كيفية النظر إلى نجوم الحرب، وآخرين السودانية , اخبار السودان
صلاح شعيب
من جانبها الآخر، يبدو أن لحربنا أكثر من خمس فوائد للراغبين في القفز نحو خدمة الذات. فإذا هي تشكل الدول الجديدة، وتفوج المجاهدين للجنة مباشرة، وتخلق أثرياء جدد، وتظهر الذين يؤثرون على أنفسهم لدعم ضحايا الاقتتال، فإنها أيضاً هي الحرب التي تزيد نجومية الجهلاء في زمن صمت العلماء.
منذ أن استقرت الحرب في اهتمامات الناس جلبت الميديا الجديدة معلقين جدد من الجانبين. أما الذين وظفوا الميديا الحديثة لصالح الشهرة قبل الحرب فقد زادتهم الحرب الظهور الخُلب فوق ظهور.
لا أعتقد أنه زمن التفاهة أن ينخفت صوت مثقفي المجتمع أمام صوت الإسفيريين الذين حولوا الباندوث إلى ملجة إعلامية. فالزبد بخلاف أنه يذهب جفاءً، فالتفاهة محكومة بالمربعات التي تنتشر فيها محلياً، وإقليمياً، ودولياً، ولا رسوخ لها في خاتم المطاف. فدائماً الخير معقود على نواصي التلقي الحر. فلو عدينا الأمر بأنه قرين بزمن التفاهة فحسب، فإننا نظلم بعض شباب جدد حققوا نجومية غنائية، وحولوا البودكاست إلى براح للتلقي الإيجابي، ونشروا المعرفة، ودافعوا عن حقوق الإنسان. أيضا هناك من رصدوا انتهاكات الحرب في قروبات عديدة، ووظفوا الميديا لخدمة المخطوفين والمختفين في جوانب معسكري الحرب، وتجمعوا في تطبيقات كثيرة لتوفير سكن للنازحين واللاجئين، وغيرها من أعمال الخير الملموسة. ولكن الحضور اللافت لتفاهة مساحاتٍ في التلقي يبذله جهلاء، ورموز سياسية تعاني الأمية الفكرية لتحول التصريحات السياسية إلى فرص النكاية، والزراية بالخصوم.. كل هذا يطير ثم يقع، والأرض يرثها عباده الصالحون.
كثيرنا يفهم جيداً أن الميديا الجديدة بتطبيقاتها المتعددة وفرت فرصاً للتعبير لم تكن مسبوقة في العقود الماضية. بل أصبح كل من لا صوت له يجد أمامه سبيلاً للمساهمة في جدل الحياة إجمالاً، أو إيضاح مظلمته الثقافية، أو المذهبية. وهذا تطور طيب في سعي البشرية للتحرر من سلطات الأوليغارشية الصادرة من مواقع الوطنية، والأيديولوجيا، والمناطقية، والفئوية. ولكن لا يجرمننا شنآن قوم لايفجية جهلاء، وسياسيين، وإعلاميين ربع كم أن نعدل. ولا يعني أن تجاوز الخطوط الحمراء المجتمعية التي حددتها الطبقة الوسطى التي تنتج المعرفة والتغيير يؤكد دخولنا الزمن الحالي للتفاهة. فالحقيقة التاريخية تقول إن سلطة المعرفة لا الجهل هي التي غالبا سترث الأرض، وما عليها. فلو أننا تضايقنا من علو صوت المشاءين في المنصات بالنميمة السياسية، والمهرطقين بعبارات عقلانية محتالة لتغليف الجهل مثلاً، فإن ما يجعلنا موقنين تماماً أن الحياة أشواط، وتحديات، وملاحم. ومن هنا يبرز تصدي المثقفين الكفاحي للقيصر الذي أنتج هذه الطفابيع التي عنون بها د. بشرى روايته البديعة.
أضف لهذا أن اللايفجي المهرج، أو صاحب المحتوى، الذي يستغل جهل العامة سياسياً، وثقافياً، وفنياً، لا يصنع المستقبل إلا إذا أشرقت الشمس من الجنوب. فالمستقبل إذن يصنعه المبدعون المهرة كما دلت تجارب التاريخ البشري، ذلك لأن نواميس الكون حددت هذه القفزة الهائلة في العلم بجهد العلماء لا الجهلاء. فالزمن إذن دائماً للبراعة، وليس التفاهة.
كل ما نريد قوله إن هؤلاء الإسفيريين غير المنضبطين بالمعرفة، واحترام أعراف المجتمع، هم أبناؤنا، وبناتنا. فقد تسربوا إلى الميديا الحديثة عبر إخفاقاتنا الحضارية، والعلمية، والثقافية. والمجتمع لا ينتج سوءه بمعزل عن طبيعة ذهنيته الثقافية التي تغذت عبر التاريخ. فكثير من ممارسات الإسفيريين الجهلاء نجد بعض أصله متوطناً في وعينا، ولا وعينا الجمعي. وعندئذ لا يمكن أن ندين الظاهرة هكذا بكل كسل فكري دون أن نبحث عن الأرضيات التي انطلقت منها لنتفهم قبل أن نلعن ظلامية الانحطاط الطارئ.
الواقع أن مسؤولية محاربة الجهل العمومي تقع على عاتق أبناء الطبقة الوسطى الثقافيين الذين كانوا دائماً حدأة الركب في الإبداع الفكري، والإعلامي، والثقافي، لكونهم يسعون إلى ترقية الوعي، والتذوق، والحس. ولكن هذه الطبقة المستنيرة تملك القليل جداً من الجريئين في الطرح الإبداعي، ومع ذلك حقق هؤلاء القلة نهضات كثيرة في الفهم السياسي، والثقافي، والفني، دون أن يجدوا الدعم من الغالبية الصامتة في الطبقة الوسطى. ومن هنا تنهزم مشاريع النهضة التي تحتاج إلى دفعات قوية من القواعد المجتمعية المستنيرة لتشحذها بالتشجيع، والفضل، والعرفان.
في زمن الإنترنت يحاول المستيرون هزيمة تفاهة الطروحات السياسية، والثقافية، والإعلامية، والوقوف بصلابة لمقارعة محاولات ذلك التجهيل الناهض في الميديا المنفلتة. ولكن الحاجة أكبر لتوسيع مشاركة الصامتين لهزيمة تطلعات جهات أصولية محددة تنوي احتكار الإعلام الرقمي، وتوجيهه لخدمة أهدافها السياسية.
سيظل أصحاب المحتوى الإسفيري الرديء، ونجوم الحرب من الداعين لها من الإعلاميين، والسياسيين، يشغلوننا لزمن بتفاهاتهم، وخطابات الكراهية، وشتم الخصوم، والقتل المعنوي للرموز الوطنية، واستخدام لغة المواخير في الحيز الإعلامي العام. بيد أن الخدمة الكبيرة التي يقدمونها لنا هي أنهم يوضحون لنا كيف أن الطريق نحو الاستنارة تتطلب مجهودات شاقة من مثقفي الأجيال الناشئة التي ترث المستقبل.
المصدر: صحيفة التغيير