّ تنبيه المجتمعات المدنية في هذه البلدان فوراً، ومنذ الآن للاحتراز إلى مثل هذه المسائل يبدو مسألة مهمّةً وحيويةً في عمل ونشاط المجموعات الوطنية الفلسطينية والإقليمية والدولية على كلّ هذا الصعيد.
الأمر الثالث، هو أنّ قرار محكمة الجنايات الدولية قد وجّه ضربةً قاصمة للسرديات الإسرائيلية حول هذه الحرب، ودمّر أركان الأكاذيب حول “اللاسّامية” المزعومة في تفسير تنامي الوعي العالمي حول الخطر الذي تمثّله دولة الاحتلال على السلم العالمي بأسره، بما في ذلك الخطر على اليهود أنفسهم.
وبالرجوع إلى المقال المميّز الذي كتبه الصديق د. إياد برغوثي حول “استثنائية” الحالة الإسرائيلية في عُرف “الغرب” كلّه ــ وهي استثنائية فريدة، وربّما وحيدة فعلاً ــ فإنّ قرار “الجنايات الدولية” قد كسر للمرّة الأولى السياق “الطبيعي” لهذه الاستثنائية، واقتربت ــ أي المحكمة في كامل تاريخ الصراع من “مُسلّمات التحريم الغربي” حول “الاستثنائية”.
كأنّ مرحلة “الدلال الغربي” لدولة الاحتلال تعرّضت لوعكة كبيرة، أو لنكسةٍ لم تكن في حسبان “الغرب”، ولا في حسبان دولة الاحتلال نفسها.
أما الأمر الرابع، فهو تأثير هذه القرارات على الواقع الإقليمي. لا أقصد طبعاً مجرّد هذا التأثير على حالة “التطبيع”، فهذه مسألة مفهومة وواضحة، وإلى مديات زمنية قادمة، وإنّما أقصد أنّ “أنصار” مداهنة مواقف دولة الاحتلال، والمراهنة الفاضحة، وكذلك نصف الفاضحة والخجولة على انتهاء هذه الحرب “على خير”، أيّ بالانتصار الإسرائيلي قد صُدموا بالقرارات الصادرة عن المحكمة، لأنّ مواقف هؤلاء المداهنين قد دخلت في خانة العار، وسيتمّ كما أتوقّع أن تقوم المجتمعات العربية الحيّة بإعداد القوائم المطلوبة لهذا العار.
الأمر الخامس والأخير والأهمّ، هو التأثير الحقيقي لهذه القرارات على الواقع السياسي القادم في دولة الاحتلال. دعوكم من حفلات التنافخ التي شهدنا بعض فصولها في اللحظات الأولى من صدور قرارات المحكمة، فهذه مسألة “مفهومة” إلى حدّ كبير لأنّ هذا التنافخ سينتهي عند أوّل مفترق سياسي، أو انتخابي قادم.
عملياً وواقعياً انتهت الحياة السياسية لـ”نتنياهو” عند أوّل محطة انتخابية قادمة، سواء كانت هذه المحطّة قبل الموعد القادم أو إلى حين حلوله.
لا تستطيع المنظومة السياسية في دولة الاحتلال بعد هذا اليوم، مهما بلغت درجة الغلوّ والعنجهية لديها أن تقبل بأن يكون نتنياهو على رأس قائمة انتخابية، وهو مطلوب للاعتقال، بقرار من أعلى سلطة محكمة في مؤسّسات القانون الدولي، وسيكون مثل هذا الأمر، إذا حصل وبالاً على دولة الاحتلال أكثر بكثير مما هو الآن.
وستكون “المحكمة العليا” في دولة الاحتلال قد أنهت دورها، وقضت بنفسها على نفسها، وسيكون الحزب الذي “يُصرّ” على مثل هذا السلوك الأحمق والأخرق قد انضمّ موضوعياً إلى صلب التخريب والعبث بالدولة ومقدّراتها ومستقبلها.
غياب وتغييب نتنياهو عن المشهد هو نهاية مرحلة تتّسم بالفشل على كلّ صعيد، وبداية لمرحلة سيكون، وسيتعيّن على المنظومة السياسية الإسرائيلية التعايش والتساكن مع تبعات هذا الفشل، وسيكون عالم “الانتصارات المطلقة” التي وعد بها “المغادر القادم” هو “الخدعة” التي عاشها المجتمع الإسرائيلي، وصدّق أنّها يمكن أن تكون حقيقية عندما يكتشف أنّها لم تكن سوى حالة افتراضية فبركتها تقنيّات الذكاء الصناعي بتلقيمات مُزيّفة.