أبو عبد الله السفير التمكروتي.. رجل الدولة وصوت الحكمة في بلاط السعديين
في قلب وادي درعة الخصيب، وبين أحضان زاوية تمكروت الإريزية الجزولية وسط فزواطة التي اتخذت من المعرفة والإيمان قنديلاً ينير دروب الباحثين عن الحكمة، ولد “أبو عبد الله محمد بن ابي الحسن علي بن محمد بن احمد بن علي بن يحيى بن يعزى ويهدى”، سفير القلم والدبلوماسية. لم يُعرف تاريخ ميلاده بدقة، وكأن القدر أراد أن يجعل من حياته فصلاً مفتوحاً على التأمل والبحث. لكنه، بلا شك، كان ابن زمانه، رجل الفكر الذي صاغته الزاوية العريقة والبيداء الممتدة في فضاء درعة، حيث تناغمت قساوة الطبيعة مع عمق الإيمان.
رحلة بين العلم والسياسة
نشأ أبو عبد الله في بيت علم، فكان والده المرشد الأول في طريقه إلى المعرفة. شرب من معين العلوم الشرعية والفكر الصوفي حتى ارتوى، ووقف شامخاً في صدارة التدريس، يتهافت طلاب العلم على مجلسه من شتى الأصقاع. لم يقف طموحه عند حدود وادي درعة، بل حمله شغفه شرقاً إلى بلاد الحجاز لأداء مناسك الحج، وهناك التقى نخبة من علماء العصر، أمثال نجم الدين الغيطي ومحمد العلقمي، وحصل منهما على إجازات علمية أضفت على مكانته العلمية بُعداً عالمياً.
لكن، أبا عبد الله لم يكن مجرد عالم منزوٍ في الزوايا، بل كان رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. رأى فيه السعديون، وعلى رأسهم السلطان عبد الله الغالب بالله، الوسيط المثالي بين بلاط مراكش وبلاط القسطنطينية، في زمن كان فيه الصراع محتدماً مع الإمبراطورية العثمانية. وشقيقهسفير المنصور الذهبي فيما بعد، علي بن محمد التمكروتي صاحب كتاب “النفحة المسكية في السفارة التركية”.
صورة لجزء من رسالة السلطان عبد الله الغالب بالله لأبو عبد الله لتوليته السفارة
السفير والدبلوماسي الحاذق
في عام 980 هـ، حين اشتدت الأزمة السياسية بين الدولة السعدية والعثمانيين بعد اغتيال السلطان محمد الشيخ، حمل أبو عبد الله على عاتقه مهمة السفارة إلى السلطان سليم الثاني. اجتاز جبال الأطلس وشعابها وهو يحمل رسالة سلام وحوار، وتمكّن بحنكته السياسية وخطابه الوازن من تهدئة التوتر بين الطرفين. عاد إلى زاويته في تمكروت بعد نجاح المهمة، لكن دوره لم يتوقف هنا.
استدعاه السلطان مجدداً لتربية الأمراء السعديين، وأشرف على تعليم السلطان أحمد المنصور، الذي وصفه في فهرسته بأنه “الفقيه الرحال الصوفي”. علّمه الحديث وفتح أمامه أبواب الحكمة، مما جعله أحد المؤثرين في شخصية السلطان الذي سيصبح فيما بعد “الذهبي”، فاتح السودان ومؤسس الدولة السعدية في أوج مجدها.
زاهد في دهاليز السياسة
رغم أن السياسة كثيراً ما تلوّث الأرواح، ظلّ أبو عبد الله متمسكاً بطهارة الزهد وسمو التصوف. كان يرى السياسة من منظار الحكمة والمصلحة العامة، فكان مكاشفاً للصالحين ومستشرفاً للمستقبل، كما حدث خلال لقائه مع أحد الأولياء في مصر الذي بشّره بأن أحمد المنصور سيكون الخليفة القادم.
لم يكن أبو عبد الله مجرد ناقل للرسائل أو مقرّباً من السلاطين، بل كان صانعاً للتاريخ وشاهداً على منعطفاته الكبرى. خاض غمار الدبلوماسية دون أن يفقد روحه، وظلّ مدافعاً عن العلم والفكر حتى آخر أيام حياته، حين وافته المنية في مدينة فاس عام 988 هـ، تاركاً وراءه إرثاً يجمع بين الفكر الصوفي والحنكة السياسية.
رمز خالد
يبقى أبو عبد الله التمكروتي رمزاً للرجل الذي مزج بين العلم والسياسة، الزهد والحكمة، والدبلوماسية والتصوف. حمل رسالة العلم من زاوية تمكروت إلى بلاط الملوك، وترك بصمته في تاريخ الدولة السعدية، ليصبح اسمه شاهداً على عصر حافل بالتحديات والإنجازات، عصر صنعته عقول نيّرة وأرواح عظيمة كروحه.
قيل عنه
كثيرون هم من ترجموا و تحدثوا عن أبي عبدالله محمد بن محمد بن علي السفير البكري الجزولي التمكروتي ومن بين هؤلاء نسوق ماجاء عنه في معلمة المغرب: “التامكروتي، محمد بن محمد بن علي من افاضل هذه الاسرة التامكروتية ولد ونشأ بزاويةسيدي علي، تربى في كنف والده الذي سهر على تعليمه حتى امتلأ رطابه علما وفقها فتألق نجمه في اصقاع وادي درعة فتصدر للتدريس، فتهافت على مجلسه طلاب العلم من كل حدب وصوب لمعرفته بطرق التدريس وترقية معارف المتعلمين(…) وعلى عادة اهل قطره من اهل الخير والفضل شرق التمكروتي فأدى مناسك الحج ثم تطلع الى الاستزادة من التعلم، فكان يحضر مجالس العلماء من امثال نجم الدين الغيطي ومحمد بن ابي بكر العلقمي وابن فهد وغيرهم فروى عنهم الحديث ولم يعد الى بلاده الا ومعه إجازة عامة من شيخ الشافعية محمد العلقمي بمصر وشيخ المالكية بنفس القطر محمد بن احمد الفيشي .وما هذه الاجازة من هذين الشيخين الجليلين الا اعتراف بحصول ملكة العلم للتامكروتي وتأهله لنقل الحديث رواية وسنداللآخرين”.
المصدر: العمق المغربي