تعقيدات الأزمة السودانية والمخرج الممكن من النفق المظلم
تعقيدات الأزمة السودانية والمخرج الممكن من النفق المظلم
✍🏼. مصباح أحمد محمد
منذ إندلاع حرب ١٥ أبريل اللعينة، برزت في الساحة السياسية السودانية ثلاثة تيارات، وانقسم المجتمع السوداني بين هذه التيارات الثلاثة ذات المواقف المختلفة، والرؤى المتباينة والتوجهات المتنافرة والمصالح المتناقضة والارتباطات المحلية والإقليمية المؤثرة والمضرة.
التيار الأول هو التيار الذي يدعم الحسم العسكري عبر القوات المسلحة، ويشمل الغاضبين على الدعم السريع من أنصار النظام البائد باعتباره صنيعهم العاق الذي تمرد عليهم، والناقمين على الدعم السريع من عامة الناس الذين طالتهم الإنتهاكات العديدة والجرائم المروعة التي أرتكبت بحقهم من سلب ونهب وقتل واغتصاب.
التيار الثاني هو التيار الداعم للدعم السريع، ويضم مجموعات مختلفة بعضها كاره للمؤتمر الوطني، وبعضها صاحب مظالم تاريخية، وبعضها أصحاب مصالح ذاتية. وبالرغم من أن هذا التيار يرفع شعارات الثورة أحياناً، إلا أن الأفعال خالفت الأقوال، وهو أيضاً يسعى للحسم العسكري لتحقيق أهدافه. أما طرفا الحرب في حقيقتهما، كل منهما لديه طموحات ذاتية مع التباين في التكتيكات العسكرية والمواقف التفاوضية.
أما التيار الثالث، فهو التيار الرافض للحرب، الذي يضم غالبية قوى الثورة ومعظم المكتوين بنار الحرب والمدركين لخطورتها على وحدة البلاد وسلامتها، ويتبني خيار إيقاف الحرب عبر الحلول السياسية السلمية هو الأجدى. ولكن للأسف، إرتفاع أصوات البنادق ونبرة الخطابات العسكرية الحادة والإستقطاب الثنائي جعلت صوت هذا التيار خافتاً، ووجه أصحاب الردة السياسية سهامهم نحوه بالإستهداف والتجريم والتخوين لانه يرفع شعارات تهدد طموحاتهم في السيطرة على البلاد ومواردهاعن طريق الحرب وإعادة نظام الإستبداد الفاشستي البائد.
إن الحرب الحالية هي إمتداد لأزمة تاريخية، وهي ذات أبعاد مختلفة، واختزالها في تاريخها الحديث لا يساعد على وضع الحلول لها، فهي أزمة متراكمة منذ الاستقلال، وذات أبعاد (أمنية، ثقافية ،سياسية واجتماعية واقتصادية)، عمقها أكثر النظام البائد الذي عمل على سياسة فرق تسد وقسم المجتمع بالتهميش وخرب الإقتصاد الوطني ورسخ للاستقطاب السياسي والتجهيل المتعمد ووضع الوحدة الوطنية علي المحك، بتدجين مؤسسات الدولة بالمحسوبية والحزبية ، لاسيما المؤسسات العسكرية والأمنية ومؤسسات الخدمة المدنية والسلطة القضائية، وحوّل دولة الرعاية التي انقض عليها بليل في ١٩٨٩م إلى دولة جباية. ومازال أنصاره يسعون بكل ما أوتوا من قوة لإستكمال منهجهم التدميري عبر حرب كارثية شعارها (يا تسليم كامل أو تدمير شامل) مهما كانت الكلفة، دون أية كوابح أخلاقية للوصول لأهدافهم حتى وإن أدى ذلك للوصول لمرحلة التقطيع من أجل التركيع.
من المهم النظر النظر لأزمة البلاد بأبعادها المختلفة والتعامل معها بمسؤولية، لأن الداء الذي ألم بالبلاد يتطلب نظرة شاملة ورؤية وطنية جديدة وعقد اجتماعي جديد يستوعب متطلبات المرحلة ويخاطب جذورها ويتجاوز كل تجارب الماضي الفاشلة لبناء مشروع وطني جديد لسودان المستقبل المنشود.
إن الموقف الراشد هو الحياد الإيجابي من هذه الحرب لأنه :
يوفر فرصة للضغط علي الأطراف المتقاتلة ويمثل الصوت المدني الراشد في مواجهة الخيارات العدمية لحرب سماها أصحابها بالعبثية، وهو الأقدر على إفشال محاولات تمزيق البلاد عبر المشروع الشمولي الساعي لإعادة عجلة الدوران إلى الوراء.
ويخلق التوازن المطلوب في المعادلة السياسية في البلاد، لأن الاصطفاف يجعل من الحلول السلمية أمراً مستعصياً، ويزيد من حدة الإستقطاب السياسي والمجتمعي ويوفر غطاءًا للخيارات العدمية التي لا جدوى منها قياساً مع النتائج الماثلة أمامنا بعد عام ونصف من الحرب، وكذلك التجارب التاريخية لحروب السودان السابقة التي تؤكد أن الحسم العسكري لم يتحقق في ظروف السودان سيما الحرب في جنوب السودان، دارفور، جنوب كردفان والنيل الأزرق، والتي تسببت في تصاعد الأزمة بصورة أكبر. ولذا فإن واجب الدين والوطن والأخلاق يؤكد ضرورة رفض الحرب والإصطفاف في صف السلام ودعم خيار الحياد الإيجابي الرافض للحرب والساعي لإيقافها عبر الحل السياسي السلمي التفاوضي.
وأنه كذلك يلتزم بشعارات الثورة الداعية للسلمية ورفض العنف والتطرف وتحقيق العدالة والمساواة والحرية والسلام الشامل والتحول الديمقراطي الكامل.
وفي ذات السياق فإن الاتهامات الموجهة للقوى المدنية الرافضة للحرب وعلى رأسها “تقدم” ودمغها بالانحياز للدعم السريع هي عبارة عن سردية من حلقات مسلسل التجريم ضمن سيناريو إستهداف ثورة ديسمبر المجيدة الذي أعده أنصار النظام البائد، لتجريم داعمي الثورة والمتمسكين بأهدافها. وهي سردية قديمة متجددة ابتدعها النظام البائد ضد القوى السياسية منذ بواكير الإنقاذ وجعل منها مبرراً لتصفية المناضلين ومحاكمتهم وتشويه صورتهم أمام الشعب السوداني. وقد أعاد إنتاجها منذ بداية الفترة الإنتقالية ضمن حملة عرقلة الإنتقال الديمقراطي والإستعداد للانقضاض على الثورة عبر الانقلاب العسكري ثم إشعال الحرب بعد فشل الانقلاب.
معلوم بالضرورة أن “تقدم” مشروع مدني يهدف لوقف الحرب وخطوة لبناء كتلة مدنية صلبة وهي تجربة بشرية غير مبرأة وعليها مآخذ تتطلب معالجتها، وهي جوانب مفهومة في سياق بناء تحالف كبير يضم مكونات عدة ذات رؤى ومنطلقات سياسية متباينة، وهذا يلقي عليها مسؤولية أكبر تستدعي تطوير تجربتها بإصلاحات تفضي لتوسعتها لبلورة مشروع وطني شامل ، ولاشك أنها مرت بتحديات عديدة وبذلت فيه جهود مضنية لمنع اندلاع الحرب اولاً وفي احتوائها ثانياً.
ولكن هذه التحديات بصورة عامة تتمثل في:
١. أن التيار المدني الرافض للحرب لم يستطع حتي الآن من توحيد قواه تحت مظلة واسعة برؤية موحدة، والوصول لعملية سياسية مملوكة للسودانيين، ومحاصرة دعاة الحرب الذين يستمرون في تأجيج الصراع عبر خطابات الكراهية والعنصرية والتوحش والدعاية السالبة.
٢. حالة التباعد بين القوى المدنية والتباين في الآليات وعدم التعامل مع خطورة المرحلة ساهم في تعذر نجاح جهود إنهاء الحرب عبر الحلول السلمية. وعلي القوي السياسية والمدنية أن تتجاوز خلافاتها وتوحيد صفوفها وتسارع الخطى لإجراء حوار وطني بمشاركة واسعة لكل الفاعلين في المشهد السياسي من القوى السياسية والمدنية والمجتمعية الرافضة للحرب والداعمة للسلام والتحول الديمقراطي وبناء أوسع منصة وطنية للقوى المدنية للضغط لإنهاء الحرب وإنقاذ ما تبقى من الوطن وإغاثة مواطنيه المكلومين.
إن دور المجتمع الإقليمي والدولي مطلوب للضغط والتوسط بين طرفي الحرب، وتبني منبر تفاوضي قادر على وقف إطلاق النار، وتسهيل انسياب المساعدات الإنسانية، ودعم الانتقال المدني الديمقراطي ، ودعم مشاريع إعادة إعمار ما دمرته الحرب.
ولكن التعويل الأكبر في إيجاد حل للأزمة الوطنية يقع علي عاتق السودانيين ، كما أن التدخلات الإقليمية والدولية السالبة في الشأن السودان مرفوضة مع قناعتنا أن أزمة السودان لها أبعاد دولية وإقليمية متشابكة تستوجب التعامل معها بحذر والنظر إليها بموضوعية، بما لا يتعارض مع السيادة الوطنية ،فالدور الاقليمي والدولي المطلوب يجب أن يكون داعماً للشعب السوداني، وضامناً لاستدامة السلام والتحول الديمقراطي في ظل علاقات متوازنة وفق المصالح الوطنية.
ومما لاشك فيه أن القوى السياسية والمدنية عليها مسؤولية تاريخية ودورها مهم في هذه المرحلة لإيجاد المخرج الآمن لأزمة الوطن عبر حوار جامع في مائدة مستديرة للتوافق على مشروع وطني شامل يضع حلول واقعية لجزور أزمات البلاد التاريخية ويؤسس لمرحلة جديدة يتم فيها بناء سودان معافى من عذابات الحروب ومآسي الماضي سودان يسع الجميع ، ونابذ لخطابات التقسيم والكراهية والعنصرية والتحريض وتسود فيه قيم العدالة والمساواة والحرية والسلام والديمقراطية.
فالخطوات المطلوبة للخروج من نفق الحرب ومآلاتها تتطلب:
التوافق على منصة وطنية واسعة لإنهاء الحرب بين القوى السياسية والحركات المسلحة والقوى المجتمعية المناهضة للحرب والداعمة لتحقيق السلام والتحول الديمقراطي والإصلاح المؤسسي.
عقد مؤتمر المائدة المستديرة بعد التحضير الجيد وبمشاركة القوى السياسية والمدنية والحركات المسلحة الرافضة للحرب والداعمة لخيار السلام.
مخاطبة أطراف الحرب بموقف مدني موحد وحثهم على ضرورة العودة لطاولة التفاوض لإيقاف الحرب وحماية المدنيين ورفع المعاناة عن المواطنين عبر تسهيل الجهود الإنسانية وضمان وصول المساعدات الإنسانية للمتأثرين من الحرب واستكمال مسار جدة والالتزام بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في مايو ٢٠٢٣م.
مخاطبة المجتمع الإقليمي والدولي برؤية واضحة حول الدور المطلوب منه لوقف الحرب ومطالب الشعب السوداني ومحاصرة تدفق السلاح وزيادة المساهمة في معالجة الوضع الإنساني وضمان تحقيق السلام وحماية المدنيين ودعم الانتقال الديمقراطي وإعمار ما دمرته الحرب في مرحلةالسلام .
مهما كان النفق مظلما فإن في آخره ضوء وفي وسطه أمل، يرجي أن يتحقق بعزيمة صادقة ورؤية ثاقبة وإرادة قوية وتسامي فوق الجراح من الجميع.
قال تعالي : ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِیُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡمࣲ وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ﴾ [هود ١١٧] صدق الله العظيم
١٤ نوفمبر ٢٠٢٤م
…
المصدر: صحيفة التغيير