لماذا لا يتحدثون عن العدوان المصري؟
إسماعيل عبد الله
في هذه الحرب ، التفّت مجموعة من الداعمين لعودة النظام البائد ، ومعهم بعض الجهويين ، حول مشروع إعلامي كبير لا يقر ولا يعترف بالدور العدائي الخطير ، الذي ظلت تلعبه مصر في السودان طيلة عمر الدولة المولودة بعد إنزال علمي الحكم الثنائي ، هذه المجموعة يجمعها وجدان مشترك لا يرى في مصر دولة جارة نديدة مثل الجارات الأخريات اثيوبيا تشاد ارتريا ليبيا ، بل ينظر إليها كحامي حمى وملجأ من التمدد (الغرب أفريقي) الهادف (لطمس هوية السودان النيلي) ، ونرى هذه الأطروحة الواضحة المعالم في رسائل عرّابي الدويلة المزعومة ، المسماة بدولة النهر والبحر ، فإذا ألقينا بالنظرة الفاحصة على سيرورة السودان كأنظمة حكم ، ورجعنا للوراء ثم رصدنا مسلك الساسة والحكّام ، إبّان تعاقب الحكومات (الوطنية) بعد (الاستقلال) ، نرى الجهد المصري الاستعماري الكبير في جميع الأصعدة الأمنية والاقتصادية والثقافية والإعلامية ، الخادم للأجندة المصرية بكل شراسة ، وما نحصده اليوم من قصف جوي مدعوم مصرياً للبنية التحتية ، وللمجتمعات السودانية لهو أكبر شاهد على أن مصر لا يمكنها التنازل عن دورها كمستعمر ، طالما أنها استطاعت أن تدجن مجتمعاً كاملاً ناهيك عن الحكّام والساسة ، والنخبة السودانية السياسية منها والعسكرية المستلبة للوجدان المصري ، هي الحافز الرئيس لجميع رؤساء مصر ، ابتداءً من ناصر وختاماً بالسيسي ، الحافز المشجع (أم الدنيا) على استمراء دوس السودانيين شعباً وحكومات ، فقد عمل فراعنة شمال الوادي منذ التركية على صناعة مجتمع مستنسخ من مجتمعهم، فتمكنوا من رقاب السودانيين اقتصادياً وسياسياً ، وجعلوهم تابعين لهم مثل الببغاوات ، يقلدونهم في اللهجة ولغة الجسد ، لذلك لن يتخلى خدم منازلهم هؤلاء عن الانصياع والتسليم ، إلّا بهزيمة هؤلاء الخدم من قبل ثورة أحرار السودان ، المشرئبين نحو السؤدد والكرامة والعيش العزيز.
وفي مقابل المجتمع السوداني المدجّن مصرياً ، هنالك مجتمعات أخرى لم تخضع للعصا المصرية ، لأسباب كثيرة ، أهمها تمسك هذه الكيانات السكانية ببداوتها وعزة نفسها لاعتمادها على مواردها الطبيعية ، وعدم انكسارها أمام الابتزاز بالصورة الحضارية الزائفة لمصر ، التي يستعلي بها رموز هذه الجارة السيئة على السودانيين ، فاختلاف البيئات القادم منها هؤلاء السودانيون المختلفون ، لا تروق للمصري المستعمر القديم ، الضامن لولاء الشريحة المجتمعية المنهزمة أمامه على الدوام ، والمسلّمة أمرها لجنابه والمستسلمة له بالكامل ، ومن يريد أن يرى الصورة المكبرة للوجدان الجمعي للمجتمعات السودانية الرافضة للهيمنة فطرياً ، وعدم انحناءها للعزو الاجتماعي والثقافي والعسكري المصري ، ينظر لردة الفعل الإيجابية القوية للخطاب التاريخي الذي ألقاه قائد التحرير قبل أيام ، والذي أعلن فيه حظر تصدير السلع التجارية لمصر ، حين هلل الأحرار لذلك القرار الذي جسّد المعنى الفعلي للسيادة الوطنية ، التي تلاعب بها قائد كتائب مليشيات الاخوان المسلمين ، فكل الشعوب الحرة تأبى التبعية وتعتز بالذاتية وتعلي من شأن العزّة الوطنية وتعزز الأنفة القومية ، إلّا الذين تم ترويضهم عبر الحقب الماضية وأعيد صياغة نزعاتهم القومية ، لكي تتماشى مع أهواء قوم لا يشبهونهم ، إنّ ما يجري في السودان هو عودة للدولة الوطنية الحرة المستقلة ، وفراق بائن بينها وبين الدولة المستعمرة التابعة والخاضعة ، التي يعمل حماتها على اشعال الحروب الداخلية لتأكيد التبعية فما يحدث اليوم ليس حرباً عبثية كما يردد الصفويون المترفون الحالمون ، بل هي حرب حتمية كان لابد لها أن تندلع ، لتفرز الدم والفرث عن اللبن الصافي اللذيذ ، ومهما كثرت التفسيرات والتحليلات لما يجري على أرض السودان ، إلّا أنه هنالك حقيقة واحدة راسخة لا يمكن أن يبدلها الزمان ، وهي أن الشعوب الحرة وإن تكالبت عليها صروف المنايا ، لن تظل أبد الدهر تحت وطأة القهر.
إنّ أمن مصر من أمن السودان الأمنان : الغذائي والمائي ، فهذه حقيقة ولكن ليس من منظور وتفسير الإخوة في شمال الوادي ، ذلك التفسير الذي يعتمد على النظر للكوب المملوء من جانب واحد ، ويستمرأ تلقين جنوب الوادي المسلسل المصري المبثوث على (التلفزيون الوطني) يومياً عند الثامنة مساء، دون أن يتاح المسرح القاهري للمسرحي السوداني الفاضل سعيد ، لكي يقدم الطرح الدرامي الآخر القادم من الجنوب ، ومن سخريات الأقدار أن ذات الطريقة الاستعلائية في تعاطي الجارة الشمالية مع جارتها الجنوبية ، مارستها الجارة الجنوبية (السودان الشمالي) على الجنوب والغرب والشرق السوداني ، وكأنما تلك ترجمة حرفية لتمظهرات سيكلوجية المقهور ، الذي وفي سبيل نفث ما يكتنف روحه من إذلال ، لابد أن يجد (حيطة قصيرة) يتخلص على جدرانها من ثقل عناء القهر ، ومع مرارات الحرب الدائرة الآن هنالك قادم أجمل وأكيد ، وهو أن أولادنا وأحفادنا لن يعيشوا تحت جلابيبنا السوداء ، المعروفة باسم جلابيب العم عثمان البواب والسائق محمد صالح ، والجرسون المربوط من وسطه بقطعة قماش تؤكد ولاءه للباشا، فإلى حين خروج الصامتين عن صمتهم في إدانة العدوان المصري على السودان ، لن يتقاعس الأحرار عن المضي قدماً نحو التحرير الكامل وإنجاز الاستقلال التام عن مصر ، التي أتت بوزير (لخارجيتنا) مصري عتيق ، بل ومن المصريين الأصلاء ، فلقد استحق الأحرار الذين يقاتلون بجدارة على أرض الميدان ، شرف الذود عن حوض الوطن من الغزو الخارجي والعدوان الصريح.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة