مناقشة “مشروع المالية” تسائل قدرات البرلمانيين في الجودة التشريعية
أبرزت المناقشة التفصيلية لتعديلات مشروع قانون المالية لسنة 2025 مِلحاحية مطلب تعزيز “الثقافة المالية” و”تقوية قدرات نواب ونائبات الأمة” وكذا أعضاء مجلس المستشارين في شؤون المالية العمومية المتخصصة، لا سيما الجانب “التقني” الذي يكتنفُ نقاشات مستفيضة داخل اللجان تستمر ساعات طويلة؛ غيْر أنها تبقى “حاسمة” في صناعة القرار الميزانياتي طيلة سنة بكاملها.
تقوية رقابة البرلمان ولجانِه لتجويد وتعزيز حكامة ونجاعة المالية العامة كانت أيضا حاضرة ضمن محور نقاشيّ مهم بعنوان “هشاشة حكامة المالية العمومية بفعل تجزئة القرار التشريعي”، خلال المناظرة الدولية للمالية العمومية في دورتها السادسة عشرة المنظَمة بداية نونبر 2024 بالخزينة العامة للمملكة؛ حينما دعا خبراء مغاربة وفرنسيون، بالصّريح، إلى تقوية رقابة البرلمان لتجويد الحكامة المالية العمومية، مقترحين مناقشة أعمقَ وانفتاحا لصناع القرار التشريعي على خبرات الأكاديميين أو ذوي التخصصات لا سيما في شؤون الجبايات والضرائب وعدد من فروع القانون المالي.
“دون المنتظَر”
استحضر جيلالي كنزي، خبير متخصص في شؤون المالية العمومية، “تعزيز دستور 2011 لمهام البرلمان، لاسيما ما يخص مراقبة العمل الحكومي من خلال إناطته بتقييم السياسات العمومية وكذا الحرص على توازنات المالية العمومية إلى جانب الحكومة”.
وأضاف الخبير المتخصص في شؤون المالية العمومية، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، “تكريسا لما جاء به الدستور، تم اعتماد قانون تنظيمي جديد للمالية سنة 2015 يهدف إلى تحسين الانضباط المالي وإدخال منهجية جديدة للتدبير الميزانياتي ترتكز على النجاعة عوض الوسائل، مع تعزيز الحكامة الجيدة ودور البرلمان؛ لا سيما من خلال تزويده بمعطيات وتقارير مفصلة عديدة حول جميع الجوانب المتعلقة بالمالية العمومية (الديْن العمومي، المؤسسات والمقاولات العمومية، المقاصة، الحسابات الخصوصية للخزينة، مَرافق الدولة المُسيرة بصفة مستقلة…)”.
“بالرغم من هذا التقدم الملموس من الناحية القانونية، فإن أداء البرلمان بقيَ دون المستوى المنتظَر منه ولم يرقَ بعد إلى الدور المنوط به”، سجل كنزي، شارحا أن “ذلك يتجلى في هيمنة الحكومة سواء على صعيد اقتراح القوانين أو مناقشتها، من جهة. ثم عجز البرلمان عن تتبع وتقييم السياسات العمومية من جهة ثانية”.
وحسب الخبير المالي، “من الملاحظ أنّ المناقشات البرلمانية تبقى سطحية ولا تساعد في إغناء المنظومة التشريعية بصفة ملموسة”، ضاربا المثال بالقول: “ما زالت النقاشات حول مشروع قانون المالية تدور حول الوسائل، أي الاعتمادات المالية دون التطرق بعمق لنتائج البرامج الميزانياتية ونجاعتها، بالرغم من إدخال المنهجية المرتكزة على النتائج”. نفس الشيء بالنسبة لمراقبة الحكومة، فدوْرُ البرلمانيين يقتصر على مساءلة الحكومة عبر الأسئلة الشفهية والكتابية دون اللجوء إلى تقييم شامل للسياسات العمومية”، عازيا ذلك إلى “ضُعف الأحزاب السياسية التي فشلت في فرز نخب سياسية لها مصداقية واستقطاب الكفاءات القادرة على تحمل مسؤولية النائب البرلماني”.
التأهيل والتجويد
يرى كنزي ضرورة “تفعيل دور البرلمان أولا عبر إعادة تأهيل الأحزاب السياسية لانفتاحها على الأجيال الجديدة من خلال إعادة النظر في هياكلها وتحسين حكامتها وشفافيتها ومصداقية خطابها السياسي”، قائلا: “من المفروض أن تشكل هذه الأحزاب فضاءات مفتوحة للجميع من أجل النقاش وتبادل الأفكار حول جميع التحديات التي تواجهها بلادنا”.
كما يجب، وفق تقدير المحلل، “وضع سياسة تكوينية خاصة بالبرلمانيين عبر عقد شراكات مع الإدارات العمومية والمؤسسات الأكاديمية من جهة، وتطوير التبادل مع الهيئات التشريعية الأجنبية المماثلة من أجل الاستفادة من الممارسات الفضلى في هذا المجال من جهة أخرى”.
بالإضافة لما سبق، يتعيّن على البرلمان “إعادة النظر في هياكله الإدارية والرفع من موارده البشرية لكي يصبح أداة في خدمة البرلمانيين”. كما أن البرلمانيين أنفسهم يَجب أن يُحاطوا بمستشارين أكفاء ويلجأ عند الاقتضاء إلى مكاتب خبرة جادة فيما يخص بعض المواضيع التقنية”.
مستوى النقاش
لإثراء النقاش حول مشروع قانون المالية وتعزيز الحوكمة والرقابة المالية البرلمانية، يركز الخبراء على “ضرورة رفع مستوى النقاش المالي في البرلمان كوسيلة لتمكين الرقابة البرلمانية الفعالة على المالية العامة وتحقيق الحوكمة الرشيدة”؛ وهو ما شدد عليه محمد عادل إيشو، أستاذ العلوم الاقتصادية.
وحسب تصريح إيشو لجريدة هسبريس، فـ”نقاش مشروع قانون المالية يمثل فرصة مهمة للبرلمان لأداء دوره الرقابي بشكل فاعل، مسهما في تقييم شامل للموازنة من حيث النفقات والإيرادات ويضمن توجيه الموارد نحو الأولويات الوطنية؛ مما يرفع من كفاءة الإنفاق العام. كما يعزز النقاش التفصيلي الشفافية بتوضيح كيفية تخصيص الموارد؛ ما يدعم ثقة المواطنين بمؤسساتهم ويُعمّق ثقافة المساءلة”.
ويسمح النقاش ذاته بـ”تقييم سياسات الإنفاق والإيرادات الحكومية وتحديد أوجه القصور؛ ما يسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. كما يُمكّن البرلمان من رصد تنفيذ الميزانية وتقييم أثرها، بشكل يحسّن كفاءة استخدام الموارد وتحقيق الحوكمة المالية المستدامة”.
رفع القدرات
لضمان نقاش مستنير وفعّال لمشروع الميزانية، شدد الأكاديمي الاقتصادي ذاته على “وجوب فهم أعضاء اللجنة النيابية المختصة للمتغيرات الاقتصادية على الصعيدين العالمي والمحلي التي تؤثر في التوقعات المالية. تتطلب هذه المسؤولية أن يمتلك البرلمانيون خبرة في التحليل المالي وقدرة على فهم المؤشرات الاقتصادية وتقييم السياسات المالية بما يعزز قراراتهم ويضمن اطلاعهم على المعطيات الدقيقة”.
ومن أهم متطلبات الرفع من قدرات البرلمانيين، التي يقترحها إيشو في حديثه للجريدة، “تقديمُ برامج تدريبية دورية في الاقتصاد والمالية لتعزيز المعرفة التحليلية للبرلمانيين، مع الاستعانة بخبراء ماليين كمستشارين لتوفير تحليلات فنيّة متعمقة ودعم البرلمانيين في التقييمات المالية المعقدة”.
“إعداد تقارير مفصلة من قبل اللجنة المالية قبيل جلسات النقاش، تتضمن تحليلات مالية وبدائل للسياسات المقترحة بما يمكن البرلمانيين من اتخاذ قرارات مدروسة ومبنية على فهم دقيق للواقع المالي”، مقترح آخر أوصى به المصرح.
في المجمل، يُعتبر رفع مستوى النقاش المالي داخل البرلمان ضرورة استراتيجية لتعزيز الشفافية وتمكين الحوكمة الفعالة في إدارة الموارد المالية للدولة؛ مما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز الثقة الشعبية في المؤسسات التشريعية”.
تجويد التشريع المالي
جواد لعسري، أستاذ المالية العامة والتشريع الضريبي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أكد أن “النقاش في المغرب منصبٌّ حول مدى قدرة البرلمان على الانفتاح على محيطه، خصوصا الجامعة وأكاديميها”، مبرزا أن نقاش مشروع قانون المالية شاهد على هذه القطيعة”.
وأضاف لعسري، في تصريح لهسبريس، بالشرح: “الفاعل السياسي في اتخاذ القرار السياسي، كان مُشرّعا أو حكومة، ليست له القابلية لسماع الجامعة والاحتكاك بالجامعة والانفتاح على خبراتها ومناقشة كل ما يتعلق بالشأن العام؛ وبالتالي تجويد القرار السياسي، ونقصد به القرار السياسي المالي أو القرار التشريعي المالي”.
كما لاحظ أستاذ التشريع الضريبي أن “الحكومة، باعتبارها الفاعل الرئيسي في مسطرة إعداد القانون المالي، لا تنفتح على الجامعة؛ لأن هناك هيمنة الحكومة فيما يتعلق بالتشريع المالي طبقا للفصل 19 من القانون التنظيمي للمالية تتولى الصياغة التشريعية.. وهذه الإمكانية غير متاحة للبرلمان”.
ولفت إلى أن “البرلمان كذلك في إطار الرقابة السياسية التي مارسها من خلال التصويت والمناقشة على مشروع القانون المالي لا ينفتح على الجامعة ولا الفِرق البرلمانية، إذ لا تتم مقاربة هذا الموضوع من الزاوية الأكاديمية”، خاتما: “بالتالي، هذا ما يؤدي إلى أن القرار المالي لا يصل إلى تلك الفعالية والجودة من ناحية الإنتاج التشريعي”.
المصدر: هسبريس